هدية حسين - إحساس مختلف

بعد أن تأملت اللوحة تغيرت ملامحها، التفتت إليه وقالت مُحتدة :
ـ لماذا ترسم المرأة جسداً من غير رأس؟
ملأت الابتسامة وجهه لكنه لم يرد، فأردفت:
ـ هل هذا يعني بأنك تؤمن أن النساء من دون عقل؟
كتم ضحكة كادت تفر من بين شفتيه، وتشاغل بإشعال سيجارة، نفث الدخان بعيداً عن وجهها الغاضب ثم قال بهدوء :
ـ العقول ليست دائماً في الرؤوس يا حبيبتي.
زادت حدة غضبها وقالت بسخرية :
ـ أين إذن؟ في الأقدام مثلاً أم في الجزء المنزوي بين السيقان؟
دوّت ضحكته في المكان فأحست بأنها تفقد أعصابها، وعندما همّت بالمغادرة أمسك بكفها :
ـ دعيني أوضح لك الأمر.
قالت ولمّا تزل ملامح الغضب بادية على وجهها :
ـ الأمر لا يحتاج الى توضيح، لستُ غبية فلا أدرك مقاصدك، أنت بهذه اللوحة تحط من قيمة المرأة.
ماتزال كفه تطبق على أصابعها النحيفة.. سحبها إليه برقة وأجلسها الى جواره على الكنبة، وقال :
ـ تمعّني في اللوحة جيداً، إنها امرأة فاتنة، وهذا الثوب الشفاف يخبئ.....
قاطعته بعصبية :
ـ أنا لا أتحدث عن الفتنة والثوب الشفاف، أنا أسألك أين الرأس؟
عاود ضحكته فضربت بقدميها الأرض وأشاحت بوجهها عنه، طلب منها النظر مجدداً الى اللوحة فلم تستجب، قال وهو يداعب خصلات شعرها :
ـ يبدو أنك تقرئين اللوحة من وجه واحد بينما هناك عدة وجوه للقراءة، من خلال اللون والضوء والحركة والنظرة العميقة للتفاصيل.
قالت وهي تسحب أصابعه من شعرها الليلي وتحدق في وجهه :
ـ أرأيت، ها أنت تتهمني بالسطحية، تلغي قدرتي على النظر للأشياء بعمق.
ردّ عليها بعد أن سحب نفساً من سيجارته وألقى دوائر الدخان في فضاء الغرفة :
ـ حسناً..سأذهب مع تفسيرك بأن المرأة في اللوحة من دون عقل، إذن دعينا نقل إن هذه المرأة تبحث عن عقلها المغيّب الذي فقدته منذ قرون بفعل الهيمنة الذكورية.
تهكمت ثانية بسؤال:
ـ ومتى ستجد عقلها إذا كان الرجل يحكم العالم ويتحكم به ؟
لم يُجب، بل مدّ يده وسحب من الزاوية القريبة منه لوحة أخرى كانت قد رأتها من قبل، وهي لرجل مبتور إحدى اليدين ومن حوله الأشياء تبدو بغاية الفوضى، وقال
ـ انظري، لقد أعجبتك هذه اللوحة، هل إعجابك بها جاء من باب الشفقة عليه بسبب إعاقته، أم هناك أسباب أخرى؟
هزّت كفها بوجهه ما يعني كلا وقالت : ـ بل لأنني افترضت أن الفوضى تلازم الرجال، وهذا الرجل بحاجة الى يد امرأة تنظم له الأشياء، اليد المبتورة هي المرأة الغائبة عن هذا الرجل.
هز رأسه وهو يقول:
ـ تفسير منطقي الى حد ما، لكننا في الفن لا نشتغل على المنطق في غالب الأحيان، بل نحاول البحث عن شيء مفقود في علاقتنا مع العالم، ولسببٍ ما نعجز عن معرفة ما هو هذا الشيء، وإذا عرفناه نعجز عن الحصول عليه في الواقع، لذلك نحاول الإمساك به في المخيلة وننقله على قماشة اللوحة.
ابتسمت عن عدم رضا وقالت:
ـ أنتم الفنانون تعيشون في ابراج عالية، ومعتمة في الوقت نفسه، لا تخاطبون الناس البسطاء، تتركونهم يتعثرون في فهم المعنى، ترسمون الشحاذ مثلاً، وإذا صادفكم في الطريق تشيحون عنه ولا تمدون له يد المساعدة، بل قد تنهرونه بقسوة، وكذلك تفعلون مع من يحاول إضاءة المكان الذي تعزلون أنفسكم داخل عتمته.
تجاهل أمر الشحاذ بالقول:
ـ الصحيح يا حبيبتي هو أننا نبحث عن نقطة ضوء في العتمة، نقطة الضوء هذه هي ذواتنا التي تشوهت بفعل عوامل خارجية وقعت عليها فانضغطت حد التلاشي، أو انزوت في مكان قصي من أعماقنا وعلينا أن نعمل من أجل إعادتها الى الضوء.
أزاحت جسدها الذي التصق بجسده وقالت بالتهكم الذي لم يغادر شفتيها:
ـ ومتى تخرج من العتمة يا عزيزي ؟
لاحظ أنها لم تقل يا حبيبي لكنه تجاهل ذلك، وقال:
ـ إذا خرجت سيمحو الضوء كل ما يختبئ وراء الظلال في الزوايا، وعندها تصبح اللوحة مثل المرآة لا نرى منها إلا الجانب المسطح، بينما يكمن إبداع الفنان في البحث عما لا يُرى من إحساسه الدفين، وربما المكبوت الذي يحاول إيجاد علاقة سليمة ومتوازنة مع المرأة بالذات، المرأة التي يحبها دون اشتراطات مسبقة.
انتبهت الى أنه يستدرجها الى منطقة أخرى، محاولاً إبعادها عن سؤالها الأول، فقامت واقتربت من اللوحة لتتأملها ثانية، وهو من جانبه تركها تتمعن فيها، مواصلاً آخر الأنفاس من سيجارته، اقتربت واكتشفت بعض التفاصيل التي لم تكن قد رأتها في مشاهدتها الأولى، ولاحظت أن ساقي المرأة غير متماثلتين، إحداهما ملساء متناسقة، والثانية مُشعرة وذات شرايين بارزة، هالها أنها لم تنتبه لهذا الأمر قبل الخوض في الجدل بينهما.. فالجسد كله لامرأة إلا هذه الساق المشعرة.. ماذا يعني؟ لو كان الأمر معكوساً وصارت اللوحة لرجل بساق امرأة لتوافق ذلك مع ما ورثه الرجل من نظرة خاطئة للخلق، وعندها ستقول بأنه يعني أن المرأة خرجت للحياة من جسد الرجل.
لم يشأ أن يقاطع تأملاتها، بدت نظراتها حائرة، ماذا ستقول له الآن؟ لم يطل صمتها، قالت بهدوء العاجز الذي لم يجد ما يقول:
ـ هذه ساق رجل.
ابتسم وهو يطفئ سيجارته في المنفضة، وقال:
ـ ها أنت تغادرين السطح وتدخلين الى عمق اللوحة، بل تصلين الى مناطقها السرية.
كانت ما تزال تحدق باللوحة، تتناهبها الأفكار وتسقطها في ضبابية المعنى، هل يقصد أن الرجل بجزء واحد من جسده يمتلك المرأة؟ أم أن المرأة غيّبت الرجل ولم تُبق منه سوى هذه الساق؟ شعرت بأنها في منزلق لا تدري بالضبط أين تقف من القصد، ولا تريد أن تسأله المزيد خشية أن تقع في شرك الجدل الذي لا يفضي إلا الى المزيد من الجدل، لكنها أيضاً لا تريد أن تبدو فاقدة النظرة العميقة للأشياء، التفتت إليه ولم تنزع عن ملامحها بقايا غضب، أدرك هو أن عليه أن يتلافى التفسير أكثر مما فعل، فالتفسير يُفسد فكرة اللوحة.. وقف جوارها وعادت أصابعه تتغلغل بين خصلات شعرها، فتركته يفعل ذلك، وقال:
ـ الواقع يا حبيبتي يفرض عليّ أن أجيب وأوضّح، لكن جوهر الفن يفرض أن تبقى الأسئلة بلا إجابات.. كلانا على حق لأننا ننظر الى اللوحة بإحساس مختلف.



* عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى