شهادات خاصة مهدي عامل - كلمة شكر الى حسين مروة - 1 -

1-

لا للمدح اكتب او للإطراء، بل لحاجة بي ان اقول كلمة شكر لك ومحبة، يا أبا نزار.

لعلك تذكر، او لا تذكر، يومًا من أوساط الخمسينات حين طلبت منك، بحياء وتردد، ان تقرأ لي أول نص كتبتُ. كان شيئًا يشبه القصة او الاعتراف، نقلتُ فيه الى اللغة حدثًا ولّد في نفسي مزيجا ساذجًا من مشاعر الغضب والتمرد. كنت ابحث عن عمل، فنصحني أحد الاقرباء بان اطلب من ثري كبير من الطائفة الشيعية أن يضع توقيعه الكامل على بطاقة بإسمه يدعم فيها طلبي وظيفة في احد المصارف التي تحتضن امواله. ذهبت اليه، خطوتين الى الامام وخطوة الى الوراء، ووقفت عند بابه انتظر ساعة او ساعتين قبل ان يسمح لي بالدخول. وانصرفت مزوّدًا ببطاقة اسمه وتوقيعه. رفض المصرف طلبي. كنت عديم الموهبة في جمع الارقام، وضعيفًا في اللغة الاجنبية. ثأرت للنفس بالكتابة، أو هكذا ظننتُ. قلتَ لي: ثابرْ. ثابرتُ على التمرد والكتابة. تلك كانت نصيحتك.

2-

لستُ الاّ واحدًا من آخرين. كنا للوعي نولد شيئًا فشيئًا في صفحات “الثقافة الوطنية” و “الاخبار”. نكبر بسرعة في المظاهرات، وتتكاثر علينا الاسئلة. بصبرٍ كنتَ تجيب، وبثقة تدفعنا الى القراءة. كانك تنتظر. وكأن دربك دربنا الآتي. إنه حدس المناضل، اذ يرى بالقلب، والقلب عين العقل عنده.

لم نكن بعد شيوعيين. حذّرونا في المدارس، والمجالس والنوادي. هددونا في الشوارع. قالوا: الشيوعيون ضد القومية والعروبة والوطن. ضد الوحدة والتراث، وضد الاسلام ايضًا. كان صعبًا ان نكون شيوعيين، وأصعب الاّ نكون. والّح عليّ السؤال كثيرًا: ما الذي يجعل من المثقف مناضلاً؟ ومن الكاتب كادحًا؟ كنا نرى اليك والى غيرك ممن كنا نقرأ لهم ونستمع اليهم يتحدثون عن الادب والفكر والنقد والسياسة، ونتساءل: ما الذي يجعل مثل هذا النوع من المثقفين يرضى بمثل هذا النوع من الحياة القاسية حتى التقشف؟ ربما كان في السؤال كثير من السذاجة. لكنه كان مطروحًا بجدية كبرى. وما كان الجواب جاهزًا. وما اتى دفعة واحدة. كان ينضج في التهاب الاحداث وتسارعها، ويزداد وضوحًا في نهوض الحركة الوطنية ضد الامبريالية وضد الرجعية في مصر بعد تاميم القناة، وفي العراق بعد ثورة 1958، وفي لبنان بعد الانتفاضة الشعبية ضد شمعون. وكانت ايام الصيف من هذه السنة تمر بنا مليئة بنقاش فتيّ اينما كنا. كل الاماكن كانت صالحة للنقاش: الطرقات والمقاهي والسينما، وأمام بائع الجرائد في شارع المعرض بالقرب من التياترو الكبير، وفي شارع سوريا تحت القناطر حيث يمتد صف طويل من المكتبات. وفي بيتك المتواضع، يا أبا نزار، في شارع البربور، حيث كان ينعقد دومًا مجلس الثقافة الوطنية والفكر التقدمي. كنا نشرب الشاي، ونتعلم منك الفرح في النضال.

نحن جيل بكامله حملنا الى الثقافة شيئًا من مجلسك.

3-

أقرأ اليوم شيوخًا في الثلاثين او ما دونها، وأعجب للحياة كيف تنضب في عروقهم، وتجفُّ كلماتهم ولمّا تكتمل بعد او تينع. وأراهم ينكفئون بها الى ما قبل، كأن بهم داء الموت، وفي العيون اصفرار وضباب. انتهى زمن الأمل فيهم وشحبت أيامهم، كأنهم في دار عجزة، ينتظرون انطفاءهم، وينظّرون اليأس والعدم.

كيف لا أقارن، وأنت تـُقدم، في الستين من عمرك او يتعداها بقليل، فتيًا رشيقًا حتى التهور، على عمل موسوعي يتهيّب من الاقدام عليه غيرك؟ وتبدأ من جديد رحلتك الى العلم والمعرفة. كنتَ قد بدأتها من قبل، لمّا تركت، في مطلع عمرك، قريتك “حداثا” في جبل عامل، او قل في جبل التراث من لبنان، وذهبت الى النجف الاشرف لتصير شيخًا او مرجعًا في الدين وعلومه. لكنك تركت العمامة، وظل فيك التراث تحمله في درب آخر هو الذي قادك الى حزبك، والى الفكر الذي به ستنظر في التراث، موضوع علمك. هكذا انطلقت في مسيرتك الفكرية من التراث، وعدت اليه، مزوَّدًا بمنهج يمكنّك من تملّكه المعرفي، او من محاولة هذا التملّك. وكنت رائدًا في هذه المحاولة، وجزئيًا ايضًا. وها هو مؤلفك الضخم الذي انجزته في جزأين على ابواب طبعته الثالثة، يستثير النقد من كل صوب، سلبًا او ايجابًا، فيحتدم به النقاش من جديد حول قضايا التراث ومناهج دراسته.

لقد قرأتُ الكثير من هذا النقد ومن هذا النقاش، وما زال كتابك مركزًا لهما، فالمعركة مستمرة حوله، يدخل فيها العالِم وغير العالِم، الاخصائي وغير الاخصائي، وتكثر فيها الافكار المتضاربة التي تجد فيها العميق والسطحي معًا. فأحيانًا يتقدم البحث، وغالبًا ما تحدث البلبلة. فكيف ننظر في كتابك، وكيف ننظر في نقده؟

4-

أطرح هذا السؤال وأتردد في الاجابة عنه، ربما لأنني لست مؤهلاً لذلك، فثقافتي في ميدان التراث لا تعطيني حق هذا النظر الذي يتطلب ثقافة موسوعية كثقافتك. ومع هذا، سأسمح لنفسي بإبداء بعض الملاحظات على الكتاب وعلى نقد له أرى في نقضه ضرورة يفرضها النظر في التراث ومنهج النظر فيه. أبدؤها بملاحظة حول عنوان الكتاب نفسه، لسببين: أولهما أن هذا العنوان “النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية” يكاد يختصر موضوع عملك، أو قل إن فيه تكثفًا مشروعًا لحركة فكرك في استكشاف التراث ومعرفته. أما السبب الثاني، فهو أن تيارًا بأكمله من النقد انصب فيه النقد على موضوع عملك هذا، فكان رافضًا له من أساسه، ورافضًا لمنهج من النظر في الفلسفة العربية الاسلامية هو منهج النظر في النزعات المادية في هذه الفلسفة؛ بل كان رافضًا رفضًا مبدئيًا او قل قبْليًا، وجود هذه النزعات فيها، وإمكانية هذا الوجود بالذات. المشكلة التي يطرحها مثل هذا التيار من النقد، برفضه هذا، لا تنحصر في حدود الفلسفة العربية الاسلامية ولا تقتصر عليها، بل تتعداها لتنطرح على كل فلسفة، قديمة او جديدة، وعلى كل فكرٍ ايضًا، مهما اختلف حقول تحركه المعرفية. إنها مشكلة الفكر الذي به ننظر في التراث او في غيره، سواء أكان هذا التراث فلسفة او غير ذلك، وسواء أكانت الفلسفة هذه اسلامية او غير ذلك، قبل ان تكون مشكلة هذا التراث او هذه الفلسفة. والطابع القبْلي لذاك الرفض او نقيضه يوكّد صحة قولنا، ويؤكد ضرورة ان يبدأ النقاش حول التراث، قبل النظر فيه، بنقد القكر الذي به ننظر في هذا التراث. فأي فكر يتضمنه ذلك التيار من النقد الرافض مبدأ وجود نزعات مادية في الفلسفة الاسلامية؟ وما هي منطلقات هذا الفكر، وما هو منهجه؟

5-

ثمة مقولة شهيرة في الفكر الماركسي تؤكد ان بالامكان النظر في تاريخ الفكر الفلسفي، من حيث هو تاريخ الصراع فيه بين تياريه العريضين: تيار المثالية وتيار المادية، وان كل واحد من هذين التيارين قد يظهر في اشكال تختلف باختلاف الشروط التاريخية والمعرفية الخاصة بتجدد حركة الصراع بينهما. من فضائل هذه المقولة انها تسمح بعقلنة الاحداث الفلسفية وتساعد على اكتشاف البنى التي تنتظم في حقل ايديولوجي محدد تاريخيًا، هو حقل الصراع بينهما، في ارتباطه العضوي بحقول الصراعات الاجتماعية الاخرى. فكما للتاريخ عقلانيته، من حيث هو تاريخ الكل الاجتماعي الذي له ايضًا عقلانيته في انبنائه الداخلي وتماسكه في كلٍ واحدٍ معقّد، كذلك للفكر بعامة، وللفكر الفلسفي بخاصة، عقلانيته، سواء في انبنائه الداخلي وتماسكه في وحدة التناقضات والصراعات بين تياراته، ام في حركته التاريخية التطورية في إطار البنية الواحدة، وفي حركة قفزاته البنيوية التي يُنتقَل فيها من بنية الى أخرى باشكال مختلفة، منها على سبيل المثال لا الحصر، شكل تتفكك فيه بنية سابقة فيما تتكون بنية اخرى غيرها، ومنها ايضًا غير هذا الشكل، بحسب اختلاف الشروط والحقول المعرفية.

نحن اذن امام احد أمرين: إما ان نقبل بوجود عقلانية تحكم حركة التاريخ والمجتمع والفكر، فتكون معرفة التاريخ والمجتمع والفكر حينئذٍ ممكنة؛ وإمّا ان نرفض وجود مثل هذه العقلانية، فنرفض، تاليًا، بهذا الرفض نفسه، المعرفة وإمكانها. وأقصد بالمعرفة هنا المعرفة العلمية. وحين اقول بضرورة وجود تلك العقلانية، لا افترض، بالطبع، انها واحدة في التاريخ والمجتمع والفكر، لا افترض انها واحدة في كل حقل من حقول الفكر او ميدان من ميادين المعرفة، بل أقبل باختلافها فيما اؤكد تمفصلها على العقلانيات الاخرى في وحدة الكل الاجتماعي المعقد. أفترض هذا كمنطلق ضروري للنظر، ثم ابحث في الاشكال التاريخية المميزة التي فيها مثل هذه العقلانية، وفيها تتمفصل على غيرها في وحدة هذا الكل الاجتماعي التاريخي الواحد، وتتغير او لا تتغير في تمرحله.

6-

لا أدخل في بحث نظري، بل اتابع ما بدأت فأقول إن تلك المقولة الماركسية يعرفها الكثيرون، ويعرفها ايضًا ذلك التيار من النقد الذي نحن الآن بصدد نقده. لكنه، اغلب الظن، يعرفها مشوَّهة، وهو الذي يشوِّهها، لأن الفكر الذي يستند اليه فكر ميتافيزيقي، يظهر بوضوح في فهم الصراع بين المثالية والمادية على الوجه التالي: إما ان يكون الفكر مثاليًا بكامله، صافيًا في مثاليته، وإما ان يكون ماديًا بكامله، صافيًا في ماديته، فلا يحتمل هذا وجود اي عنصر او نزعة مثالية خفية فيه، ولا يحتمل ذاك، بالعكس، وجود اي عنصر او نزعة مادية فيه. لا وجود، بتعبير آخر، في الفكر الواحد، لصراع بين نزعتين، بل الصراع هذا قائم، غن كان موجودًا، بين مجموعتين متماسكتين من الفلاسفة الافراد، كل واحدة منهما تمثل إحدى النزعتين. فاذا نظرنا، بهذا الفكر، في الفلسفة العربية، وجدنا ان هذه الفلسفة إسلامية، وهي لأنها كذلك، لا بد من ان تكون خالية من أي ثنائية مادية. هكذا يتعطل الصراع في هذه الفلسفة بين النزعتين، ويظهر فيها مظهر الصراع بين شكلين او اكثر من النزعة المثالية الواحدة-بين العقل والحدس، مثلاً، او بين الفقه والتصوف-، ويظهر موضوع بحثك كانه باطل.

وبنفى وجود اي نزعة مادية في هذه الفلسفة الاسلامية التي هي، في شتى تياراتها، اصفية في مثاليتها، تظهر النزعات المادية فيها كأنها نتيجة “اسقاط الرغبات الذاتي” للباحث المادي عليها، على حد قول احد النقّاد. هكذا، بالاستناد الى مثل هذا الفهم الخاطىء لمقولة الصراع بين المادية والمثالية، ياخذ عليك البعض “انتقائية” ترى بها ابن سينا، او غيره، مفكرًا ماديًا في نظريته للوجود مثلاً، بينما هو مثالي بحت في بنية فكره، وصوفي اشراقي ايضًا. فكيف تجتمع المثالية والمادية في الفكر الواحد؟

هذا ما لا يقدر على فهمه فكر ميتافيزيقي، وهذا ما لا يفهمه سوى فكر ديالكتيكي يحكمه منطق التناقض. والتناقض هو في قلب الاشياء قبل ان يكون في منطق الفكر. بهذا المنطق نظرتَ في الفكر الفلسفي الاسلامي، وكانت نظرتك صائبة جريئة في منهجها. لئن رحتَ تستكشف النزعات المادية في هذا الفكر، على امتداد تطوره التاريخي، فليس لأنك رأيت فيه، قبْليًا، فكرًا ماديًا هو اسقاط منك عليه- كما يتهمك البعض-او لأن بنيته الاسلامية او المثالية قد غابت عنك، مع انك بالعكس، وعلى نقيض ما يتهمك به البعض الآخر، حاولتَ بالحاح ان تبرز ميزة هذا الفكر بانه اسلامي، حتى في بعض مواقفه المادية او الالحادية-لان المشكلية الاساسية التي تحدده، في تكونه وانبناء تياراته المتصارعة، هي مشكلة التوحيد التي بها يتميز من الفكر اليوناني، ومن كل فكر غيره تأثّر به. ولم يكن استكشافك تلك النزعات المادية فيه نتيجة تفكيك بنيته وانتقاء عناصر منها على حساب عناصر أخرى تساقطت منه، بل لأنك فهمت تلك المقولة الماركسية فهمًا ديالكتيكيًا هو الذي في ضوئه حاولت ان تنظر في التراث الفكري العربي، فرأيت فيه وفي حركته التاريخية صراعًا بين النزعتين: المثالية والمادية، ورأيت الصراع هذا يحتدم فيه بين تيارات متعددة وحول قضايا مختلفة.

قد لا يكون هذا جديدًا كليًا. لكن، ربما كان الجديد في انك رأيت الصراع هذا وتتبعته في الفكر الواحد من كل مفكر، في فكر الكندي،مثلاً، او الفارابي او ابن عربي او اخوان الصفا. لكنكن في الوقت نفسه، حاولت ان تبيّن كيف كانت الهيمنة، غالبًا، للطابع المثالي في هذا الفكر.

ربما يظهر للقارىء، للوهلة الاولى، ان التاكيد هو على وجود نزعات مادية اكثر منه على وجود الصراع بين هذه المزعات التي تسميها احيانًا، بلغة هيجيلية، “جنينية”، وبين النزعات المثالية المهيمنة في الفكر الواحد، في إطار انتمائه الى الفكر الاسلاكي وتميزه به. وربما لم تعطِ أشكال هذا الصراع واشكال هيمنة النزعة المثالية على النزعات المادية في بنية الفكر الواحد حقها من البحث والاستكشاف، او كان حقها منهما قليلاً اذا ما قيس بالجهد المبذول في التنقيب عن النزعات المادية واستخراجها. أقول هذا، ولا اجزم فيه، فلعل قراءتي كانت سريعة او غير وافية. لكن الواضح هو ان منهج البحث في هذا الصراع صحيح وضروري. فالقول عن فكر ما، كالفكر الاسلامي مثلاً، او فكر واحد من ممثليه، إنه فكر مثالي او ديني لا ينفي وجود نزعات مادية فيه، بل يعني ان النزعة المهيمنة فيه هي النزعة المثالية، وان النزعات المادية، إن وُجِدت، فبشكل تخضع فيه لهذه الهيمنة، وتقوم بها في وحدة الفكر الواحد وتماسك بنيته التناقضية، او الصراعية. كالقول عن فكر ىخر انه فكر مادي، فهو يعني ان ما قد يوجد فيه من عناصر مثالية تتنازعه او تتجاذبه، انما هي فيه خاضعة لهيمنة النزعة المادية التي بها تتماسك في وحدة بنيته. هذا يصح على الفكر الافلاطوني المثالي مثلاً، كما يصح على فكر ماركس نفسه، لا سيما في بدايات تكوّنه. بهذا التناقض يتحرك الفكر وتدخل فيه حياة التاريخ، او يدخل التاريخ وحركته المادية. والاّ، فان التجوهر مصيره، اي الموت والجمود. ولا نفهم، حينئذٍ، من اين ياتي هذا الفكر، ولا نفهم كيف يتكون وينبني ويصير.



- لاحقا الجزء الثاني والأخير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى