محمد فري - فارس بلا جواد

هش " صالح بن المعطي " على قطيعه المكون من نعجات خمس هزيلات.. الأرض قاحلة تشكو من أثر الجفاف، والشمس ملتهبة في كبد السماء، والتربة صلبة سوداء متشققة، تتخللها في بعض الأماكن أعشاب قليلة تتوزع على مسافة شاسعة.. وعليه أن يقود نعيجاته إليها لتقتات بما تبقى من نبات الأرض، ولن يعود بها إلى " الخيمة " إلا عند غروب الشمس.

لم يكن المحصول الزراعي وفيرا هذه السنة..ولا السنة الماضية، تبدل المناخ وتبدلت معه أسباب الحياة..ولم تعد الأيام ( زينة ) كما عهدها في الماضي. مازال يذكر الأمطار وهي تهطل في وقتها المناسب، فيحرث الأرض ويزرعها، وتعود للهطول ثانية مبشرة بسنة خصبة وحصاد وفير..ولم يكن الزمان زمن مسخ.. فالخير متوفر، والبشر يعم الوجوه.

كان " صالح بن المعطي " أيامها شابا وسيما، ذا بنية قوية، وحيوية فائقة، تعرفه القرية، ويعجب به أفرادها كلهم.. خصوصا لطرائفه التي لم تكن تنتهي.. تحداهم يوما والجميع في مأدبة على أن يشرب إناء السمن المذاب الذي تسقى به قصعة " الكسكسي ".. حملق فيه الجميع باندهاش وهو يفرغ الإناء في جوفه دون أن يتحرك فيه ساكن..بهذه الاندفاعات جلب هيبة الآخرين.. إضافة إلى مهارته في الفروسية التي كانت مضرب المثل..يجري فوق فرسه كالريشة.. ويلاعب بندقيته بمهارة..فيشد الأنفاس.. ويبهر الأنظار.غير أن الأحوال قد تغيرت، وللسن أحكامه..والكبر عبر كما يقولون.. خصوصا إذا انضافت الحاجة وقلة اليد إلى ذلك.. باع جزءا كبيرا من أراضيه لمواجهة مخلفات الجفاف وديون القرض الفلاحي.. حتى أولاده هاجروا إلى " الطليان " بعد أن لفظتهم القرية.. وسدت أمامهم أبواب العيش.
ساق " صالح بن المعطي " نعيجاته من جديد بحثا عن أعشاب صالحة.. ثم استبد به العياء فجلس وأسند ظهره إلى جذع شجرة منخورة جفت أوراقها..وبعد أن استرد أنفاسه أمسك بجرابه وجلب منه قطعة خبز وإناء لبن وشرع يتناول غداءه.
أغمض عينيه ليستريح، وتزاحمت الذكريات بذهنه تستعرض صورها متسابقة وكأنها صاعدة من أعماق ماض سحيق.. هاهي ملامح أصدقائه الغابرين تتراص أمامه: " ولد حمامة " و " حمر الراس " ومشرك الحفنة "و " ولد المجمر " وغيرهم.. صفوة شباب " الدوار " وخيرة فرسانه... صورهم مجسدة أمامه وهم على صهوات خيولهم، يحملون بنادقهم المحشوة بالبارود، يتقدمهم جميعا بفرسه " البركي " كقائد تتبعه رعيته وتخضع لأوامره. كلهم يتوفرون على خيول أصيلة..يتنافسون في العناية بها، ويوفرون لها أحسن رعاية.. " عبرة شعير " يوميا خالية من الحصى والحجارة الصغيرة..ودلو ماء صاف عذب..وحمام يومي ينعم به الفرس ليحافظ على نشاطه وحيويته.
كان " صالح بن المعطي " يملك أحسن فرس..استطاع بمهارته أن يروضه أحسن ترويض..يركبه فيختال على ظهره فارسا ماهرا..
أما أحسن اللحظات فكانت عندما يجتمع في أثناء المناسبات للمشاركة في " لعبة الفروسية "..وكانت المناسبات عديدة..عرس أو عقيقة أو ختان أو عودة حاج..كلها أوقات سعيدة..وكم كانت الأوقات السعيدة كثيرة.. فالزرع كثير والخير وفيروالحمد لله على كل حال.
تململ " صالح بن المعطي " برأسه قليلا وهو يسنده على جذع الشجرة ويصلح من عمامته ليتحاشى أشعة الشمس اللافحة..واستسلم من جديد إلى ذكرياته هروبا من حاضر لا يسعفه..هاهي الأيام ( الزينة ) تعبر الماضي السحيق..وتخترق الزمن لتداعب ذهنه بلطف..جادك الغيث ياليام الزينة..لكن أين هو الغيث..لعله صدر فيما صدر إلى الخارج..وحل القحط محله.. تبا للقحط.. ما أقساه..فساد الأخلاق ساهمت في مجيئه..ومحت اللحظات المشرقة.. إيه يالحظات الماضي..كان " مقدم الدوار " يأتي بنفسه باحثا عن " صالح بن المعطي " ليخبره عن رغبة " القايد " في إقامة " التبوريدة "..وأن حضوره مع فرسان الدوار ضروري.. وما عليهم إلا أن يأتوا في أحسن حلة ممتطين صهوات خيولهم متمنطقين ببنادقهم.. أما البارود و ( الحبة ) فيتكلف بهما القايد.
شعت ابتسامة شاردة من ثغر " صالح بن المعطي " وهو يقتنص اللحظات الهاربة..هاهي صفوف الخيول متراصة في نظام دقيق، وعلى ظهورها فرسان لبسوا الجلابيب البيضاء، وتعمموا بالعمامات الحريرية، وتمنطقوا بخناجرهم الفضية، وأمسكوا بثقة بنادقهم التي كانوا يسلمونها لمساعديهم بين الحين والحين كي يملأوها بالبارود ويضعوا ( الحبة ) في ( الزناد ).
الخيول مزينة بصهوات مذهبة بديعة الصنع..جلبت من فاس ومراكش..تعكس دقة الصانع التقليدي..وتذكي نخوة الفارس بإضفائها عليه وعلى فرسه زينة وبهاء.
صالح بن المعطي يتصدر( الصربة ) المكونة مما لايقل عن أربعين فارسا مغوارا..وقد اصطف أفراد الدواوير على جانبي حلبة الفروسية..بينما انتصبت على بعد عشرات الأمتار خيمة القائد الكبيرة..يقف " صالح بن المعطي " على فرسه بثبات مقابلا الخيمة الكبيرة التي هي نهاية السباق، وبإشارة حاسمة، يأمر فرسانه بالتوجه ببطء نحوها، وما على كل فارس في هذه الأثناء إلا أن يظهر ما يبرع فيه من ترويض، وعند الاقتراب من الخيمة يحيي " صالح بن المعطي " القايد وأعيان القبائل، ملتمسا دعواتهم، فيكيل له هؤلاء الدعوات الصالحات وكأنه سيخوض مع فرسانه أعداء وهميين
دعيوا معانا يا الشرفا
سيروا الله يبيض سعدكم ويقويكم على من عاداكم
وتتصاعد زغاريد النساء صادحة في الأجواء، تشق الآذان والأسماع..تشجع الفرسان وتلهب حماساتهم.. ولم يكن " صالح بن المعطي " لتغيب عنه زغرودة معينة يفرد لها مكانا خاصا من سمعه..فتستبد به نشوة الظفر، ويعود مع فرسانه إلى خط البداية، ويستعد للتبوريدة. يقف الجميع بخيولهم وقفة متراصة، وما هي إلا لحظات حتى يلعلع صوت صالح معلنا عن الانطلاقة..
آلحافظ الله !
فتتأهب الخيول مستعدة للانطلاق..بينما يراقب " صالح " الفرسان وخيولهم بعين حذرة، وحركات ثابتة، ويطلق تنبيها آخر
آروا الخيل
فتنطلق الخيول مسرعة والغبار يتصاعد وراءها.. وتزداد السرعة.. ويرخي الفرسان أعنتهم للخيول..وينتبه الجميع للإشارة الثالثة:
شدوا الخيل
وهنا يفهم الفرسان أنهم اقتربوا من خط الوصول، وما عليهم إلا أن يعدوا بنادقهم استعدادا للطلقة الجماعية الواحدة.. وويل لمن يسبق أو يتأخر عن الآخرين، فعقوبته أن يرجع راجلا يجر فرسه وراءه..في هذه اللحظة يلجلج صوت " صالح بن المعطي " معلنا عن الاستعداد للطلقة
والمكاحل المكاحل !!
فيرفع الفرسان بنادقهم دون التخلي عن الإمساك بالأعنة، منتظرين إشارة القائد صالح الذي يصيح بقوة:
هوووب
وإذا بالبنادق تتشامخ في الفضاء، وتنطلق منها في لحظة واحدة أصوات انفجار البارود..ثم تعقبها من الفوهات أدخنة بيضاء كثيفة تعلن عن انتهاء الشوط..وتتعالى الهتافات من جديد، وتتصاعد الزغاريد بما فيها الزغرودة المحببة لصالح..وتمتلئ صدور الفرسان فخرا واعتزازا لنجاح " هجمتهم ".. وتتسارع أصوات الاسنحسان من أفواه الحاضرين بالخيمة الكبيرة
سيروا الله يرضي عليكم
الله يكون منكم الزرع والزريعة
معاكم دعوات السادات الصالحين
وتعود المجموعة في خيلاء إلى خط الانطلاق، يتقدمهم " صالح بن المعطي " مزهوا وهو يلقي بنظراته وتحياته إلى الحضور الذين تعالت صيحاتهم وتضاعفت نشوتهم.
وتستمر اللعبة مرات ومرات..تتخللها الولائم التي أعدها القايد لضيوفه.. والتي لا يستثنى منها " صالح بن المعطي " وفرسانه.. خرفان مشوية وكؤوس شاي منعنعة بينما أهازيج الشيخات تنعش الأسماع والقلوب.
تتسع ابتسامة " صالح بن المعطي " .. وهو يهش ببندقيته محييا.. ويزعجه ثغاء نعجة شاردة فيهش عليها بعصاه..ويتحامل على نقسه ليعيدها إلى القطيع..يلتفت إلى الأفق فيدرك أن وقت المغيب قد حان..وعليه أن يجمع صفوف نعيجاته متجها نحو خيمته الصغيرة..ولا ينسى أن يعيد إدخال يده إلى جرابه ملتمسا بقايا الطعام..فتصطدم يده بورقة رثة.. ويتذكر إنذار القرض الفلاحي الذي عجز عن تسديد ديونه القديمة والمتأخرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى