(1)
كنت على وشك أن أُتْمِم القنينة الثانية ، وكنت في كؤوسها الأخيرة ، لما طرق مسامعي صوت زغاريد ودقُّ دفوفٍ . مسكت أنفاسي أصيخ السمع لأُحدِّد مكان الصوت .
في البداية قلت في نفسي ، إنه عرس في الحي وفي لحظةٍ ، بدٙا الصوت أقرب أو أشد قرباً وطفق يرتفع شيئاً فشيئاً . غادرت الكنبة وفتحت باب الغرفة...
ثمرة متعفنة للإستبداد: ذلك هو التعذيب، وكذلك هم الجلادون
حيدر حيدر - وليمة لأعشاب البحر
من الغرفة تفوح رائحة القيء والدماء المتخثرة. ألقيّ بالكيس على أرضيتها الرطبة. وبمجرد ما لامس الكيس الأرضية لسع البرد أطراف "منصور"، وكان للبرد قساوة الإبر.
تدحرج الكيس هنا...
(1)
مقهى قديم ، كراسي متآكلة، طاولات مخلعة، مطحنة البن التي تضرب عن العمل أكثر مما تعمل ، عصارة القهوة التي تتوقف فجأة دون سابق إنذار . بالداخل عاطلون عن العمل ، متقاعدون ، بائعوا سجائر بالتقسيط ، ملمعوا الأحذية ، سماسرة ، لصوص ، مهربون ، بائعوا الخمور في السوق السوداء .
فضاء معزول عن الزمن ،...
تذكر الصبي الذي كان يقرفص قبل قليل أمامه، بعد أن بعثر أحشاء صندوقه، وبدأ ينفض الغبار عن حذائه، رفع عينيه عن الجريدة المنشورة أمامه على الطاولة... ألفى حذاءه ممتطيا صهوة الحصان الخشبي منذ أن غاب الصبي - بعد أن اعتذر عن نفاذ علبة "السيراج"، واستأذن في إحضار علبة أخرى - والرجل لم يغير من وضع رجله...
يبقى الوطن هو البيت الأول لساكنه أو المنتمي إليه، إنما أحياناً يضغط عليه، فيصبح قبره،تابوته الذي يضيق به باضطراد، موته البطيء والآلم، رعب وجوده أو كينونته، بؤسه ويأسه في حالات أخرى، تبرمه بالحياة، خروجه إلى العلن بقولة " لا " لوطن يقتَل فيه اسمه، مسماه في وضح النهار، لتتحول الكلمة إلى حالة تشهير...