زكريا الشيخ أحمد - سأموتُ يومَ الجمعةِ.. ( قصة حقيقية)

كانَ جاري عصمت الكوردي واقفاً أمامَ محلِ الجزارةِ حيث يعمل ، سلمْتُ عليهِ فاستوقفني و طلبَ التحدثَ معي بموضوعٍ .
" ما الأمرُ يا عصمت " قلْتُ لهُ .
" صاحبُ المحلِ يريدُ أنْ يتكلمَ معكَ في موضوعٍ ".
" أيُّ موضوعٍ ؟ " .
"عندما تدخلُ سيخبرُكَ " .
و أضافَ قائلاً :"أرجوكَ أنْ تساعدني فنحنُ جيرانٌ منذُ زمنٍ بعيدٍ " .
" لا عليكَ يا عصمت بكلِ تأكيدٍ سأساعدكُ إنْ استطعْت " .
دخلْت أنا و عصمت لداخلِ المحلِ . كانَ صاحبُ المحلِ جالساً أرادَ أنْ ينهضَ ليصافحني و يرحبَ بي محاولاً الإتكاءَ على عصاهْ ، طلبْتُ منه ألا يقومَ من على كرسييه ، صافحتُهُ و جلست . خمنْتُ أنَّهُ تجاوزَ السبعينَ سنةً .
" أنتَ المحامي ؟ " سألني .
قلتُ : " نعمْ " .
طلبَ منْ عصمت الخروجَ ثم اقتربَ مني هامساً :
"عصمت يعملُ لدي منذُ كانَ طفلاً ، هو الآنَ متزوجٌ وأبٌ لطفلين ، لا أخفي عليكَ يا استاذ عصمت إنسانٌ بسيطٌ و .. "
قاطعْتُهُ قائلاً : " معذرةً يا حاج عصمت جاري و أنا أعرفُهُ إنسانٌ بسيطٌ و خلوقٌ و مؤدبٌ لمْ نسمعْ عنه أي شيءٍ سيءٍ "
قال لي : " نعم ، لذلك أريدُ مساعدتَهُ ، أخافُ أنْ يقومَ أولادي بطردِهِ منَ المحلِ بعدَ أنْ أموتَ و هو كما قلتُ لكَ درويشٌ و لن يتمكنَ منَ العثورِ على عملٍ بسهولةٍ ".
" و ما المطلوبُ مني ؟ " قلت له .
" أريدكَ أنْ تنظمَ عقداً بيني و بينهُ تضعُ فيه بنداً يمنعُ أولادي من طردِهِ منَ العملِ في المحلِ بعدَ موتي .. "
قاطعتُهُ " بعدَ عمرٍ طويلٍ " .
" اسمعني يا أستاذ : " انا سأموتُ يومَ الجمعةِ ،
أرجوكَ أنْ تسرعُ ، سادفعُ لكَ أتعابَكَ و فوقهم حبةَ مسكٍ " .
" لا يمكنني تنظيمُ هكذا عقدٍ لأنَّ العقدَ يعتبرُ كأن لم يكن إنْ أنتَ متَّ بعدَ عمر طويلٍ " .
نظرَ لي بدهشةٍ ممزوجةٍ ببعضِ اليأسِ و قالَ :
" أنتَ محامي و لا بدَ أنَّكَ ستجدُ طريقةً لمساعدتِهِ " .
" لا يمكنْ يا سيدي لا يوجد هكذا عقدٌ في القانونِ " .
أطرقَ لبعضِ الوقتِ ثمَّ قالَ :
" ورقةٌ شكليةٌ ، أقصدُ ورقةٌ مكتوبةٌ على شكلِ عقدٍ يا أستاذ هل وصلتْكَ فكرتي ؟
أريدُ العقدَ لأوقعَ عليهِ قبلَ يومِ الجمعةِ لأني سأموتُ يومَ الجمعةِ ".
" كيف ستموتُ يومَ الجمعةِ يا رجل !؟ لا أحدَ يعرفُ في أيِّ يومٍ سيموتُ " قلت له .
" أنا أعرفُ و سأموتُ يومَ الجمعةِ كما قلْتُ لكَ ! "
رأيتُ أنَّه منَ العبثِ مناقشتَهُ في موضوعِ الموتِ يومَ الجمعةِ يا له منْ عجوزٍ يمتلكُ روحَ الفكاهةِ .
طلبْتُ منهُ بطاقتَهُ الشخصيةَ و بطاقةَ عصمت و ورقةً لأدونَ عليها المعلومات .
صاحَ : " يا عصمت تعالى أعطي الأستاذ بطاقتَكَ الشخصيةَ ثم ناولني ورقةً تفوحُ منها رائحةُ اللحمِ .
كتبْتُ المعلوماتِ التي في البطاقتينِ الشخصيتينِ
و قلْتُ لهُ : " اليومَ هو الإثنين سأجهزُ الورقةَ و أجلبُها غداً لتوقعا عليها أنت و عصمت " .
" المهمُ أريدُ أنْ يكونَ ذلكَ قبلَ يومِ الجمعةِ لأني سأموتُ يومَ الجمعةِ " .
" لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله أعادها مرة أخرى " قلت في نفسي . "
إبتسمت له : " لا عليك يا حاج إلى اللقاء ". خرجْتُ و أنا أقولُ في نفسي يا له من رجلٍ غبي و مجنون .
قبيلَ منتصفِ الليلِ تذكرتُ عصمت و معلمَهُ الجزار . قلتُ في نفسي لا بأس سأساعدُ عصمت فهو إنسانٌ طيبٌ سأحاولُ كتابة عقدٍ شكليٍ لعلّ و عسى يفيدُهُ مستقبلاً حتى لو لم تكنْ له أيةُ فائدةٍ قانونيةٍ و لأنَّهُ جاري و إنسانٌ فقيرٌ لن آخذَ منهُ نقوداً .
كتبتُ العقدَ و تركْتُ مكانَ رخصةِ المحلِ و الرقمَ و الجهةَ مانحةَ الترخيصِ فارغاً لأني لم اسألْ عنها من كثرةِ ما قالَ الجزارُ أنَّهُ سيموتُ يومَ الجمعةِ .
صباحِ الثلاثاءِ كنت عند السيد سميرٍ الذي كنت أضعُ لديه مسودات العقود و مذكراتي القضائية ليكتبها و يجهزها على الكومبيوتر ، سلمتهُ مسودة العقد و بعض المرافعاتِ الأخرى .
قبيلَ الانصرافِ مررتُ به سائلاً عن العقدِ فاعتذرَ مني و أخبرني أنّه كان هناك ضغط كبيرٌ عليهِ و لم يتمكنْ من انهاء العقدِ و أنَّهُ سيكونُ جاهزاً في الغدِ .
و دعتُهُ قائلاً له : " لا بأسَ ".
اضطرِتُ يومَها لعدمِ المرورِ من طريقي المعتادَ إلى بيتي ، غيرتُ الطريقَ متحاشياً المرورَ من أمامِ محلِ الجزارةِ كي لا أقعَ في حرجِ عدمِ جلبِ العقدِ .
الأربعاء مررْتُ بالسيد ِ سمير ،استلمْتُ نسخةً من العقدِ . بعدَ الانصرافِ من عملي مررْتُ بمحلِ الجزارةِ ،
طلبْتُ من صاحبِ العملِ ( الجزار ) رخصةَ المحلِ لأدونَ المعلومات .
" إنَّها معلقةٌ على الحائطِ خلفكَ هنا فوق " قالَ صاحبُ المحلِ .
وقفْتُ و درْتُ قرأتُ الرخصةَ فتفاجأتُ بإسمِ الشخصِ الممنوحِ لهُ الرخصةَ ، في الحقيقةِ كانتْ الرخصةُ بإسمِ إمرأةٍ
قلتُ : " الرخصةُ ليستْ بإسمِكَ " .
" نعمْ إنَ المحلَ لزوجتي و الرخصةُ بإسمها " قال لي صاحبُ المحلِ .
" لماذا لمْ تقلْ لي ذلك؟ ".
" لم تسألني " رد علي .
" الحقُ معكَ جوابُكَ منطقي ، كانَ عليَّ أنْ أسألَ و لكنْ منْ كثرةِ ما قلتَ لي أنكَ ستموتُ يومَ الجمعةِ نسيتُ أنْ اسألكَ ".
" ماذا ستفعلُ الآنَ ؟ " قالَ .
" سأدونُ إسمَ زوجتِكَ و رقمَ الترخيصِ
و اصححُ العقدَ ( الورقةَ ) و أجلبُها غداً لتوقعَ عليها زوجتُك " .
لا بأس قالَ لي و أضافَ " أرجوكَ أستاذ أنْ تجلبَ العقدَ غداً لأني سأموتُ يومَ الجمعة "
" يا إلهي لماذا تقولُ هذا ، هل انتَ عالم بالغيبِ لتعرفَ أنكَ ستموتُ يومَ الجمعةِ " .
" دعكَ من هذا الكلامِ يا استاذ أنا أعرفُ أني سأموتُ يومَ الجمعةِ ".
لم أشأ مجادلتَهُ ودعتُه و خرجتْ .
الخميس قبيلَ إنصرافي مررتُ بالسيدِ سمير كاتبِ العقودِ ، اخذتُ منهُ العقدَ المصححَ ، لكني لم اعدْ للبيتِ ،
حيثُ كانَ علي زيارةُ أحدِ الموكلين المعتقلين في سجنِ حلبَ المركزي .
هناكَ و بعد خروجي من السجنِ ، إلتقيتُ بمحامٍ صديقٍ ، ذهبنا لتناولِ الغداءِ في مطعمِ الفردوسِ القريبِ منَ السجنِ
في الحقيقةِ كانَ قد مَرّ وقتُ الغداءِ ، نستطيعُ اعتبارَهُ عشاء .
طلبنا بعض المقبلات و اللحم و لتر ويسكي ، سهرنا و تحدثنا و نحن نشرب و نتناول العشاءَ لوقتٍ متأخر ٍ.
وصلتُ يومها للبيتِ بعد منتصف الليل .
الجمعة كانَ يومَ العطلةِ مررتُ كانَ المحلُ مغلقاً .
السبت و أنا عائدٌ لبيتي لم أتمكنْ من إعطاءِ الورقةِ ( العقد ) لأنَ محلَ الجزارةِ كانَ مغلقاً .
الأحد كانَ المحلُ مغلقاً .
الإثنين كانَ المحلُ مغلقاً . استغربت كثيرا .
دخلْتُ للسوبرماركت المقابلِ لأشتري بعضَ الأغراضِ ، كانَ صاحبُه صديقي محمد المقلب ب حمادو البكاري .
إشتريتُ الاغراضَ و قبلَ أنْ أغادرَ سألتُهُ :
" حمادو هل تعرف لماذا محل ُالجزارِ مغلقٌ ؟" .
قالَ لي حمادو : " لقدَ ماتَ الحاجُ صاحبُ المحلِ ألم تعلم ذلك؟ " .
شردْتُ قليلاً ثمَّ سألتُهُ
" لم اسمع بذلك متى ماتَ ؟ " .
قالَ لي حمادو: " ماتَ يومَ الجمعةِ ".

نهاية الجزء الأول




تعليقات

سيدي زكريا الشيخ أحمد،
قصة مؤثرة حقا، زاد من التشويق وصفك بحقيقة وقوعها. انتظر بفارغ الصبر الأجزاء الموالية.
دمت في كل خير سيدي.
 
أعلى