ياسين طه حافظ - ســافو حديث خـاص

لا أعرفك تماما يا سافو، وصورتك تبدو لي بعيدة،
وقد لا تكون صورة سافو الحقيقية. هكذا نحن مع الماضي.
انا الان اقرأ عنك سطورا شابها الغموض.
بيننا مئات السنين واحسك قريبا من نفسي،
احس بصلة بك بالرغم من هذه المئات من السنين.
ذلك فعل الشعر يا سافو.
كل الذي اعلمه انك و"بوذا" ولدتما في زمن واحد
ليست مصادفة هذه، لكنها الحياة العظيمة تبتكر المعجزات.
ايمان وحب يولدان معاً،
عفوا حب وحب، يولدان في زمن الكراهة.
الشعر لا يتخلف يا سافو.
حين كان "الحكماء الاغريق السبعة" ينطقون بحكمتهم،
كنت يا سافو تنشدين اغاني الحب.
ليس ذلك مصادفة،
الحياة تبتكر المعجزات. والشعر صنو الحكمة الابدي.
انا اقرأ ما بقي متناثرا من اشعارك.
تمنيت انك على الارض في زماننا، اعني في زماني وزمانك،
لنتحدث عن الناس والارض
عن الشعر والبراري الصعبة، ثم تعود الى الحب، ربما معتنقين.
يا سافو الجميلة والمبجلة، يا ذكية الاشعار،
كيف تناءيت عن المعارك حواليك؟
أكل العواطف التي مرت ما تركت اثرا على بيت سافو؟
كيف بقيت معافاةً و شِعرك نقي صافي المرايا؟
يالقدرتك، يا للكبرياء المَصون،
تكتبين شعرا غَزِلا وانت ترين الطغاة.
هبيني قوة ازدراء الرداءة،
هبيني... يا سافو حكمة اللامبالاة،
هبيني كيف وانت في وسط الشارع، يظل الشارع بعيدا؟
هبيني معرفة او حكمة، او ملاذا أقي به روحي حتى ينجلي الغبار،
لسنا غريبَين يا سافو!
هل تعرفين متى بدأ حبي لك؟ يوم قرأتُ، يوم سمعتُكِ تنشدين:
"المرج هناك مرعى للخيول
والعطر الحلو تتنفسه اعشاب اليانسون
................
فاعطنا نشرب.."
ما تريدين ان تقولي، هل لننسى؟
هل هو وقت للذة الكبرى، فلنذقْ لذة ً ؟
هل لنلهو عن الاسى بكأس؟
هل تقولين لنعِ المحنةَ، ونفهم المسألة.
هل ما دمنا لا نملك حلا، فليكن قدحا بعده النومُ سكْرا؟
" رافقيه يا ليكزيس الى الوطن
أبعدي عنه العواصفَ الشريرة
احميه على طريق العودة
..................
رحلة طيبة في البحر.."
هل تعلمين يا سافو الجميلة النائية، ان دعاءك لأخيك
نرددهُ اليوم، بعد قرون؟
ومثله نقول لآلهتنا، وهي غير آلهتك؟
انه الشعر يا سافو يخاطب الآلهة بلغة واحدة في جميع العصور.
سافو الجميلة، سافو الحب عاريا كالسماء،
سافو العصور كلها،
أي أغنية غنية موجعة هذه التي تنشدين؟
سوف يتذكرنا، فيما أرى،
بعض الناس في زمن قادم
مجدي انني واحد من ذلك البعض يا سافو!
هل تعلمين ايتها النائبة التي لا تُرى،
يا حبيبة شعري وصنو روحي، انني اجلس الآن وحدي
وانفجارُ شرٍ بين حين وحين يخض عزلتي، وانا غائب معك:
"يبدو لي شبيها بالآلهة
ذلك الرجل الذي يجلس الى جانبك.."
نعم يا سافو، يصير جليسُكِ شبيهاً بالآلهة
ويصير قارئ اشعارك عابداً يموت من الحب في الطريق.
مثل هذا قالته يوماً حبيبتي،
حبيبتي النائية، التي يهلكني البعدُ عنها..
لو اقص عليك حكاية حبي يا سافو:
الهةُ جمالٍ غادرتْ اسطورتَها
ورُدّت البابُ وراءها، فضاعت!
رأيتها في مدينةٍ خرابٍ قرب البحر
غريبةً تضيء
بين الانقاض والنخيل...
خطأٌ ام حكمةٌ، لا ادري
من لمسة يدها
اشتعل بي ظمأٌ لا تطفؤه كل المياه العذبة حولي.
عونَكِِ عونَكِ، سافو
هي تراني أهلك حباً
وأراها في ثوبها الطقوسي
شاحبةً من محبتها،
تنحني على رمضائي مثل ظل بارد
تمسح جبيهتي،
وبعينين محزونتين تهمس:
"الحب
وراء كل ما نرى..."
وتتركني وتغيب.
سافو!
سافو!
لو رأيت حبيبتي في ثوبها الطقوسي الاسود
لقبّلتها،
وكنتما صديقتين!
سافو، ايتها الصديقة القديمة، الجميلة والحزينة،
أفهم قولك المتقن وإشارتك التي تلمع وتختفي.
وافهم تماما ما وراء قولك:
"العرق كالثلج يتصبب علي
واصبح أشد شحوبا من العشب اليابس
وسرعان ما أبدو مثل ميتة".
ذلك نشيد خاص واغنية لابلاغ الزمان بما في الحياة.
ونحن هنا في زمن الظلام في الظهيرة
والموت في الحياة،
نخسر الفرصة والمعنى وتفوتنا التجربة قبل الموت.
اتقدم لذكراك يا سافو، وعلى يدي باقة اشعار تليق بالحب،
تليق بالجمال والفرادة
تليق بسافو التي نحترم وبيننا اكثر من الف عام.
ما جئت لقُبّتكِ خالي اليدين،
لا يليق هذا بربّة جمال وربة شعر لا يفنى.
احمل تمجيدي لنداءاتك ذات المعنى
واحمل باقة اشعاري لكي لا أرى بابك المضيء
موصدا في ديجور العالم.
لكي لا اعود الى القفر الذي جئت منه لائذا بظلالك،
لا اجئ لك عاريا عن المعنى، بلا باقة مزهرة في يدي.
"ولكن يا ربات الجمال،
إذا اقترب احد بلا باقة
فحولْن البصرَ عنه".
لا بد من فراق. هذا هو قدرنا.
هكذا غبتِ وهكذا ارتحلتْ وجوه واسماء،
هكذا هكذا.. هل نستطيع فعل شئ؟
ليس لنا غير ان نحتمل وان نأسى وان نتذكر.
قالت لي: سافو "حقا اني
افارقك بالرغم مني؟"
اجبت اذهبي راضية النفس
وفكري فيّ من حين الى حين...
هكذا تذكرتُكِ اليوم،
ويذكرنا بعض الناس من حين الى حين...!
ولكن ولكن، وانت ترتحلين يا سافو،
اذا رأيت حبيبتي في الطريق
مضيئةً في ثوبها الطقوسي الاسود،
ماذا ستقولين لها؟
ربما ستقفين مندهشةً، وبلهفةٍ اليها ستقولين:
"كل ذاك الحب لم يكن في مكانه،
اين كنتِ غائبةً يا حبيبتي؟"
حزن جديد سيبدأ.
هكذا نعيش في الحياة يا سافو!
يافاتنة الاغريق، يا جميلة الاشعار،
ايتها الحزينة الباسمه
حبيبتي بمثل جمالك ومثلك حزينة تبتسم
قبل ان تستديري لبيتك في الاقاصي،
سؤال في قلبي:
أأحمل كل هذا الحب
وابقى غريباً؟
تذهب حبيبتي الى بيتها
واعود لبيتي، كما الاغراب؟
كم قاسيةٌ هي القوانين
وكم موجعٌ حزن الناس في الحياة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى