محمد بشكار - ميِّتٌ غير قابلٍ للدَّفن!..

عُمْر الإنسان المريض ولو كان في طريقه للموت، ليس بيد الطبيب الذي يقيس بأدواته المعدنية درجة الحياة، ولكن يُمكن القول إن عُمْر المجتمع بِرُمَّتِه أصبح بيد غيرنا مع وقف إعلان الوفاة، فلا شيء يدُلُّ على أننا مُجتمعٌ حَيٌّ رغم كميات الدموع التي نُهْرقُها أمام أنظار العالم، وليْت بعض الأنفس التي لا شيء يَدُلُّ على حياتها إلا خروج الريح قبل الأنفاس، تعْلَم وهي أخف من رزقها في استخدام وسائل الاتصال، أن العِبرة ليس في تحويل ما تتجرَّعه كل ثانية من صَبيبٍ لِبُكاء لا يُجْدي دمعاً، إنما بالانخراط في صناعة رأي عام يَقْلب مع الطَّاولة الموازين تُجاه بعْض العاهات الاجتماعية، ولكن هيهات، لا نجد إلا من يتطاول على عالم الطيور مُكتفياً بالتغريد، خصوصاً بعد أن فطن بعضهم بغباء أن أقْصر طريق توصل المرء لِيُربِّي الريش بكثافة، هو الانضمام لمعشر الطيور والقفز إلى أقرب غصن إلكتروني مزقزقا بكل الأخبار، فكيف تصبح الحياة مُمْكنة وثمة من لا يُحرِّكُ ساكنا حتى وهو يَشْكل جُملة في تدوينةٍ لن تفيد أحداً !
المجتمع مات وأكبر مُعْجزاتِه أنه يعيش ميِّتاً وغير قابل للدفن، ليس لأنه يكره الراحة الأبدية أو إكرام الجثة بحفرة من تراب، بل لأن هذا المجتمع المحسوب قَسْراً على عالم الأرواح، غير مُدرك فكريا أنه ميت ولم يبق من حياته إلا ارتعاش الأصابع على الهاتف، صار بكل أوهامه التي يبتكر ما يُناقضها بين يوم وآخر، مجرد كائن مُغرِّد تحت المرآة في مجتمع عاري العورات، دون أثر فعلي في الواقع محسوبا على الأشباح !
لست أهلا ولا سهلا لدراسة موضوع قد يجعلني عنوانه الضخم أُضيِّعُ حتى عنوان بيتي، لكنني وأنا أفكر في سيكولوجية المجتمع، أومن أن تحريك جرعة ماء ولو بالمضمضة قد يصنع الطوفان، من ما زال يَحْفل لموت أحدٍ بعد أن صار الموت إعلانا يوميا نُجامله بعبارات التعازي التي يليها النسيان، من يخرج من ملابسه غاضبا وليس فقط عاريا حين يقرأ أن سِتِّينياً هتك عرض قاصرين، وأنَّ حاوية أزبال أرحم من الأم بعد أن صارت رحِما ثانيا لرضيع حديث الولادة، والأدهى أنْ نجد من يَعُدُّ علامات الساعة التي تقترب بظهورها القيامة، وهو يَعُدُّ مع الشرطة عدد الأكياس البلاستيكية المحشوة بأجزاء من جسم آدمي، ولم يكن الضحية سوى طفل قتله أبوه وقطَّعه إرَباً إرضاء لزوجته التي لم تَلِدْه، عادي جدا، بل ثمة من أدمن احتساء همجية هذه الأخبار وأفظع منها مع المشروب، وبدل أن يصعد السكر في دمه فائرا، يزيد السكر في الشاي أو القهوة، لتصير أيامه أحلى مع تزايد الأشرار في الأخبار !
وَلَشدَّ ما أُشْفق على من يتحدَّث عن الحضارة إما أسِفاً أو خَرِفا، يعيش في غربة تُمزِّق الروح عن الجسد وهو يهفو للهجرة إلى سويسرا، وليته يعلم أن التَّخلف لا يكمن في الجغرافيا ولو عَشَّش وراثيا في التاريخ، بل الخلل في الإنسان الذي يقاوم للاستمرار في العيش عوض التفكير في تغيير المحيط حيث يعيش، ولا غرابة أن تُقترف مثل هذه الجرائم الخطيرة ويتلقاها المرء بِبُرودة أعصاب، لأن الحاويات المُخصَّصة لِرَمْي الأزبال ومعها الأطفال، صارت أيضاً مطرحا للكتب بعد أن امتلأت العقول عن آخرها بالفراغ، وما عاد ثمة حيز إلا لما يزيد في تحطيم الإدراك البشري ويُبلِّدُ الشعور، وَجعْلِه عديم الإرادة لا يقوى على حمل نفسه فبالأحرى ينوء بمسؤولية الأسرة والمجتمع، لا اُقدِّمُ هنا درساً في نظرية التلقي والتواصل التي علمتنا أن لا نبقى مكتوفي الرأي إزاء كل ما يحدث، ولكنني أحاول فقط أن لا أكون جزءا من الفراغ الذي ملأ بعض العقول إلى آخر سطل، أحاول أن أزدحم بنفسي وأخرج في مظاهرة قد لا تُغيِّر شيئا، ولكنها يقينا ستكمل مسيرة حلمها إلى آخر الشارع!

(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 27 فبراير 2020)


L’image contient peut-être : 1 personne


162

تعليقات

المجتمع مات وأكبر مُعْجزاتِه أنه يعيش ميِّتاً وغير قابل للدفن،
- محمد بشكار
لغة أنيقة، متمكن من شد انتباه الآخر لقراءة المقال، شكرًا لثقافتك العالية .

كنت أسأل غير قابل للدفن
الم تشتاق لنظارتي الورقية
من لنا سواك يسترنا من عورة الضيق
تنفس بعمق أيها الميت
فإني ألقي سلام الهجرة عليك
 
تبارك فكرك وقلمك لهذه الصرخة المدوية ، ومن يقول هذا الكلام قد يُرمى بحجر التفاؤل في زمن يجدر فيه البكاء وقد يُلعن من يشعل شمعة في الظلام
 
أعلى