شعبان عبد الحكيم - ذات يـوم

كانت رشيقة رقيقة ، تسير فى خطا واثقة فى شارع القصر العينى ، ومن أمام عمارات العرايس اتجاه ميدان التحرير ،أنوثة متدفقة وجمال رقيق ، شعرها مسترسل ناعم ،فجرت فى أعماقى ذكريات شبابى ،ذكرتنى بحسناء ذات الأنوثة الدافقة ، وقصة حبى الفاشلة لها فى زمن أعقبه التيبس العاطفى ، كنت يومها فى عنفوان شبابى ، نشاط وحماس ، لابد أن أرجع لعصر الشباب ،سأنطلق شابا ورائها ،سأقوم بمغامرة حب لطيفة رقيقة،سأوظف كل خبراتى العاطفية السابقة فى احتوائها ،سأعيش لذاذة العشق والغرام ،سأقول شعرا عاطفيا ،سأرجع شابا صغيرا لطيفا ،تبعتها بحماس ، كنت أشعر بألم فى مفصل قدمى ، مما جعل خطواتى متعثرة ،
تحاملت على نفسى ، لابد أن ألحق بها ، وعندها سأقول كلامى الغرامى الجميل الساحر،سأدخل إلى قلبها من أقرب الطرق ، فالغوانى يَغُرَّهن الثناء ، كلمات المديح والثناء جاهزة( جميلة ...لطيفة ...رشيقة ...حسناء ...هيفاء إلخ ) الفتاة تنطلق مبتسمة ، واثقة فى نفسها ،جميلة حتى فى ملبسها ، بلوزة فستقى يعلوها جاكت أخضر غامق ، يجمله درة جميلة تأتلق على أسفل كتفها الجهة اليسرى ، وبنطال أزرق يحز على أسفل قدميها يغطى حذاءها العالى ،كان صوت حذائها الجميل يطلق نغما منتظما ، نغما شبابيا ، له موسيقى انسيابية رقيقة ، خطواتها تنساب فى قوة وحماس ، وأنا أرفع قدماى متألما ،ولكنى أكابر وأسير- رغما عن أنفى - بكل قواى ، رغم ذلك لم أستطع اللحاق بها ، طردت من نفسى هاجس عدم احتفاء الفتاة بى إذا لحقتها ، وصممت على اللحاق بها ، حماسى يشتد للحاق بها ،أخرجتْ هاتفها المحمول من جيبها ،سحبته فى رفق من كسوته القطيفة
السوداء ، جميل أنيق مثلها لونه أحمر قانى ،خطواتها بدأت فى الانخفاض ،بدأت المسافة التى بينى وبينها تقصر ،ازدادت دقات قلبى ،وبدا الإرهاق على وجهى ، حقيبتى المتخمة بالكتب تشدّ يدى إلى الأرض ،كان صوتها هامسا جميلا ،تتحدث بابتسامة لطيفة تغطى وجهها ،لا شك أنها تحادث حبيبا انشق له مصباح علاء الدين فاستجاب لأمنيته ،فمنحه هذه الفتاة الجميلة... لتعده برحلة حب جميلة إلى أسرار مفاتنها الساحرة ، ستعطيه بسخاء من جنتها الفاتنة ،وأنا أشحذ الحب وراءها فى شارع القصر العينى ، دقات قلبى تزداد كلما أسرعت الخطى ، وأنفاسى تتلاحق ،وخطوات قدمىّ تعكس ضعفى رغم ظهورى فى سن أصغر من عمرى ،تحسرت على نفسى من الداخل ، وتذكرت حسناء التى كانت تشبهها ، ولكنها نفرت بدون أى داعٍ ، استمرت الفتاة فى كلامها الهامس وخطواتها الهادئة الرشيقة ترفع قدما، وتضع الأخرى فى نظام وتناسب وخفة ورشاقة ،
وأنا أرفع قدما وأحط قدما بمشقة وإرهاق، وأصنع حلما مريضا برحلة إلى جناتها الوارفة ،شفتاها المطليان بالروج الأحمرالقانى ، وجهها المدور ، ثدياها الدافئان بالحب ، وردفاها الممتلئان فى تناسق، فكرت ماذا أقول لها ؟! ، غيرت رأيى فى مغازلتها... سأحجم عن كلمات الغزل الصريح فى البداية ، وأقول تحية رقيقة تعكس براءة طموحى ،سأسألها عن الطريق المؤدى إلى باب اللوق ،ربما يكون طريقها ،لو رحبت بى أسير معها قاصدا شارع عبد العزيز جويش ، رغم أنه لا يوجد حاجة لدى بهذا الشارع ،وإذا قالت ميدان طلعت حرب ، سأسألها عن مكتبة الشروق بحجة اشتراء كتاب ، حتى أتبعها مدعيا عدم العلم بها ، سأتبعها إلى أى شارع ،سأحدثها عن ظُرْفِها وأخلاقها وطلعتها وتواضعها، وأُحدثها عن إلهامها للشعراء مثلى بقول الشعر المهموس الجميل ،سأقول لها شعرا مرتجلا فى الحال ( ساحرة العينين أحبك ، أسيلة الخدين ، أعطنى قلبك ...إلخ) ما أجمل الشعر عندما يأتى مرتجلا ،سأقول لها أشياء كثيرة ، أنهت مكالمتها مبتسمة ابتسامة نفذت إلى الأعماق ،وبدأت خطواتها المسرعة التى تشبه فى ارتفاع ساقيها مع استقامتهما بالمشية العسكرية ، وكعب حذائها يحدث نغما فى تعاقبه وتواليه ، بدت بعض خصلات شعرها الحريرى تنفر من رابطته ،أشاحت بيدها فرجعته مكانه فى يسر،حاولتُ مواصلة السير بنفس سرعتها وقوتها لم أستطع ،ازداد إرهاقى ،وبدا التعب على وجهى الذى تصبب عرقا ، رغم أننا فى فصل الشتاء ،لا بد من مواصلة السير للحاق بها ،إنها حياة أو موت ،قوتى لا تساعدنى ،ولكنى مصرُّ على ما فى ذهنى ،إنها امتداد لحسناء الرشيقة الظريفة التى تركتنى وسافرت مع رجل اقترنت به، ولم تحفل بى ، سأواصل سيرى مهما تكن الأمور ،رغم ازدياد دقات قلبى ، وارتفاع شهيقى وزفيرى ، الفتاة تسير مبتسمة وكأنها حددت مكان اللقاء بالحبيب خلال المكالمة ،وجهها يزداد إشراقا وبهاء ، وهذه الابتسامة المشرقة لا تصدر إلا من عاشقة ، تعيش فترة الهيام ، ولكننى لا أستسلم ، سأظل وراءها حتى ألحق بها، سأسرع الخطا رغم ثقل الحقيبة التى أحملها ورغم إجهادى ،وجه الفتاة الذى يظهر أكثر صفاء ونقاءً لا يلتفت يمينا أو يسارا،إنها تعرف وجهتها ،وأنا أتخبط، صدمت برجل مسن وكدت أتهاوى ، لم يقبل هذا الرجل تأسفى فواصلت المسير، بدا الشارع أكثر ازدحاما ولكن الفتاة تسير فى قوة واندفاع دون توقف أو تعثر ، وأنا أخلص جسدى الذى بدا منهكا أكثر من قبل ،وأتسلل بين الناس لأواصل السير وهى لا تحفل بأحد ،أريد هذه الفتاة حتى ولو للحظات ،أريد أن أقول لها كم أنا معجب بك! ،كم أنا هائم بجمالك الهادىء ورشاقتك! ،المسافة التى بينى وبين الفتاة تبعد، تبعد أكثر وأنا أجترُّ مشاعرى ،ومشيتى بدت غير لائقة لكثرة تخبطى ،الفتاة تسير بقوة وتناسق فى خطواتها ، وأنا أندب حظى ،فجأة اصطدم جسدى بجسد امرأة سمينة كادت أن تسقط على الأرض ، تابعتنى بوابل من
الشتائم ، لكنى لم أحفل به ، تابعت السير، الفتاة تنزل إلى محطة المترو ،تابعتها بكل قوتى ، وعندما وصلت إلى منفذ محطة المترو ،غابت الفتاة من أمامى ، نزلت على السلالم ، وظللتُ أتلفت يمينا وشمالا ،ولكن بلا فائدة ،كان الإعياء قد وصل بى مرحلة لا أستطيع السير بعدها ، نظرت نظرة حزينة إلى داخل المحطة ، كانت الفتاة فى انطلاقها بعيدة عنى بمسافة بعيدة ، تتجه إلى رصيف المرج ،أيقنت من داخلى أننى لا أستطيع اللحاق بها حتى لو رجعتُ عشرة أعوام للوراء ،لم أستطع فى هذه اللحظة الوقوف من إرهاقى الشديد ،عندها جلست على آخر درجة للسلم كانت عيون الناس تنظر إلى فى سخط واشمئزاز، وأنا أغلى من الداخل ،بعدها شعرت بدوار شديد ونسيت كيف أرجع ؟! وإلى أين كانت وجهتى ؟!


شعبان عبد الحكيم.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى