محمد نوري جواد - حـيـث..

(حيث): كلمة تدل على المكان؛ لأنه ظرف في الأمكنة بمنزلة (حين) فى الأزمنة, وهو اسم مبني, وإنما حرك آخره لالتقاء الساكنين, فمن العرب من يبنيها على الضم تشبيها بالغايات؛ لأنها لم تأتِ إلا مضافة إلى جملة كقولك: أقوم حيثُ يقوم زيدٌ, وحيثُ تكون أكون, ومنهم من يبنيها على الفتح مثل أيْن, وكيْفَ , وليْتَ استثقالا للضم مع الياء, والكسائيّ حكى كسرَها, وحكي أنّ فيها تسع لغات, والضم هي اللغة الفاشية، قال تعالى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ), قال الأصمعي : (ومما تخطئ فيه العامة والخاصة باب (حين) و(حيث) غلط فيه العلماء مثل أبي عبيدة وسيبويه), وقال أبو حاتم : (رأيت فى كتاب سيبويه أشياء كثيرة يجعل حين حيث وكذلك في كتاب أبي عبيدة بخطه, وقال: واعلم أن حين وحيث ظرفان فحين ظرف من الزمان وحيث ظرف من المكان ولكل واحد منهما حد لا يجاوزه , والأكثر من الناس جعلوهما معا), والصواب أن تقول : رأيتك حيث كنت, أي : في الموضع الذي كنت فيه , واذهب حيث شئت , أي: إلى أيّ موضع شئت , قال الله عز وجل ( فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أي : فكلا من أيّ موضع شئتما , وقال : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يعلمون), واعتقد الأخفش أن (حيث) تستعمل في الزمان, وأنشد: لِلْفِتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ... حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُه. فقيل : حين تهدي, وقيل : لا دليل فيه، وإنها على بابها.
تضاف (حيث) إلى الجملة الاسمية نحو: اجلس حيث زيد جالس، وإلى الجملة الفعلية نحو: اجلس حيث جلس زيد، وشَرطهَا أَن تكون خبرية اسمية أَو فعلية مثبتة مصدرة بماض أَو مضارع مثبتين أَو منفيين بـ(لم) أَو (لا), وقد شذت إضافتها إلى المفرد كقول الشاعر : أَمَا تَرَى حَيْثُ سُهَيْلٍ طَالِعَاً... نَجْمَاً يُضِيءُ كَالشِّهَابِ لَامِعَا, وهذا هو مذهب جمهور النحاة، ومن النادر عندهم إضافتها إلى المفرد, وأجاز الكسائيّ الإضافة إلى المفرد قياسا على ما سمع من إضافتها إليه, ووافقه على ذلك مجمع اللغة المصري في دورته التاسعة والأربعين استنادًا إلى إجازة كثير من النحاة ذلك ، وقياسًا على أخواتها من الظروف المكانية. وأكثر ما تضاف (حيث) إلى الجملة الفعلية, وسألني أحد الأصدقاء هل يجوز أن نقول: حيث جاء؟, فقلت له: نعم, وتستطيع القول : عاد من حيث جاء, قال تعالى (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) وفي حرف ابن مسعود أين أتى, فوضع مكان حيث أين, وأين تستعمل للمكان, وعرفت أنهم يتخوفون من استعمال (حيث) في الزمان, وقد ورد استعمالها قليلا فيه, والأفضل استعمال (حين) في الزمان, فإذا قلت: رأيته حيث غربت الشمس, فإن جملة (غربت الشمس) فعلية, وجاز إضافتها إلى (حيث), لكنها تشعر بالزمان, والمعنى : رأيته في الوقت الذي غربت الشمس فيه؛ لذا كان الأفضل استعمال كلمة (حين) في هذا الموضع فتقول: رأيته حين غربت الشمس, واستعمل (حيث) إذا كان التقدير عندك : في المكان الذي, ولا تجزم بـ(حيث) إلا إذا اتصلت بها (ما) الزائدة, وقل: حيث تذهبون تجدون عملا, وحيثما تذهبوا تجدوا عملا.



د. محمد نوري جواد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى