صبري حسن - شرفة صغيرة سحرية

قُبيل الفجر، أخرج إلى شرفتي الصغيرة، أطل منها على الليل، والشارع النائم إلا قليلا.
القمر بدرٌ أو كأنه، السماء مطلية بالفضة واللبن، لا يحجب بشرتها ثمة سحب.
أدخن سيجارة، وأنظر دومًا جهة اليسار، أتابع “المحل” المغلق، وأنتظر صديقًا هجرني، رغم أني لم أُسئ إليه. أين أنت يا رجل؟ تركتني وأنت وحدك عصاي وزادي؟ ألم يكن العتاب أولى؟ على كلٍّ الغائب عذره معه.
أنفث دخاني في وجه الفضاء. سيجارتي لا تتألم من نقصٍ يعتريها بشكلٍ مستمر، بل هي لا تعترض ولا تئن وأنا أُلقي بها من سبعة طوابق. ترتطم بالأرض دون صوت تقريبًا، تخفت شعلتها في بطء وتموت في سكون. أُدير رأسي، ألمحه في الضوء الخافت يسير بجوار “محله”، ينثني يمينًا في سرعة فلا أتبين وجهه، لعله لا يريد أن أراه أو أن يراني، لكنه هو.
أقفز من شرفتي إلى غرفة الاستقبال إلى الباب، تتخطى قدمي درجات السلم أربعًا أربعًا. أهرول والشوق يسبقني، لن أدعك تسير وحدك، ما هكذا كنا، ما على هذا تحاببنا، على الأقل كانت بيننا ابتسامة وسلام من بعيد. ابتسامتك ألمحها كشمس مشرقة، تسكن قلبي فيتخيلها وإن لم ترها عيني، ألتفت يمينًا فألمح طيفك من بعيد، أسرع الخطى فتسرع. نخرج إلى الطرقات العامة. ما بالك يا رجل هذا ليس طريقًا لك؟. يعبر الطريق غير عابئ بالإشارة الحمراء. قلبي ينخلع خوفًا عليه، يتخطى السيارات في نعومة مدهشة، ويمرق إلى الجانب الآخر كسهم. أنطلق وراءه، تزعق السيارات، تكاد توقظ أسفلت الشوارع، الشتائم حراب حادة تُدْمي كرامتي” “أعمى”.. “سكير”.. “مجنون”.. “انظروا لهذا الرجل يسير حافيًا”.
سرعته تتزايد كلما قطع طريقًا وبدأ آخر، ألهث خلفه كي لا أفلته، خرج من طريق جانبي نحو مقابر “التونسي”، أفي مثل هذا الوقت يا صديقي تزور الراحلين؟ عرجت يمينًا فيسارًا على هَدْي ذاكرتي، فكم من مرة زرنا هذه المقابر معًا، أراه يدخل مقبرة والده، استمسكت ببقية من طاقة ودفعة أخيرة حتى صرت أمام باب المقبرة. الباب الحديدي مغلق بقفلٍ من الخارج. كيف دخل؟ وهل دخل فعلا؟ أم أضعته في الظلمات؟. لا، رأيته يقينًا يدخل، لعل معه مفتاحًا، فتح به ثم أغلق من الداخل. ليكن، ما زلتُ مُصرًّا على رؤيته والأنس به. لأنتظره في الخارج. الهواء بارد، ربما بعدما بذلت من مجهود لسعني برد الخلاء، أتكور على ذاتي، أستجدي الدفء لأوصالي المرتعدة. تأخذني سنة من النوم.
أصحو بغتة على مجموعة من العيون المحملقة في، ألتصق بالجدران في رعب، أنادي صديقي، لا صوت لي.
من هذا؟ لعله لص مقابر. ليس لصًّا، انظروا إليه، لعله مجنون؟ فلنسلمه لأقرب قسم شرطة، ليس مجنونًا، غالب الظن أنه من الدراويش، لم نر درويشًا يرتدي ملابسه الداخلية فقط وينام بها في المقابر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى