أمل الكردفاني - بحث الأديب عن مفردة...

كم عدد ما تحفظه من مفردات تستخدمها طوال حياتك عبر لعبة التباديل والتحاويل او ما يسمى بالمنهج الكارتيزي عند الرياضيين لتصف عالمك بأسره؟ ربما لا يتجاوز ما نستخدمه من مفردات الف او الف ومئاتي مفردة. نحن نقرأ العديد من الكتب ونفهمها في غالب الاحوال دون اللجوء الى القاموس ؛ هذا يعني ان مجتمعنا في هذا الزمان وهذا المكان على وجه التحديد يدير كل ابداعه الكتابي من خلال تواضع جمعي على عدد محدود من المفردات. الصحف ، المواقع الالكترونية العربية ، الكتب المجلات احاديثنا وخطاباتنا السياسية والثقافية والادارية وحتى العاطفية...فهناك قبة مفرداتية تحصرنا داخلها. غالبا ما لا يحتاج الادباء للعودة الى القواميس بحثا عن مواضعات مجتمعات قديمة ، فحتى لو استخدم الاديب مفردات اتفاقية لمجتمع قبل الف سنة فإنها الآن لن تحظى بأي قبول عام. وهذا يجعلنا نتساءل: هل ما اتفقنا عليه من مفردات كاف بحد ذاته ليستخدم في العمل الادبي؟ ام يجب على الاديب ان يقوم بحفريات تاريخية مستدعيا القديم ليطرحه لرهان مواضعة جديدة؟ فلنتخيل ان اديبا من الادباء جاء بمفردة من القواميس القديمة واستخدمها في النص الأدبي ؛ فماذا يقصد بذلك على وجه التحديد؟ هل يطلب من القارئ العودة الى الماضي ليفهم النص؟ وما الذي سيفعله القارئ حينما يجد كلمة ماتت تعاد الى الحياة عبر النص. هل سيعود الى القاموس ليفهمها. هل سيحاول فهمها من خلال السياق ما استطاع ، ام سيتجاهلها كما يفعل مع لغة اجنبية لا يروم منها الا جوهر الفكرة؟ عرفت فتاة تكتب كما يكتب عنترة وزهير وغيرهما من شعراء الجاهلية ، لقد سألتها عن سبب استخدامها لمفردات ماتت منذ قرون؟ لم تعر سؤالي التفاتا ، وربما كان سؤالي في حد ذاته امتهانها لشعورها بابداع متوهم. ان الكثيرين مروا على كلماتها مرور الكرام. تجاهلوها ولم يحاول ايا منهم العودة الى المعاجم ليفهم ما حكته. وانما يدل ذلك على ان من الافضل للأديب اليوم ان يجترح مفردة جديدة ، فإما ان يعطها مدلولا على هامش العمل الادبي او يتركها لتفهم من السياق. او يتركها حتى بدون ان يتوقع فهم احد لها فتكون كغرفة خامسة لمنزل اسرة من اربعة اشخاص. هل يوجد الان أديب يضع المعاجم القديمة حوله قبل ان يكتب رواية او شعرا او قصة او مسرحية او خاطرة؟ غالبا لا يحدث هذا ، ومع ذلك فإن الروائيين على وجه التحديد يميلون الى اقتراض مفردات من بيئتهم وطرحها كنوع من تكثيف حيوية مقاربة النص بالواقع. يكتب الكثيرون مستخدمين مفردات البيئة الزراعية او الرعوية او التجارية او الصناعية او العلمية ، ويمكنك كقارئ عادي ان تكتشف ببساطة بيئة الكاتب او جذوره. غير ان القراء غالبا ما لا يبذلوا الوسيع من الجهد لتقصي مدلولات هذه المفردات. ونلاحظ بالتالي ان المغربي يكتب للمغاربة والمصري للمصريين والسوداني للسودانيين حينما يتم استخدام مفردة نابعة من ثقافته. انه لا يهتم بفهم الآخر كثيرا ؛ ولا يعمد الى وضع هوامش تفسيرية للمفردة (لأن ذلك ضد النسق الأدبي المعتاد) ، وهكذا يتحول النص الادبي الى علامات استفهام متواصلة بالنسبة للقارئ الأجنبي عن ثقافة الكاتب. وهكذا تمثل المفردة (القديمة) او (المحايثة لثقافة ما) ، أو (المخلوقة) اشكالية تتطلب بحثا ونقاشا جديا حولها لتأصيل جدواها الأدبي. عندما يستخدم كاتب سوداني كلمات ك (الدلكة) ، (القرمصيص) ، (الرحط) ، (القادوس) ، ...الخ .. داخل النص الروائي مثلا ؛ ثم يرسل نصه الى الآخر ، فما الذي ينتظره او ما الذي يتوقعه من الآخر على وجه التحديد؟ هل سينتظر من القراء العودة الى المكتبات الجامعية لفهم هذه المفردات؟ وهل بالفعل هناك مراجع متوفرة لشرح كل المفردات؟ هل يدفع القراء الى التعرف على ثقافته الخاصة من خلال الادب ، عبر مفردات لا تعطيهم اي تصورات ذات فائدة؟ ام يجب على الكاتب ان يرفق ملحقا بمعاني المفردات التي استخدمها. هذه المسألة ليست مجرد تساول لا قيمة له ، بل على العكس ؛ هذا التساؤل يتم طرحه على وجه الخصوص من قبل المتجرمين للاعمال الأدبية. فعندما يقوم المترجم بترجمة نص صيني سوف يبحث -بعبثية محبطة جدا- عن المقابلات بين اللغة المترجم منها و اللغة المتجرم اليها. لن يسع المترجم الا ان يلحق بالنص جداول ورسومات توضيحية لهذه المفردات... آلات عزف فلوكلورية ، اكلات شعبية ، رقصات ، صفات ، ....الخ. وهذا يؤدي الى تشويه سلاسة تداعيات النص الأدبي. فلنحاول مثلا قراءة (الكوميديا الإلهية) لدانتي اليجيري عبر ترجمة عربية تستخدم اسلوب التعريف بالهامش ، وسنجد انفسنا ننتقل من كل بيت ومقطع وجملة الى الاسفل او الى صفحة الهوامش لنفهم النص ، وهذا فضلا عن رهقه يؤدي الى فقدان النص لقيمته الشعرية. اعتقد ان استخدام المفردات المستغربة يجب ان يتم في حدود لائق ومناسب لحدود ما هو مرجو من تلك المفردة. وهذا امر يستدعي صناعة النص مع وضع الاعتبار للآخر ؛ اي للقارئ اولا والناقد ثانيا وللمترجم ثالثا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى