مقتطف حسين البعقوبي - بوووم

على الرصيف الأيمن من الشارع ذي الممرين كان حذائي يقرع حجارة الرصيف بإيقاع غير منتظم ، وبصوت شبه مكتوم ، على الرصيف الأيسر رأيتهم يقفون قرب سيارة الرجل ذي الوجه الغريب الملامح . كان يسند ظهره الى حافة السيارة ، أما الرجل الثاني فقد كان يواجهه باهتمام وكأن ثمة حديثا بينهما لم يكتمل، بينما كان وجود الرجل الثالث شبه مهمل ، مع تقدمي في المسير صرت اقترب من تكوين خط متعامد مع وجودهم المريب ، هذا الخط يضمن لي التواجد في أقرب نقطة يمكن بلوغها دون التورط في مغادرة خط سيري على الرصيف المقابل، لا أعرف ما الذي قاله الرجل الثاني للأول لكني خمنت بأنه أقرب إلى شتيمة هينة من تلك التي يتبادلها الاصدقاء ، فاذا بالأول يضع يده في جيبه من الجهة اليمنى ، خيل لي بأنه سيخرج علبة سكائر أو قطعة حلوى ، لكن جسما معدنيا ظهر في تلك اللحظة فكذب توقعاتي ، كان جسما قبيحا له ذات الملامح التي يرتديها الرجل الأول .. وضع فوهته في صدر الرجل الثاني وأطلق النار ببرود وهدوء غريب ، في حين وضع يده اليسرى خلف ظهر الرجل الثاني ، فكان ان اتسعت حدقتا الرجل المصاب اتساعا لم اشهد مثله في حياتي واستمر في وقفته وهو ينظر الى الرجل الأول غير مصدق لما يحدث ، في تلك اللحظة صرت انا اقف في النقطة التي تتعامد مع وجودهم الصارخ في الجهة المقابلة من الشارع ، واذا بالنقطة تتحول الى مسمار طويل انغرز في قدمي ولم يعد بوسعي التخلص منه ، لم يكن الرجل الثاني قد سقط في تلك اللحظة لكن ملامحه كانت تشي بأنه قد مات الآن تحديدا، وما وقوفه إلا مجرد علامة تعجب . أو أن قبضة الرجل الأول ترفض ان تتركه لأسباب غير مفهومة .. الرجل الثالث لم يغير من زاوية وقوفه التي تقع خلف كتف الرجل الأول ، لكن صوتا ما صدر عنه ، صوتا كان يفترض به ان يخرج من فم الرجل الثاني ، في تلك اللحظة بدا وكأن الرجل الأول قد تذكر وجود الرجل الثالث فاستدار ناحيته نصف استدارة ودون ان يواجهه او ينظر اليه اطلق النار مرة أخرى ، شعرت بأن المسمار بدأ يسخن داخل قدمي ، وعلى الرغم من تواجد بعض المارة واحساسي الكبير بوجودهم إلا أنني شعرت بأن الرجل الأول حين دار بعينيه من اليسار الى اليمين حيث الرجل الثالث – قد مر بعيني ، كما يمر الرادار بأهداف عدة قبل ان يتوقف عند هدفه المرصود ، لم يكن من الصعب عليّ أن أفهم بأن ثمة اطلاقة أخرى يتم تجهيزها من أجلي ، فكل المارة وكل السيارات ، لم تكن تعني شيئا بالنسبة للرجل الأول – باستثنائي – لذا كان رهاني مع المسمار رهان موت او حياة ، ويبدو انه استجاب في آخر جزيئة من الثانية التي لها القول الفصل في امكانية تورطي في الموضوع ، فشعرت براحة كبيرة وأنا أعيد للمسمار صفته الوهمية التي يستحقها فابتعد عني متخاذلا ، لكن الثواني الأخرى ، أي لحظة زوالي عن الخط المتعامد شكلت هذه المرة تكوينات جديدة لجسيمات الخوف المسمارية التي انغرزت هذه المرة في الجانب الأيمن من وجهي ، حيث خيل لي ومع كل خطوة ابتعد فيها عن الخط المتعامد – بأن الرجل الأول قد فرغ للتو من الرجل الثالث ، وهو في سبيله الى ارسال رسالة مصهورة ملتهبة ستصيب قفاي بعد ثانية أو اثنتين ، لكن الثواني توالت وأنا من طرف خفي كنت انظر الى المشهد الجانبي ، دون ان التفت اليه فلم يحدث فيه أي تغير ولم يسقط الرجل الثالث كما كنت اتوقع ، فخمنت ان الرصاصة لم تكن تعنيه بقدر ما كانت تعني نوعا من التحدي للآخرين بعد ان تمت الجريمة الأولى بنجاح وسالت قطرات دم الرجل الثاني لتخضب الرصيف . في تلك الأثناء بدا لي أن الرجل الأول قد ترك للرجل الثاني حرية ان يسقط بطريقة (أفلام الأكشن) ، فانحشر رأسه بين دكة اسمنتية وبين اطار السيارة الواقفة ، وبدا هذه المرة أكثر معقولية في هيئة الموت هذه ، ومع هذا الموت الذي بدا أن الرجل الأول قد اراد له هذا السقوط المعبر ، وهذا التمثل البالغ القسوة لحقيقة أن الموت أمر ممكن الحدوث بل وسهل الحدوث، سمعت عزف قطرات من الدم كانت تسيل بين قدمي الرجل الثالث .. ما أتذكره بعد ذلك انني صرت خارج المشهد برمته ، حين توصلت الى بلوغ نهاية الشارع والدخول في زقاق ضيق أبعدني عن فوهة المسدس الذي كنت أشعر بسخونة فوهته الملتهبة على قفاي .. في بداية الزقاق رأيت وجوها أعرفها ، سألت بعضهم عن الأمر فكانوا يبتسمون في وجهي دون ان يتنازلوا عن صمتهم ، مما زاد من غرابة الموقف ، فلا يعقل انهم لم يروا ما حدث او على اقل تقدير سمعوا صوت الرصاص . لماذا هم يبتسمون هكذا ؟ .. لم يكن الخوف قد زايلني بعد ، في كل لحظة تمر كنت اتوقع ان يغادر الرجل الأول مكانه ذاك كي يلاحقني .. لا أعرف لماذا لم افكر بدلا من ذلك في أنه قد هرب الآن ، أو أنه في سبيله الى الهرب قبل مجيء رجال الشرطة .. ولكن أي شرطة ؟ ألم تمر سيارتهم قبل قليل في الجهة المحاذية لمشهد القتل ذاك ؟ دون أن يكلفوا انفسهم عناء النظر الى الرصيف المدمى ، أو الى القاتل الذي استمر في اشهار سلاحه دون أن يعبأ بهم وبوجودهم ؟ ذلك حدث بالفعل لكن يبدو أنني لم أعد أقوى على استعادة المشاهد التي مرت بي وفقا لتراتبها ، يبدو ان لدي شعورا حادا بأن هناك قصدية ما ،في كل ما يحدث وأن الهدف النهائي منها هو توريطي .. لكن ألم أتورط أنا بعد ؟ وما هذه السلبية التي تطالعني الآن من خلف الوجوه التي أعرف والتي لا أعرف ، يخيل لي أنهم جميعا متورطون بطريقة ما مع الرجل الأول ، بل ربما هناك تضامن غير معلن لم أعد أفهمه مع مشهد الموت هذا أو غيره ، شيئا فشيئا قادتني خطاي الى منزلي ، شعرت وأنا اقرع جرس الباب بأنني موشك على الموت من شدة التعب ، بعدها لم أعد أذكر أي شيء سوى أنني استلقيت على حافة السرير ووضع أحدهم غطاء فوق جسدي بكامله ، فدخلت في ظلام دامس ، وبدأت أسقط وكأن أحدهم قد دفعني الى فوهة بئر سحيق مظلم ، على الرغم من تعبي الشديد واحساسي بأن ذرات جسدي كلها قد بدأت تتباعد بعضها عن بعض ، إلا أنني كنت أترقب بنصف وعي لحظة ارتطامي بالأرض ، ثم غبت عن الوعي قبل ان يتحقق وصولي ، وحين عدت .. أو صحوت ، خرجت ثانية من المنزل ، وسلكت السبيل ذاته ، على الرصيف عينه ، وأنا أتمنى أن يكون ما حدث قبل ذلك مجرد حلم ، كي استيقظ منه وينتهي الأمر ، ومع اقترابي من مكان الجريمة فوجئت بالرجل الأول ما يزال واقفا في مكانه ، بينما الرجل الثاني ملقى كما تركته في المرة الأولى ، عاودني الشعور بالخوف مجددا ، وقبل أن اصل الى الزقاق الجانبي سمعت صوتا ما خلفي ، استدرت ناحية الصوت كالميت ، فرأيته وهو يبتسم لي ، نعم كان هو –الرجل الأول – يصوب نحوي مسدسه ، وبدلا من أن يطلق النار قال : بووم . ثم استغرق بالضحك وهو يكشر عن انياب مخيفة ، خشيت هذه المرة أن انظر في وجوه متكررة لأناس أعرفهم ، لكن خيل لي بأنهم يسخرون مني بالطريقة ذاتها، ومع ابتعادي داخل الزقاق واقترابي من منزلي شعرت بانهم جميعا يقفون على مبعدة مني وهم يقولون : بووم . ويضحكون ، كان لدي اصرار كبير هذه المرة ان اصل الى بيتي وأنا متمالك لقواي ، وحين فتحت زوجتي الباب ودخلت ، جلست فوق أول مقعد صادفني ، ووضعت صدغي بين راحتي ورحت افكر في كل ما حدث ، أيهما حقيقة وأيهما خيال ؟ وما الذي علي أن افعله ، فلم أجد حلا للأمر برمته إلا في أن أبلغ عن الحادث ، فصمتي بدأ يثقل كاهلي .. خاطبتني زوجتي ببضع كلمات ويبدو أنني قد أجبتها بكلمات لم أكن أعنيها فانصرفت ، بعد ذلك اسندت رأسي الى الحائط ، وأنا أحاول اعادة تشكيل الحوادث التي مرت بي ، كان ثمة أمر ما يبدو ناقصا ، قلت في نفسي ربما يكون الشك الذي يساورني حول الأمر برمته هو مكمن النقص ، واذا كان المشهد الأول مجرد حلم فماذا عن المشهد الثاني ؟ بعد قليل سمعت طرقات على الباب ، وقبل ان افتح شاهدته .. من فتحة في أعلى الباب ، فابتعدت بخطوات لم تمس منها الأرض سوى رؤوس أصابعي ، لكن يبدو أن زوجتي كانت تراقبني فلما رأتني أختبئ في الداخل خرجت هي وفتحت الباب دون ان تستمع الى همساتي المحذرة ، لم يعد بإمكاني أن امنع ما سيحدث لذا تحركت باتجاه الباب وأنا اعلم جيدا اننا قد صرنا في عداد الأموات كانت أذناي تترقب في الثواني القليلة القادمة سماع دوي الطلقات بعد ان اصبح الممر المؤدي الى الباب طويلا جدا .. لكن هذا لم يحدث ، بل سمعت بدلا منها صوت رجل يتحدث عن مقياس الماء وضرورة اصلاحه ، اقتربت منهما ، فرأيت رجلا يحمل سجلا من تلك السجلات التي يحملها عادة محصلو أجور الماء أو الكهرباء ، كان في ملامحه ما يدل على انه يشبه الرجل الأول ، لكنه لم يكن هو ، لذا استلمت زمام المبادرة ورحت اتحدث معه ، بينما ابتعدت زوجتي الى الداخل ، وراح هو يدون بعض الملاحظات في السجل ، ثم شكرني وانصرف ، لكن وقبل أن اقفل الباب وراءه ، استدار ناحيتي وهو على مبعدة خطوات ، وقال وهو يكشر عن اسنان مدببة : بووم . ثم غاب عن ناظري وهو يقهقه . شعرت برغبة كبيرة في أن الحق به وأن اوسعه ضربا ، لكن خشيت أن يكون المسدس ما يزال معه .

في الأيام التالية كان المشهد يتكرر بأشكال وأوقات متباينة ، والناس يضحكون مني باستمرار ، فيما أعدادهم تتناقص يوما بعد آخر وصدى ضحكاتهم يتحول حين ابتعد عنه الى ما يشبه الثغاء او الخوار، لم أعد أقوى على الصمت . في داخلي كان إحساس بالمسؤولية يتنامى ، لم أعد اشعر بالخوف ذاته ، أو ربما صار الخوف أمرا معتادا بالنسبة لطريقتي في العيش ، أيضا لم أعد أشعر بالفزع من هذا الجنون الذي يحيط بي في شكل أجساد تطلق النار وأجساد تسقط وأجساد غير مهتمة ، ومثل الرجل قارئ المقاييس شاهدت في الأيام التي تتالت بعد ذلك أناسا آخرين يشبهون الرجل الأول وهم يأتون بهيئات مختلفة ، أو أصادفهم انا في أماكن مختلفة وغالبا ما أسمع كلمة (بووم) ، في نهاية اللقاء تتبعها ضحكات او قهقهات منفرة . والمدينة تتحول يوما بعد آخر الى مدينة اشباح فالناس تتناقص اعدادهم والرجل الأول يبدو كأنه قد استنسخ عشرات المرات وصار يظهر لي حتى في وجوه الأطفال الذين لا يتجاوزون الخامسة عشرة من العمر وترددت الكثير من القصص عن طفل يرتدي قبعة ويقتل الناس بدم بارد فيختفي الكبار وتقفل الأسواق ابوابها.


أخيرا وبعد أن مللت من تكرار تلك المشاهد ومن الجنون الذي بدأ يتفاقم توجهت الى مبنى محاط بالكتل الكونكريتية التي لم تكتف بالحدود المرسومة للمبنى بل تجاوزته لتستحوذ على النصف الأيمن من الطريق المخصص لمرور السيارات .. كانت هناك عوارض ومطبات واكياس رمل توحي بأن هذا المبنى اشبه بقلعة حصينة لا تنتمي الى ما يحيط بها من شوارع وبيوت . بعد ساعات من الأسئلة المتكررة والتفتيش الدقيق سمح لي ان ارتقي سلما حيث استقبلني هناك الرجل الذي اطلق عليه احد الاشخاص الذين قاموا بتفتيشي وبلهجة فيها الكثير من التفخيم والتعظيم اسم (السيد المسؤول) وأخيرا حين التقيت هذا السيد استمع الى حكايتي ببرود ظاهر ، وبدا من عباراته المقتضبة ومن نظراته المستهزئة .. انه لم يقتنع بأقوالي ، وحين الححت عليه .. طالبني بأدلة وبراهين واثباتات تؤيد ان ما اقوله هو حقيقة واقعة وليس قصصا من خيال رجل مريض بالوهم .. فقلت له ولكن هذه الاحداث لم اشهدها انا وحدي بل كل سكان المدينة .. فقال ان احدا منهم لم يتقدم بأي بلاغ حول هذا الموضوع . لم اعرف بماذا اجيب على اجوبته التي اشعرتني بالذنب وجعلتني اشك بأن كل ما كنت اراه خارج تلك القلعة مجرد وهم .. وحين رأى المسؤول مدى ارتباكي وقلة حيلتي ابتسم بطريقة غريبة .. وحاول ان يبدي بعض التعاطف معي مؤكدا لي انه سيتابع الموضوع بشكل مباشر ثم طلب مني أن أغادر باسلوب مهذب لكنه مغلف بوعيد خفي . وحين خرجت من باب غرفته نادى عليّ .

- هيه .. أنت ..

التفت اليه فقال

- بوووووووووووم

واستغرق بالضحك .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى