حسين علي محمد – أحلام البنت الحلــــوة

الأضواء الخافتة تتلألأ كنجوم أعياها السهر وأضناها، وهناك في مقهى صغير أكثر من شاب حول مائدة صغيرة متسخة يلعبون "الورق" .. وفي الركن صبية صغيرة نائمة. وارتفع صوت عامر الدُّكش:
ـ بنت يا سنية!
ولمّا لم يجد ردًّا على ندائه عاد ينادي بصوته الأجش من جديد:
ـ بنت يا مقصوفة الرّقبة ..
ولكن البنت لم تسمع، فقد دهمها سلطان النوم، وراحت تضطرب في سكراته .. وقامت سنية بعد أن هوى "قلم" على صدغها، قامت تبكي، بينما الرجل الثقيل الظل يطاردها بصوته المُزعج:
ـ روحي يا بنت هاتي صفيحة الجاز بسرعة من البيت!
وغمغمت سنية وهي تقول:
ـ حاضر !!
منذ سنتين وسنية تعيش في هذه النار، نار جهنم، مع المعلم عامر الدُّكش، زوج أمها، البدين، ذي الصوت الأجش، والشارب المفتول الذي يستطيع أن يقف على فردتيه: غُرابان!، وهي لا تدري لماذا يحبه روَّاد "قهوة الناصية"، ولماذا يُطلقون عليه ألقابا لا يستحقها، مثل: "حبيب الكُل"، و"السُّكَّر"، و"الرجل الجدع".وإذا كان كما يقولون فلماذا إذن هو خشن الألفاظ، جاف الطباع مع سنية؟، وسنية بالذات؟
لقد كان أبوها "العسكري سيد" هو "السكر" بحق وحقيق، ولكنه توفي منذ ثلاث سنوات، وهي في الثانية عشرة، وكانت وقتها في الصف السادس الابتدائي .. كانت لا تعرف في المدرسة ـ أو الدنيا ـ شيئاً، وكان والدها ـ عسكري المرور ـ يعود عصر كل يوم ويداه مليئتان بالفاكهة، فتستقبله مهللة مغردة كطيور حديقة المأمور المجاورة لبيتهم الطيني المتهدِّم:
ـ أبي جاء .. أبي جاء ...
فيقبلها، ويرفعها بين يديه ـ فقد كان جسمها صغيراً بعد، ليس كجسم أمها المكتنز بالشحم واللحم ـ ويقول لها:
ـ هل تحبيني يا سنية ؟
فتضحك الصغيرة قائلة له بلثغتها المُحببة:
ـ مثل الدنيا كلها.
وتتحرك يدها الصغيرة نصف دائرة، قبل أن تُحِّوطَ أباها، وتلثمُهُ.
ولكنه مات!
وتزوّجت أمها من المعلم "عامر"، ذي الأربعين عاماً، والوجه النحاسي الذي تترقرقُ عليه دائماً قطرات العرق حتى في عزِّ الشتاء!! تزوّجت أمها من المعلم "عامر الدُّكش" الذي يقسو عليها، ويُعاملها كطفلة في السادسة مع أنها عروسٌ في الخامسة عشرة.
في أول الأمر ـ حينما تزوج عامر أمها ـ لم يكن يقسو عليها، بل كان يرجو أم سنية:
ـ أنا وحدي، خلِّي البنت تساعدني في القهوة.
وكلما قالت له: "البنت مازالت صغيرة"، ضحك وقال متودِّداً:
ـ ماذا ستعمل؟ .. ستحمل لي صفيحة الجاز، أو تملا لي صفيحة ماء من الصنبور الذي بجانب محل المائدة .. هذه كلّ الحكاية.
ولكن الحكاية لم تقتصر على ما قاله لأمها؛ فقد صارت تفتح "قهوة الناصية"، وتكنسها، وترش الماء في الشارع أمامها، وتستقبل الزبائن الذين يأتون مبكرين ـ قبل أن يستيقظ عامر في العاشرة صباحاً، وتظل تخدمه في القهوة وتساعده في توصيل الطلبات للزبائن حتى يؤذن العصر.
ولكنه في الأيام الأخيرة أخذ يطلب من أم سنية أن تبقى البنت معه حتى يُغلق القهوة!
وأفاقت سنية من خلجاتها بعد أن عثرت أقدامها في كرسي منكفئ على الأرض!
لطالما داعبها الشبان قائلين:
ـ متى ستكبرين يا حلوة؟
نعم إنها جميلة، أجمل من بنت المأمور والله، ولكن "يعطي الحلق للتي بلا آذان"!!.
وتخيَّلت سنية نفسها في فستان محزّق، جميلة، رائعة، مثل "آيات" ابنة المأمور، لا .. لا، فهي أجمل منها، وأكثر من شاب يغازلها:
ـ ما هذا الجمال يا سنية؟ .. ما شاء الله ..يا أرض احفظي ما عليك.. ما هذا الجمال كله يا بنت؟
وأفاقت سنية على صوت المعلم عامر الدكش:
ـ لماذا تأخَّرتِ يا مقصوفة الرقبة؟ خذي هذه الصفيحة املأيها قبل أن تروّحي لأمك.
وبينما كانت سنية تملأ الصفيحة بالمياه أخذت تسأل نفسها: منذ متى لم تسمع كلمة جميلة من رواد المقهى الشبان؟ .. يوم؟ .. يومان؟ .. لا .. أربعة أيام كاملة!
وجاءها صوت "مغاوري" النقاش رقيقاً، حالماً، كأنه كان يعلم ما تفكر فيه، ويستجيب لما يدور في خلدها:
ـ ما هذه الحلاوة يا سنية!. والله كبرت وبقيت عروسة!
وكاد قلبها يسقط من صدرها وهي نقترب منه وتسمعه يردف في صوت دافئ مملوء بالحب:
ـ تتزوّجيني يا بنت ..؟!

التعاون ـ 4/4/1967.


حسين علي محمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى