عبده البرماوي - البمب

لا يلد الشر نفسه بالتأكيد؛ إلا استثناءً واحد على هذا المبدأ اسمه وليد.

شقي أسود البشرة أضخم من سنه، يظل يدور في الشارع لا يهدأ. كان غريبا، خصوصا وهو يمارس شروره علينا، وسلوكه المملؤة بالعتو والغباوة. والذي يتضاعف حين يقترب العيد وتجده في أثرك يلاحقك؛ ليختطف من يدك النقود أو يقلبها من جيوبك.

ليس سارقا، فالنقود التي يجمعها عنوة هي عنده مجرد عيدية من أجل صفقة البمب الموسمية، وعليك فقط أن تدفع مبتسما حتى ولو ثمن كيس واحد منه. ليس لأحد بالطبع خيرة في قبول ذلك أو رفضه، ولو بدا عليه أمارات التفكير أيشتري أم يرفض، فسيلقنه هذا الضخم درسا في فوائد الندم السبعة؛ يرى أنك الرابح، فهو يشتريه بالجملة وتحصل عليه بنصف ثمن شراه من محال الخردوات.

كنت جديدا على الشارع، انتقلنا إليه من بلدتنا قبل حلول العيد بشهرين فقط. وكمفلس قسرا، لم أدفع، ونلت منه العنت لما بدا مني ما عده اعتراضا. الأمر أن جيبي لم يعرف يوما النقود، فلم تكن لنا حاجة بها في قريتنا. وفي حياتي لم أحمل يوما أكثر من ثلاثة قطع معدنية، وإن توافرت فلن ترضي طموحات الفتوة هذا.

لكمني وطرحني أرضا.. ولما لم يبدو علي أي أثر للاستجابة لتهديده أدرك أنني مفلس أصلي، فرق قلبه الطيب لحالي، وطرح علي بديلا عن الضرب؛ أن أصحبه حمالا حيث يشتري البمب ، لأنه سيضاعف الكمية لهذا العام .

طارد وليد كل العيال تقريبا، ولملم من جيوبهم أكبر قدر من الفلوس. أراد أن يضمن صفقة مربحة، تكبر فيها سمسرته بالقدر الذي يتيح له التمتع بسبعة أو ثمانية من الأكياس الكبيرة، وليغطي كذلك كلفة المواصلات. لما أعفاني من السداد في مقابل مهمة الحمال أخبرني أنني سأحصل على نصيب وافر هو ثلاثة من الأكياس المتخمة بالكرات المتفجرة الصغيرة. وكان هذا فوق أحلامي.

الطريق من شبرا إلى هذه العزبة المخفية بعناية أسفل كوبري غمرة بمحازاة السكة الحديدية كان مرسوما في ذهنة. وحسبما حكى لي، أول مرة اشتري منها البمب كانت قبل أربعة أعياد.

نذهب مع أمه في الميكروباس، في زيارتها التي تشري فيها غذاءهم المفضل في العيد، ثم نفلت منها خلسة حينما يشير لي. هكذا كانت الخطة.

وقفنا خلف أم وليد التي اندست في دائرة من الناس يتحلقون حول أم رمضان. يترقب الجميع لحظة يهل فيها الحمالون ليلقوا بما ثقلت جعباتهم أمام العجوز عالية الصوت. أفهمني وليد أن الحمال يحصل على أجره مما في الطاولة التي ينقلها بين عربة النقل والمحل داخل السوق. يسمح صاحب المحل له أن يمد يده قبل أن يحط المعاونون الطاولة عن رأسه، ليكبش مما فيها مقدارا معقولا، إن ارتضاه المعلم، فهو له. فيرميه في الجعبة البلاستيكية التي يرتديها، وحين تثقل، يخرج لفرشة أم رمضان، ليحط بما فيها على البساط. تهمس العجوز في صبيها، أن يسجل في النوتة مبلغا بجوار اسم الحمال، وتصرفه بنظرة منها. ثم ترص بعناية أنواع السمك المتشابهة مع بعضها، كل في كومة. وحين تجتمع أمامها أكوام تكفي لدورة مزاد، يبدأ صخب المزايدة؛ تسمي سعرا للكومة، الأسماك عندها أرخص من من أي مكان في البلد. هكذا تقول أم وليد وهي تمني نفسها بشروة، وتنقل عينيها بين الأكوام. يصدح صوت أم رمضان بسعر والواقفون يجأرون بسرعة برقم أعلى منه. العجوز لا تنتظر كثيرا، رقما أو اثنين، ثم تشير لمن ترسو عليه ببيعها أن يبرز الثمن، تأخذه وتودعه في صفيحة ملئى بالنقد ترخي عليها فخدها الضخم. طلب وليد من أمه المشغولة بالمزاد أن تمنحه خمسة صاغ لنشتري الحرنكش. كادت تنهره لكنها شعرت بالحرج لما رأت في عيني التهلل والرغبة في الحصول على هذه الثمرات المززة.

لكزني كي نخلع من المكان، وصوتها يلاحقنا؛ إوعوا تتوهوا. وهذا ما كنا نفعله بالتمام. مسافة سير قصيرة وعبرنا مفرق سكة القطار الذي يقطع عرضيا شارع بورسعيد من عند القصيرين، لندلف إلى عزبة أبو حشيش التي تطل مباشرة على شريط القطار. لمح وليد فتى يحمل شيكارة من البمب، سأله بكم، فرد الخمسة بنصف جنيه. هتفت في سري: يالله. أبو علاء خرب الذمة يبيعنا الكيس الواحد بربع جنيه بحاله. نظر وليد نحوي وهو يهتف بثقة فيما يدلف للداخل: شايف؟ من مدخل العزبة الغريب أدركت أن المكان ليس عاديا؛ هؤلاء لا يصنعون البمب وفقط، بل يتاجرون في كل الممنوعات. ظننت أننا سنشتري من عربات اليد المترعة بالأكياس عند مدخل العزية ، لكن وليد الذي سبق إلى حارة ضيقة قال: سيبك من البمب المفستك، البمب الفرط أرخص. وأضاف بلهجة خبير: هنا يمكنك الفصال وإنت وشطارتك، وتنقي كمان البمب الجديد المليان بالبارود.

باعة البيوت أسخياء فعلا، ولديهم أكوام تصل للسقف من البمب، يمنحونك بعد المحايلة كبشتين كبيرتين أو ثلاثة كحلاوة يد، وتعويضا عما قد يكون مفستكا من البمب الذي اشتريته. حصلنا على بغيتنا، وأكرمتنا أم سناء. المرأة التي انتهى بنا مطاف السير لبيتها ومنحتنا حلاوة يد كبيرة.

في الطريق جعلني وليد أهرول، قال: أن البوليس في كل مكان، وكل بضع ساعات يشنون هجمة على الشارع ويصادروا البمب. قال أن الضحايا هم الغرباء، لأن الباعة يستعيدون ما يصادره أفراد البوليس. فجأة قطع علينا الطريق شابان، وسحب أحدهم عن كتفي الشيكارة، التي حاولت التشبث بها، فصفعني الآخر بقوة، لأسقط أرضا. ألجمني الخوف عن ملاحقته، لم يفلح صراخ وليد أيضا، فيما بائع حذرنا بلهجة محايدة ألا نتبعهم وإلا أصابونا بمدياتهم.

سرنا ، مبتعدين عن المكان مطأطئ الرأس. لقد ضاع الحلم وخطة الحرب التي تحدثنا فيها أنا ووليد بالأمس ذهبت مع السارقين. تخيلت وهو يحكي لي عن خططه قتالا بالبمب نستخدم فيه علب الورنيش الصاج، التي نلملمها من لدن ملمعي الأحذية المصطفين بجوار موقف الأتوبيس، نحشوها بالبمب ونتلقف الفرصة لاقتحام مخابئ العيال في جبهة الأعداء ونحصدهم بقذائفها التي تصنع إنفجارا يليق بجنود شجعان.

خطة وليد تقضي بأن الجبهة التي تحتل طرف الشارع المفضي لمكتب البريد هي التي تبدأ الهجوم. وترد عليها الجبهة المتترسة في الجهة الأخرى. وليد اختار لنفسه دور يجمع بين الحكم واللاعب الحر، قال لي أنه سيقف في المنتصف ليقذف الطرفين، لتسخن الحرب وتصير حربا ضروسا. خطط كل شيء بعناية إلا أن يقلبنا أشقياء أبو حشيش.

سرت أبكي من ألم الصفعة، وعلى المال الضائع، بينما ظل هو صامتا كجبل عتيق. مضينا وغربان الخزي والحسرة من فوقنا ترفرف، هل نعود لأمه، أم نرجع إلى شبرا. ما بقي من المال هو جنيه واحد فقط يغطي كلفة عودتنا. لم أكن أدري ماذا سنقول للعيال عن مالهم الذي ضاع، ولا كيف نواجههم بأيدينا الخالية. استوقفني فجأة وليد وهتف بحدة: هات الجنيه. قبل أن أفكر كان قد دس يده في جيبي واختطفه، ثم قال آمرا إياي: حصلني. وجرينا جهة عزبة أبو حشيش مرة أخرى.

في بيت أم سناء وقفنا نبكي بحرقة، ووليد الذي ملأ عينيه بدمع لم أعرف كيف تولد، أخذ يستعطفها بحكاية عن أولئك الحرامية الذين ضربونا وأخذوا الخزين، وزاد في البكاء وهو يشرح كيف أن والدنا الفقير أرسلنا لشراء خزين البمب كي يبيعه للعيال في العيد، فهو مصدر رزقه الوحيد في هذه الأيام، وأنه لن يرحمنا لو عدنا إليه بعدما بددنا رأسماله. انسقت بدوري وراء الحكاية وعززتها بما يلزم من البكاء الحراق. صرخت المرأة في وجوهنا وهمت بطردنا، لكن مع ازدياد البكاء والمحايلة، رقت لحالنا. نادت على مراهق صغير يعمل لديها وقالت له خذهما للمعلم برجي.

هكذا سرنا خلف الصبي نحو حارة أخرى، ولا ندري من هو برجي، قلت في نفسي حتما هو رجل صالح سيرق لحالنا عيال مثلنا وسيعيد المال الذي سرقه الأشقياء. وصلنا لعند برجي، فإذا به قزما عظيم الكرش. استقبلنا بنظرات التشكك والغضب العارم. شخط فينا وهو يسأل: عاوز إيه ياض منك له؟ أفهمه صبي أم سناء أن بضاعتنا قد سرقت، وأنها ترجوه أن يعوضنا. سأل برجي عن مقدار ما سرق. فرد الصبي أننا قد اشترينا ثلاثة آلاف بمبة ويزيد تملأ شيكارة عامرة. نظر نحونا القزم بضيق وقرف، ثم نادى شخصا أطل من أعلى السلم وأمره أن يعبيء لنا نصف شيكارة وأن يصحبنا للخارج حتى لا يطاردنا اللصوص. ما كان بأيدينا حيلة، ورضينا صاغرين.

حملت النصف شيكارة ومضينا. قبل موقف الميكروباس، أخرج وليد من جيبه ربع جنيه، وقال. إركب الميكروباس وروح انت وأنا هاحصلك. لم أعرف ماذا كان ينوي، ظننته سيرجع لأمه في السوق، فأذعنت لأمره وعدت لشبرا وحدي. في المساء أهل وليد على جمعنا وهو يحمل نصف شيكارة أخرى من البمب. باغته فرحا بالسؤال، كيف حصل عليها وهو المفلس. سرقته قالها بحزم، وأضاف: تحريت الأمر، وعرفت أن برجي هذا مجرد نصاب، وليس رجل خير، فهو نفسه من يسلط فتيانه لتسرق من العابرين والغرباء ثم يرد المسروقات لأصحابها مع تنازلهم عن نصفها حلاوة يد له. ويبيع هذا النصف عبر باعة يتبعونه. وأكمل: عندما كنا في بيته لاحظت أن الأسطح موصولة ببعضها، فلما عدت، جئت من الشوارع الخلفية، وقفزت فوق سور السكة الحديد الموازي للمنازل ومنه اعتليت منزلا ومنه انتقلت لآخر حتى صرت فوق سطح منزل برجي، وهناك غافلت معاونه الذي كان يغط في النوم، وسحبت نصف شيكارة وعدت بها دون أن يدرون.

في ليلة الوقفة صخبت حرب البمب، وأبلى وليد بلاء حسنا وهزم وحده الجبهتين. في أواخر المعركة، همس بي قائلا: وفر شوية بمب. استغربت الأمر. أسر لي بأنه قد لمح معاون برجي مع أحدهم يعبرون بموتسيكل ويبدو أنه يبحث عني. قلت كيف عرف مكانك. قال يبدو أن صبي أم سناء لمحني وأنا أهرول بالشيكارة خارج العزبة، وأكيد هو من أبلغ برجي، وعرف وجهتي بعدما تبعني إلى الميكروباس، وهم يجولون بحثا عني. ثم هب واقفا من مكمنه وهتف في العيال.. يا جدعان تعالوا. التئمت من حوله دائرة، فقال لنا: فيه ناس جايه من بره تضرب شارعنا، يرضيكم. لم يجب أحد، كلهم عيال لا يفهمون لغته، ولا تحريضه. فقمت أنا وشرحت الأمر ببساطة لهم وهو يرمقني. قال أحدهم: وإحنا مالنا، إنت أخدت فلوس وضيعتها. هب فيه وليد، وكاد أن يشتبك معه. حللت بينهما حتى هرب الفتى.

غادر أغلب العيال، وبقيت قلة من حولنا. إنهار وليد، وهو يقول باكيا: أنا باروح أجيب البمب عشانكم، وبرجي هيموتني، وعاوزين تسيبوني. شعرت بأنه بالفعل لا يستحق هذا، صحيح هو أخطأ بخداعه لبرجي، لكن كذلك برجي حرامي، ووليد عاقبه. حاولت أن أهدئ من روعه، لكنه تركنا ومضي لمنزلهم.

نظرت للعيال من حولي وقد حلت علينا سحابة نكد بعد أن كان صخب المعركة الضروس والممتع يلفنا. هتفت فيهم: لو حد جه يضرب وليد هنضربه إحنا بالبمب. واتفقت معهم على أن نبقي في جيوبنا بعضا من علب الورنيش المعبأة بالتراب الأصفر والصوان الصغير.

بعد وقت قليل سمعت جلبة في الشارع. هرعت للشرفة فوجدت القزم برجي الشرس ومعه الفتى ذو الموتوسيكل يجرجران وليد وقد شهر برجي مطواة لوح بها في وجه رجال الشارع ممن حاولوا اثناءه عن ضرب وليد، بينما أم وليد تصرخ فيه أن يترك ابنها. أطلقت صفيرا متفق عليه بيني وبين العيال، وكان أغلبهم قد هرع للشرفات يشاهدون العركة المنصوبة في الشارع. قذفت بأول علبة ورنيش فانفجرت بين قدمي برجي، وتتالت عشرات من العلب الأخرى فوق رأسه وسقط بكرشه حين حاول اللحاق بوليد الذي أفلت منه. بينما صبيه قد أخذ الموتسيكل وولى تاركا القزم لمصيره عندما وجد التحفز في عيون الجيران. أمسك شابان من الشارع ببرجي وقد حفزهم صراخ أم وليد وانتزعوا منه المطواة، وقاموا بتقييده.

جئ بوليد فسرد أمامهم الحكاية وبين كيف أن برجي مجرد حرامي، وأنه لم يحصل منه إلا على حقه وتعويضا عما أصابه. قام أحد الجيران بتحرير برجي بعد أن انتابته حالة من البكاء. ومضى لا يلوي على شيء.

ما أن انقشع كابوس برجي، حتى عدنا لصخب حربنا، وعاد وليد ليضرب في الجميع بعلبه المحشوة عن آخرها بالبمب، بكل همة وحماس.


عبده البرماوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى