محمد علوان جبر - ملاذات طالب العجيبـة..

فيما كانت الالوان والاصوات تتصاعد من شاشة التلفزيون، لم يكن يحدق في شيء محدد، جلس في زاوية الغرفة والدخان يتصاعد من خصلات شعره الرصاصية التي طالت قمة رأسة بتكورات غطت جزءا من جبهته العريضة، ربما رأيت دخانا يخرج من عينيه وهو يبكي، لم يجرؤ احد على مقاطعة بكائه، كان جسده يهتز وهو يطلق اشياء تتكوم في صدره، وكذلك لم اجرؤ على فتح أي حديث معه سوى ذلك التواصل الذي يقيمه من يشترك مع الاخر في محنة، لكني بقيت اردد في سري ..
ــ أي محنة يعيشها طالب، الذي يسميه البعض ( طالب ابو القلاقيل) التسمية التي تثيره ويتقبلها بصمت فيه غضب مكتوم، فهو يعد الاشياء التي يجمعها من اول الصباح وحتى اخر المساء ليست بقلاقيل .....
ــ انها ثروة حقيقية، انها قطع من الحديد الثمين الذي لايعرف اهميتها غيري....
يردد هذه اللازمة كلما يسمع كلمة قلاقيل. منذ الفجر ينغمر في الاماكن التي تلقى فيها النفايات، ويعود مساء ويدخل بصعوبة الى البيت الذي لم يترك فيه زاوية او غرفة او ممرا او مخزن لم يملآها بقطع الحديد المختلفة التي يجلبها من مزابل المدينة فجرا .. بل في الساعات التي تسبق الفجر حيث يخرج دراجته الهوائية بعد ان يربط اكياس البلاستك الملونة على المقعد الذي خلفه،ينطلق مخترقا السكون والظلمة، وهو يطلق من فمه لحنا لايعرف من اين أتى ....كما كان يقول لي.
ــ لااعرف من اين تأتي الالحان ؟ حينما أعتلى الدراجة الهوائية وأخترق الأزقة فجرا... والتي تستعصي علي حينما اكون في غرفتي، فهي لاتأتي إطلاقا .. ليس كما تأتي بسهولة ويسر وأنا أعتلي الدراجة
لاينجر معها بالحماسة نفسها التي يعيشها فجرا .. وإذا أطلقها في مكان أخر، يحسها تشبه النعيق، أما فجرا يتحول اللحن نفسه إلى سحريديم القوة في ساقيه وهما تديران دواسة السرعة في الدراجة الهوائية التي لم يستطع أحد أن يحدد لها عمرا ولا شكلا، فهو يديمها واضعا آلة اللحيم عليها رابطا إليها مايدعمها ويجعلها صلبة كالفولاذ والحديد الذي يعرفه جيدا، لم يكن الأمر كذلك ..
ــ مذ ماتت أم مشتاق أحسست أن ثمة شرخا كبيرا...
يردد هذه اللازمة باستمرار بمناسبة وبغير مناسبة رغم علمه اننا نعلم أن أم مشتاق لم تمت، بل أخذت مشتاق في يوم ممطر، تصاعد فيه البرق واشتدت فيه الريح، وأختفت، من يومها لم يعرف أحد عنها شيئا ما، بقي هو يدور في الساحات، بعد ان زار كل أقاربها بدءا من بيت شقيقها الذي هدده وهو يصرخ فيه .....
ــ إبني ... أعطوني إبني وأذهبوا إلى الجحيم ......
كل نساء الحي يدركن المرارة التي كان يذيقها إلى أم مشتاق كل يوم، خاصة بعد ان لفظته الحرب بأجهزة عاطلة تماما، بدءا من أذنيه اللتين أصمهما الإنفجارالقريب الذي قطع أوصال من كانوا قريبين منه وصولا الى كل اعضاء جسده، بما فيها اجهزة ذكورته، كان يعيش ايامها لوثة هذياناته القوية التي عرفنا منها مافيه، اذ كان يجهر بصوته القوي انه عاطل
ــ كل مافي روحي وجسدي عاطل ...
كان ايامها هائجا غاضبا لايعرف ولايملك وسيلة غير الصراخ في وجه من يسأله، كنا نعرف تفاصيل حياته بشكل دقيق، وندرك مايحمله من انكسار وهو يصرخ بما يشبه العواء الذي يعتذر عنه فيما بعد، نعلم انه بعد ان اصيب اصابة مميته نجا منها باعجوبة، ومرورا بمحنة عدم تمكنه من كبح غضبه الذي كان يتصاعد واطلاقه زعيقا مخيفا، تطور الى الحد الذي كان يمسك فيه قطعة حديد بيده ويرفعها بقوة وهو يهم بضرب ابنه مشتاق، والى الحد الذي انقذته امه حينما قرب ألة اللحيم المحمرة الى وجه ابنه وحينما حاولت منعه، وضع الحديد المحمر في لحم ذراعها البض، حينها لم ينقذها الا صراخها العالي الذي حاول ان يكتمه بقبضته المتسخة بالحديد والسخام دون ان يفلح، اذ هرع الجيران النساء والرجال وسحبوا المرأة المحترقة الذراع هي وابنها، ومن يومها بدأ الصراع يشتد بينهما، هي وخوفها المشروع وهو بصمته ونظراته الغاضبة، ولم يزيل التوتر الا ذلك الخروج اليومي فجرا وهو ينبش اكوام القمامة بحثا عن شيء لم يجده، فاستعاض عنه بقطع الحديد الصغيرة والكبيرة التي كان يكدسها في البيت، بدأ الامر حينما خصص مساحة للحديد على السطح، قريبا من ألة اللحيم التي رافقته، مذ كان عسكريا يعمل على تصليح السيارات والتي اعانته في تمشية اموره بعد احالته على التقاعد لاسباب صحية، حينما يكلف في اصلاح الابواب والشبابيك، كان يمضي اغلب نهاره في صف قطع الحديد التي يشدها جيدا على بدن الدراجة، وفي طريق عودته، لم يكن يسمع او يرى نظرات السخرية وكلمات التهكم التي كان يطلقها اطفال الحي وصولا الى الرجال الكبار الذين يكتفون بهز رؤوسهم وهم يتذكرون صورة طالب قبل ان تأخذه الحرب منهم .
يحدثني عن تذمره من ابناء الحي " انا اعرف انهم يكرهوني واني لااطيق الجلوس امام وجوههم " .. فيما بعد سلك طالب طريقا اخر، اذ تغير سلوكه كثيرا، فعدا ملبسه الرث الذي استبدله بملابس نظيفة، وقام يكثر من الجلوس في مقهى الزقاق القريبة من بيته، لكنه واظب على الخروج صباحا، يعتلي دراجته، ويخرج متجها نحو المزابل واماكن تجميع القمامة، يدور عليها، ويقف قرب بعضها، وهو يدقق فيها بنظرة المتأمل، لكنه يعود دون ان يجلب قطعة خردة واحدة، يركن دراجته في ماتبقى من البيت بعد ان اكلت النار كل شيء فيه، النار التي تجعله يتساءل عمن اشعلها في البيت، ولايستبعد اخوة ام مشتاق، حرص ان يبدأ حال وصوله بنقل ماأحترق بعربة صغيرة يدفعها، ولم يطلب مساعدة من أحد رغم اننا عرضنا عليه ذلك، يرفض ذلك بشدة ويواصل حمل مايتساقط على الارض اثناء دفعه العربة الخشبية المدعمة بالكثير من الالواح الحديدية، يعمل بصمت عجيب، حتى اليوم الذي عاد فيه فجرا وهو يصطحب أمرأة معه، وقبل ان يسأله احد، قال انها زوجتي، لدي أعمام في الريف زوجوني إياها، لم نصدق، لأن النسوة اللواتي حاولن أن يزرنها في الغرفة الوحيدة التي بقيت سالمة من الحريق، خرجن بانطباع غريب في وصف شكلها، اذ تبدو كأنها احدى المتسولات، هكذا كان شكلها ووضعها في الايام الاولى من دخولها الدار المحترقة وقبولها ان تسكن في غرفة مكشوفة على الشارع، غرفة بلا نافذة وخالية من أيٌ أثاث عدا الفراش الرث الذي رأينه في الغرفة، رغم الغضب الذي كان يعتريه حينما يرى احداهن تقترب من بيته، فشمر عن ساعديه وأصلح الكثير من أجزاء البيت بما فيها السياج الخارجي الذي وضع فيه بابا عاليا، لم نسمع من المرأة صوتا، او نراها او تكلمها النسوة، اذ كان يحكم إغلاق الباب حينما يخرج فجرا، يعود وهو يتجنب النظر الى وجه أحد من الزقاق، يعود حاملا كيسا شفافا تتضح من خلاله لفات الفلافل والصمون والبصل، يدخل البيت ويبدأ من فوره العمل وحيدا، يحمل الطابوق حينا ويحمل السمنت حينا أخر، هكذا وببطء هائل أكمل بناء السياج الخارجي ووضع الباب، حالما أنتهى، بدأت رحلة غموض كبيرة في حياته، يغلق الباب ويبدأ العمل داخل البيت، حتى اليوم الذي كنا نسمع فيه صراخا أتيا من بيت طالب، وحالما نقترب، يهدأ الصراخ، ونسمع بدله ضحكات وبكاء ... أنين متواصل طوال الليل، يتكرر الأمر لمرات في الليلة الواحدة، ولأن الأمر يسبب الكثير من القلق للجميع، اتفقنا على ان نتحدث معه، تنصل الجميع من ذلك، الا أنا، لاني كنت على علاقة حميمية معه، اتفقنا على أن أتحدث معه حالما يعود من جولته الصباحية التي يكتنفها الغموض ايضا وقبل ان اذهب اليه حدث أمر سهل من مهمتي، سمعنا اصطفاق البوابة الحديدية الكبيرة ثم رأينا طالب يركض خلف كتلة من السواد، الكتلة التي تشكلت فيما بعد على هيئة جسد بشري بيد مرفوعة للاعلى، كانت المرأة المرعوبة لاتعلم كيف يمكن لها ان تتخلص من الصوت الضاج وهي تسمع وقع الاقدام الضخمة التي كانت تضرب الاسفلت بقوة، حتى اللحظة التي استطاعت فيها ان تتخلص من الكف العملاقة التي كادت تمسك بها، قبل سقوط الكف العملاقة مرة اخرى على ظهرها، دخلت بابا مشرعا وجدته امامها، وحالما دخلت اغلق الباب واولج فيه مزلاج، وقف طالب مشدوها لايعرف ماذا يفعل، فبدأ يضرب الباب وصراخه كان يصل الى أخر الزقاق، ومن ثم حل صمت، لم يقطعه إلا نشيجه المتواصل، ولم يرفع عينيه حتى اللحظة التي امسكت فيها كتفه انتبه لي، ومسح وجهه بمنديل متسخ، ونهض معي، امسكته من يده بمودة كبيرة ودرنا حول الزقاق، ولاني كنت ادرك توتره وغضبه وحزنه، بقيت صامتا وكاد كتفانا يتلامسان، ابتعدنا كثيرا عن الزقاق، ودخلنا مقهى، طلب شايا ورفض السيكارة التي قدمتها اليه، اخرج علبة سكائر من جيبه وبدأ يدخن وعيناه معلقتان في السقف، لم اكلمه، لكني طلبت لنا شايا اخر،
ــ هل تصدق ... انا غير مصدق .. ان ماحدث كان حقيقيا..
سألته لأفهم مايريد ان يقول ...
ــ مالذي اصدقه او لااصدقه ...؟
قاطعني بحدة، كأنه لم يسمع سؤالي
ــ انا غير مصدق ان الأمر كان حقيقيا .. ربما انا في حلم من احلامي
ولم اعد عليه السؤال .. لكنه واصل ..
صمت .. ثم سألته .. وبعد
ــ انا لم احب احد من هذا الحي كله الا انت،، هربت الملعونة، رغم اني طوال الليل اروي لها ماعشته يوما يوما، مذ كنت طفلا، بلا أب او أم، لو تركوني اموت حينما اصبت، لكان الامر افضل بكثير، لقد هربت هي الاخرى، وقبلها أم مشتاق .. وابني مشتاق، رأيت دمعا غزيرا ينساب على السحنة المحفورة بغبار اعوامه التي قاربت الستين، ثم اردف بعد فترة الصمت، توقعت ان تأتي بعد ان تبدأ بصراخها وعوائي طوال الليل توقعت أن تأتي قبل أن تهرب الملعونة، دعك من هؤلاء الذين هم عبارة عن مجموعة من المجانين، سألته عنها، فاجابني بالنبرة نفسها، وجدتها تلوذ بجدار قريب من المزبلة، بينما اقف يوميا اتأمل قطع الحديد العزيزة على قلبي، حتى رأيتها، خافت اول الامر لكنها دققت في ملامحي، ربما كانت تعرفني، فكلانا مشردان في تلك الصباحات، اشفقت عليها وجلبتها الى البيت، وعملت مارأيته من اجلها، قلت لها نتزوج، ولكني عاطل، ضحكت اول الامر، وافقت وهي تضحك، قلت لها هذا بيتك، ابقي فيه وأياك من معاشرة نساء الزقاق، لكنها كانت تعصي مااقوله لها واراها لمرات مع نسوة وهي تحدثهن عن رجل عاطل، اقول لك انها تعلم أنا لاأكره شيأ في العالم اكثر من السرير في الليل .. لكنها كانت تضطهدني وتدعوني الى السرير صباحا بعد أن اجلب لها فطورها، وكنا سعداء، لولا اللحظة التي تطلبت فيها مني ان ادخل معها الفراش الذي تعده ...اقول لها دائما... انا عاطل .. وكان هذا شرطي معها.. انا اخاف السرير
ــ لماذا ياطالب ..؟
ــ حينما اضع رأسي على الوسادة، تمتد يدي بلا وعي مني نحو ذكورتي، وحينما لاأجدها تنتابني رعشة، وأبدأ أتأوه وانا ألامس فراغا هائلا في جسدي، وابقى اتقلب على الفراش، حتى اللحظة التي ينبهني فيها ديك غريب، اذ يصيح، وأميز صياحه من بين جوقة الديكة، لايترك شروقا دون صياح خاص اعرفه، صياح لذيذ وحاد وحينما اسمع الصوت، أغادر سريري متجها نحو الدراجة لاتواصل مع الصباح الذي يتدفق امامي بهدوء
ــ ومتى تنام ...؟
ــ لاأنام إطلاقا، ربما اسقط على جدار وانا اغوص في غفوة قصيرة
واصل وهو يكاد ينتحب ...
ــ ابقى حائرا .. خائفا ومتوترا .. ربما اتخلص منهاواصرخ بصوت يشبه العواء .. وتجيبني بصوت اعلى .. لكني كنت افكر فيمن يسمع صياحنا طوال الليل فأستسلم
ــ ماذا تفعل ..؟
ــ استسلم تماما لها .... فهي تعرف أمر ذكورتي التي استلبتها الحرب، وتعرف مايجري، وبماذا اشعر حينما يلامس شيء مكان ذكورتي الذي خضع لعشرات الوخزات،
فتحول الى مايشبه الارض التي يغادر ترابها الماء الذي حفر فيها انفاقا بلا شكل .. زوايا واخاديد، ربما تشبه الوديان، اقول رغم معرفتها بأن جسدي سيبدأ بالارتعاش منتظرا صديقي الديك .. بقيت حائرا، لاأعرف ماذا افعل، لكني وبناء على الحاحها أدخل معها الفراش، .. تريد ان نكرر الامر ..وأدفع أنا ثمن نزوتها التي كنت فضلا عن تحسري على أيام موغلة في أعماق ذاكرتي، اواصل ارتجافي وتقلبي حتى الصباح الذي يتواصل مع ليل مفجع .. شرحت لها هذا وأنا أكاد اتوارى امام نظراتها المحتجة، قبل أن تصرخ في وجهي فيما بعد ( انها اذن ستغادر ) قالتها لمرات ومرات حتى اليوم الذي استطاعت فيه ان تفتح الباب فيما أنا مشغول بأغفائة سرعان ماشرخها صوت الباب وهو يفتح ...
وقبل ان ننهض من المقهى، لمحت من جديد دخانا يتصاعد من عيني طالب، وكان لون الرماد يتداخل مع وجهه وشعره الكثيف، حقا كان الدخان الذي يخرج من رأس طالب، ذا رائحة حادة تركت ثقلا كبيرا وغصة ذات صوت يشبه صوت اصطفاق البوابة الحديدية بعد ان ودعته امام البيت، اغلق الباب بسرعة والدخان يزداد كثافة في وجهه وفروة رأسه، كأنه كان يريد ان يدخل رأسه تحت صنبور الماء .
  • Like
التفاعلات: حسين البعقوبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى