سعدي عباس العبد - اختفاء.. قصة قصيرة

اختفاء/قصة قصيرة

… فهذه هي المرة الاوّلى التي اراها فيها بعد غياب دام اكثر من عقدين , اعلم انها لم تلحظني , كانت عيناها تبحلقان في الوجوه الخارجة من غرفة المكتب , لمحت عينيها ترقبانني , قبل انّ يحجبها عني رف من الاكتاف المتراصة , ثم غابت عن عيني وراء جدار من الرؤوس المندفعة امام المكتب , فوجدتني اقف في نهاية الممر المفضي إلى غرفتها . انتظر انّ تمّهر اوراق تعيّني بصفة فراش في الدائرة الحكومية التي تشرف على ادارتها . لم يطل انتظاري , فسرعان ما رأيتني اقف فوق رأسها ويدي ماسكة بالاوراق , طلبت اليّ ان اترك الاوراق وانتظر عند الممر . ومن هناك وعبر المدى المضيء , رأيت الشمس المندلقة عبر النافذة , مفروشة على وجهها تضيء شعرها الأثيث المتوج في النور , فانبثقت في ذاكرتي شموس الماضي تنسل او تندلق عبر نوافذ بعيدة مشرعة على مرافىء تلوح انوارها عبر سنوات غائمة .. سنوات يغمرها ضباب كثيف من النسيان ..شعرت كأني اخوض في ظلام حالك , وانا احاول جاهدا انّ استعيد عبر ذاكرتي المشّوشة , آخر لقاء معها .. فتدفقت صور من الذكريات تتدافع في مجرى السنوات , .. ولكن متى كان آخر نهار انطفئت فيه الشمس وخمد بريق عينيها ؟ .. متى كان ..؟ متى حدث واين ..؟ … لمع وجهها في الضوء المنسفح حالما رفعت رأسها , حدّقت بطرف عينيها الواسعتين وهي تسوّي شعرها المنهمر , على جانبيّ كتفيّها .. كنت في تلك اللحظة انازع قوى غامضة في داخلي . كنت اسعى لأخماد حريقا نشب فجأة في روحي ..حريق تأجج في عينيها وتسرب الى روحي ..ما زالت تتطلع بذات العينين المتأججتين المتوهجتين إلى ملامحي . فبدت ليّ انها تجهل كل شيء عني , وان ذاكرتها لا تسعفها في استعادة ملامح تلك الايام او هكذا كان يخال ليّ ,..ايمكن انّ ينسي المرء احلامه وتغدو الذكريات محض اوهام ! سمعت صوتها كأنه يأتي من بعيد . عبر تلك السنوات المضيئة التي مرّ عليها وقت طويل ..ولكني لا اتذكّر في تلك الايام . متى كان آخر لقاء ؟ .. هل كان عند النهر .. لما رأيت وجهها تعلوه مسحة من شحوب وهي ساندة ظهرها للشجرة . تتطلع حزينة الى مجرى النهر , فبدت متوحدة اكثر من اي وقت آخر ..كأنها تهيء نفسها لعزلة طويلة قد تستغرق سنوات طوال .. اما انا فكنت اشعر بانصال العذاب تحفر عميقا في روحي . فالبارحة طلبوني للالتحاق بالجندية , كانت تتكلم كما لو ان حبالا معقودة على عنقها , فبدت شديدة الحزن وهي تطلب اليّ عدم الذهاب إلى هناك ..بدا ليّ وجهها في تلك اللحظة الحافلة بالعذاب . كنقطة قاتمة لتحشد الاحزان … لا ادري متى اختفت لا اتذكّر .. واناما زلت اتوغل في مسارب الذكريات وانظر اليها رأيتها تومىء ليّ .فرأيتني اقف بمواجهة ذلك الماضي , البعيد بكامل احتراقاته , فتملكني إحساس غامض لم اجربه من قبل , فاصابني اضطراب وانا ارى الى سحنتها , المضيئة فطافت في ذاكرتي ملامح تلك الايام , كأنها تتدفق من عينيها ومن شعرها الملتمع في خطوط فاترة من البياض يشع من اعلى جبينها . كنت شاردا صوب تلك الآفاق البعيدة . لما سمعتها تكرر اسمي وهي تحملق في وجهي ذاهلة كأنها تجاهد لاستعادة ذكرى متلاشية , في اعماق النسيان , كنت اعلم انّ اشياء كثيرة قد تغيّرت , فوجهي لم يعد يشبهني , فقد تركت السنوات اثارها , تحفر عميقا في الاخاديد الطاعنة بشيخوخة مبكّرة , كما طبعت الحروب المسرفة في التكرار , بصماتها الرمادية على ملامحي , لم اجرؤ على تذكّيرها او حتى مجرد التلميح الى تلك الايام .. كنت خائفا انؤ بعذاب الذكرى من شدة اليأس والوجع واللاجدوى , صرت لا اقوى على النظر اليها , كان احساسي بالوحدة قد بلغ اشده , طلبت اليّ وهي تلقي نظرة اخيرة على الاوراق , انّ اباشر من لغد في الدوام في الدائرة .. ولكن ماكان يدهشني هو اختفاؤها المفاجىء حال مباشرتي في الدوام.


* نقلا عن ثقافات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى