عباس محمود العقاد - أندريه جيد.. صاحب جائزة نوبل هذا العام

منذ أمد قصير قرأت للكاتب الفرنسي - أندريه جيد - فصلاً من كتابه (قوت الأرض) يفيض بنشوة الحياة، ويشع بنور الأمل، يوجه فيه الخطاب إلى ناشئ مجهول من ناشئة المستقبل يسميه (ناثنائيل) ويصوغ كلامه في ذلك الفصل بصيغة هي أقرب إلى تسبيح المؤمن منها إلى إنشاء الأديب.

يقول لصاحبها ناثنائيل: (ما الحيوان إلا حقيبة من الفرح: كل كائن يجب أن يوجد، وكل موجود يفرح بوجوده. . . إنه لهو الفرح الذي يمتلئ بالجزالة فيسمى الثمرة، ويترنم بالغناء فيسمى العصفور. والحق الحق أن الطبيعة كلها تنبئنا أن الإنسان مخلوق للسعادة، وأن النزوع إلى لذة الحس هو محيى نواة الشجرة ومالئ الخلية بالشهد، ومفعم قلب الإنسان بالحنان. .).

ويقول: (لن تكون الحياة أجمل مما يرتضيها الإنسان، وليست الحكمة في العقل بل في الحب. . . آه! إنني إلى اليوم قد عشت بأكثر مما ينبغي من الحزم والروية. وعلى الإنسان أن يكون بلا شريعة لكي يفتح أذنيه للشريعة الجديدة. أين أنت أيها الخلاص! أين أنت أيها الحرية. إنني لذاهب إلى حيث تمتد بي نوازع الرغبة. وأنت يا من أحب تعالى معي، فأنني لذاهب بعيداً، وسآخذك معي لعلك تذهب إلى أبعد. . .).

ثم انقضت فترة بعد ذلك فسمعت أن (أندريه جيد) في القاهرة، وأنه يأتي إليها منزوياً مستخفياً ليخلو بنفسه، أو يخلو بسآمته ويأسه، في جو بعيد عن ضجيج الحياة الاجتماعية وتكاليفها الممضة، وأنه لا يلقى أحداً ولا يحب أن يلقاه أحد. ولكني صادفته في الطريق فعرفته من صورته وقال لي صاحب المكتبة التي لقيته عندها: أنه جيد!. فتجاهلت ما قال، لأنني لم أشأ أن أزعج الرجل في عزلته، ولأنني لا أحس في نفسي الشوق إلى لقاء أحد ممن أقرأ لهم فيعجبني ما قرأت. عن عقيدة مستقرة عندي: أن الكاتب أحسن ما يكون في كتبه، وأن القارئ الذي تفوته حقيقة كاتب قرأه، فلما يعرف من محضره فوق ما عرف من مضامين كلامه.

رأيت وجهاً كاسفاً حزيناً في غير نقمة، منزوياً في غير جفوة مستسلماً لما به لا يبالي ما سيصير، لأنه قد بالى كثيراً بما قد صار.

قلت في نفسي لأول وهلة: أهذا هو جيد بشير الحياة؟ أيكتب اليوم ما كتبه في قوت الأرض قبل سبع وأربعين سنة؟

وأياً ما كان كلامه المنظور منه اليوم، فإن الرجل لم ينقض نفسه، ولم يخل في خواتيم القرن التاسع عشر من نظر إلى ما عسى أن يصير إليه في أنصاف القرن العشرين.

إنه لم ينس رحمة الموت يوم أشاد بنعمة الحياة، لأنه قال في ذلك الكتاب أن الموت يعودنا لقاءه كلما اقتربنا منه (وإنه يغطي يديه بقفاز ناعم حين يأتي إلينا، ولا يكظم أنفاسنا قبل أن يعودنا الكظيمة. والعالم الذي ينتزعنا منه يكون في موعد النزع قد أضاع وضاحته، ومأنسه، وقد أضاع من أجل ذلك حقيقته، وأصبح أمامنا ناصل اللون لا يبعث فراقه فينا ألماً ولا ندامة)

لقد عملت الخمس والسبعون عملها في بشير الحياة، وهو الآن يعيش في العالم الناصل، الذي نظر إليه من بعيد، وهو في الثامنة والعشرين.

ولكن السن وحدها فيما نعتقد لم تفعل كل هذه الأفاعيل.

فمثل أندريه جيد خليق أن يصطدم بالميئسات وهو في ريعان الشباب، لأنه يدين (بالعيشة الاعتباطية) أو العيشة بغير داع ولا مسوغ لعمل من الأعمال كما بشر بها في كتب صباه، ولأنه يدين مع ذلك بالصراحة التي لا تعرف الحدود، ولا تطيق ثقلة الرقابة الاجتماعية في شأن من شؤون الفكر، أو الفن، أو الأخلاق. فلا جرم تسلمه (العيشة الاعتباطية) والصراحة الجامحة، إلى الغم والخيبة، قبل نصول العالم في عينيه من ألوانه الزاهيات.

أي صراحة لا تحجم من السخط والحرمان، ولا تحجم مما هو أرهب للنفس من كل سخط وحرمان، وهما الخزي والسخرية.

وأعجب ما فيها أنها صراحة لا تنشد غرضاً من الأغراض، ولا تتجه إلى هدف من الأهداف، غير التبرم بالكتمان، والأنفة من تسليمه لسلطان لا يؤمن به ولا يرى ما يراه.

ذهب إلى مستعمرة (الكونغو) وعاد منها في سنة 1928 فكانت حملته على الاستعمار الأوربي، وفي مقدمته الاستعمار الفرنسي

- أشد مما يكتبه زنوج (الكونغو) لو دافعوا عن أنفسهم في وجود سادتهم البيض.

وقد كان يحسب أن السادة البيض رسل حضارة إنسانية إلى القارة السوداء. فخاب حسبانه وعاد وهو يائس من هذه الرسالة المزعومة، ومن حاجة العالم الإنساني إليها، وشنها غارة شعواء لم تصمد لها الدول المستعمرة، ولم يسعها أن تدفعها بالتكذيب والمداورة، وأسفرت آخر الأمر عن (لجنة التحقيق) المشهورة التي أوشكت أن تؤيد كل ما قال.

وقيل يومئذ أن (جيد) قد انقلب إلى أحزاب الشمال، وقد انقلب فعلاً إلى أحزاب الشمال، وكفر بمذاهب المجتمع القائم جميعاً وهو يظن أن الأمل كله منعقد بنجاح الاشتراكية، بل الشيوعية، كما يبشر بها الماركسيون.

ولكن الشيوعية تأسست بعد ذلك في البلاد الروسية، ودعى (جيد) مع من دعتهم حكومة السوفييت إلى شهود آثارها في تلك البلاد، وعدتهم لا تقل عن مائة وخمسين من الأنصار والمعجبين. فخاب أمله، وتهدم يقينه، ولم يكتم ما خامره من الأسف والحسرة على ذلك الأمل الخائب واليقين المهدوم، وكتب رسالته الأولى عن هذه الرحلة ثم قفاها برسالة أخرى، يرد بها على ناقديه وثالبيه، ويؤيد ما قال في هذه المرة بالرقم والدليل.

على أن هذه الصراحة الجريئة كلها لا تبلغ من العجب مبلغ صراحته في المسألة الجنسية كما يعرض لها في بعض تمثيلياته وبعض أقاصيصه واعترافاته.

فهو يعلن في غير مواربة أن (الشذوذ الجنسي) طبيعة في بعض الناس كطبيعة الذكورة والأنوثة، وأن الحكم عليه حكم على بنية خاصة ومزاج خاص، ولا يصح أن نجعله حكماً على رذيلة أو معابة من معائب الأخلاق.

وتصدى له (هنري ماسي) من الحزب الكاثوليكي الوطني، فاغتنم هذه الفرصة لمهاجمة علم من أعلام البروتستانت الفرنسيين، - لأن (جيد) من أسرة بروتستانتية عريقة - وأنحى عليه بالتشهير والتجريس، ورماه بالحطة وإفساد الآداب. فكان جواب (جيد) عليه كتاب كوريدون الذي يقول فيه ما لم يقله من قبل، في شرح (الشذوذ الجنسي) ونفى أضراره من وجهة الصحة ووجهة الأخلاق، ووجهة المصالح الاجتماعية، فبلغ في صراحته هذه - كما أسلفنا - مبلغاً لا تقرن به صراحته في الهجوم على المذاهب أو الهجوم على الحكومات.

وليست صراحة الرجل في الرأي مسألة فكر وحسب، أو مسألة كلام وكفى. لأن هذه الحرية تكلفه كثيراً من المال، وتجشمه كثيراً من العناء، وهو غني بما ورثه من أمه وبعض أقربائه، فلا يبخل بمال ينفقه على اللاجئين إلى باريس من المضطهدين في بلادهم، سواء كانوا من الألمان أو النمسويين أو الأسبان أو البلجيك، وبعضهم بكل ما استطاع من المعونة فوق معونة المال.

أما قيمة (جيد) الأدبية، فهي في بعض نواحيها مما تتفق عليه آراء النقاد، على صعوبة الاتفاق في هذه الآراء.

فناقدوه والمعجبون به متفقون على جمال أسلوبه، يقول بعض ناقديه قبل المعجبين به: أن مجرد المطالعة في جمل من عباراته ورسائله متعة فنية، تكفي وحدها للعودة إليه.

وليست لجيد براعة كبراعة (أناتول فرانس) في لباقة التعبير وسهولة الفكاهة. ولكنه يوازنه بما هو أفضل منه فيه، وهو جد الرأي وحماسة الروح.

وليست له قدرة بروست في الوصف والتحليل، ولكنه يعوض هذا الضعف بقدرته في الحوار والحركة، فيصل بك من طريقهما إلى المقصد الذي يتوخاه الكاتب بالوصف والتحليل.

وقد علق بالرمزية واللهجة الغنائية في أوائل حياته، ثم جنح إلى البساطة والوضوح فاتخذ له أسلوباً يلائمه، وينتقل بفحواه إلى اللغة التي يترجم إليها، وتقرأه مترجماً فلا تفوتك معالمه الشخصية من وراء الألفاظ والعبارات.

وقد ورث سليقة المعرفة من بيئته التي نشأ فيها، لأن أباه جان بول جيد هو علامة الاقتصاد المشهور، وعمه شارل كان أستاذاً من أساتذة (كوليج دي فرانس) الممتازين، وأسرته كلها من بيئة المثقفين والمطلعين، ولكنه مع هذا يحسب من ذوي السلائق والأذواق، ولا يحسب من ذوي الأذهان والأفكار، ونفوره من المدرسة الذهنية عرض من أعراض هذا الاستعداد.

ولا تقل ملكة النقد عند هذا الأديب عن ملكة الإنشاء والابتكار. فإن آراءه في دستيفسكي الروسي، وفي وتيمان الأمريكي، وفي مونتاني الفرنسي، وفي الآداب الإنجليزية والألمانية على العموم، هي مثل في النقد الصائب والإنصاف المنزه عن الغاية، والتصرف في الجمع بين نماذج الفن في شتى الأمم، وشتى اللغات، وشتى العصور.

وقد مارس الكتابة مستتراً، ومارسها مصرحاً باسمه، ولكنه ظل عازفاً عن المظاهر والألقاب من شبابه إلى هرمه، وعرضت عليه العضوية في (الأكاديمية الفرنسية) فلم يخف إلى قبولها، وهي أشرف ما يتطلع إليه الكاتب الفرنسي من وراء الصيت والتقدير وهاهي لجنة (نوبل) تخصه هذا العام بجائزتها الأدبية وهو يجاوز الثامنة والسبعين، فلا تقع الغرابة في هذا الاختيار إلا من ناحية واحدة: وهي ناحية الإغضاء عن رأيه في المسائل الجنسية، ولعلها قدرت صراحته في الارتداد على مذاهب الهدم، وقدرت عطفه على الضعفاء والمخذولين، وقدرت ملكاته الفنية، وأقامت الميزان بين دواعي التنويه ودواعي الإهمال، فرجحت كفة الحسنات عندها على كفة السيئات.

عباس محمود العقاد




مجلة الرسالة - العدد 751
بتاريخ: 24 - 11 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى