لم يكن الفتى "أشجع" مبالياً بخطورة بعض الألعاب المثيرة التي يؤديها ويستعرض بها قوته و"شجاعته" المزعومة أمام أصدقائه ومعارفه.
كان يردد أمام أصدقائه من حين لآخر أنه أشجع من غيره من الفتيان الذين هم في مثل سنه، لأنهم يخشون القيام بما يقوم به من أعمال، بل يصف نفسه بأنه (أشجع الشجعان)، فهو لا يهاب الإقدام على أعمال يخشاها ويتجنبها كثير من الناس، ويصفها بأنها ألعاب خطرة.. وكان يعترض بشدة على من يصف أعماله بأنها نوع من التهور.
كان يقفز من الأمكنة المرتفعة على الأرض الصلبة، يرمي الأشياء الثقيلة والحادة إلى الأعلى ثم يقوم بالتقاطها بيديه ولا يعبأ بها حتى لو أصابته بجراح ونزف بسببها دمه، بل كان يذهب إلى ما هو أكثر من ذلك؛ فقد كان يتفاخر بالدم النازف ويعتبره وساماً ودليلاً إضافياً على قوته وشجاعته ويخفي ما يصيبه من ألم.
ولربما قام بفتح أغطية العلب الحديدية لبعض المشروبات الغازية بأسنانه، مفاخراً بقوته هذه التي قد تجعله يفقد أسنانه..
بعض أبناء الحي المستهترين كانوا يشجعون "أشجع"، ويحثونه على القيام بمزيد من مثل هذه الألعاب الخطرة، بل كانوا يصفقون له كلما قام بلعبة من ألعابه، فيما كان أصدقاؤه المخلصون يحذرونه مما تخفيه له هذه الألعاب الخطرة، وينصحونه تكراراً بتجنبها والابتعاد عنها، والاكتفاء بالألعاب التي لا تشكل خطورة عليه، وفي الوقت نفسه تبرز قوته وشجاعته.
أما "أشجع" فقد كان يطرب كثيراً بتشجيع المشجعين وتصفيق المصفقين، وفي المقابل لم يكن يعبأ بنصح الناصحين، ولا يولي اهتماماً كبيراً بتنبيه من حوله وخاصة والديه ومدرسيه وتحذريهم المستمر له من القيام بما يعرضه للخطر.
ومع ذلك لم يكن "أشجع" صبياً غبياً ولا تلميذاً مهملاً، بل كان ذكياً مجتهداً، إلا أنه كان مقتنعاً بأن ما يقوم به يسمى "شجاعة" ولا يمكن أن يكون تهوراً.. ولم يكن يدري أن "أشجع الشجعان" في الحقيقة هو من يستطيع التمييز ويدرك الفرق الواسع ما بين الشجاعة والتهور، وما بين التسرع والتفكير بعاقبة الأمور، وما بين لجم النفس وتركها تتصرف حرة على هواها.. إلى أن وقعت حادثة لا تنسى.
كان "أشجع" عائداً من مدرسته برفقة أصحابه عندما لاحظوا وجود حفرة عميقة يعمل فيها بعض العمال لفتح قناة تحت الأرض خاصة بمياه الصرف الصحي كانت مسدودة بسبب تراكم الأوساخ.
سمع "أشجع" والأصدقاء حديث العمال وهم يتكلمون ويقولون إنهم تعبوا من قضاء وقت طويل منذ الصباح يعملون بجهد دون أن يتمكنوا من فتح القناة.
لمعت فكرة في رأس أشجع، فقال لأصدقائه متباهياً بقوته إنه يستطيع فتح القناة بسهولة.
ضحك الأصدقاء من كلامه واستبعدوا قيامه بذلك رغم تهوره، إدراكاً منهم بخطورة النزول في الحفرة، فيما قال له صديق آخر ساخراً منه: "إن هؤلاء العمال المحترفين لم يستطيعوا ذلك، وهم يحاولون منذ الصباح، فهل تستطيع أنت؟؟ يبدو أنك لم تعد فقط متهوراً بل أصبحت مجنوناً"، وصار الجميع يضحكون معتقدين بأن "أشجع" يمازحهم ومن المستحيل أن يفكر بالإقدام على مثل هذا العمل الخطير.
غضب "أشجع" من أصدقائه بعد أن شعر أنهم يسخرون منه ويستخفون بقدراته.
لم يعلق "أشجع" على كلامهم وضحكهم، واكتفى برسم ابتسامة مزيفة على شفتيه.
وفيما هم في طريقهم سائرون، وما أن بلغوا مكاناً قريباً من الحفرة، وكان العمال في فترة استراحتهم يجلسون على الرصيف في الظل قريباً من الحفرة بعد أن ضعوا حولها شريطاً أصفر تنبيهاً وتحذيراً للمارة من خطر الاقتراب منها؛ باغت "أشجع" أصدقاءه وتوجه مسرعاً نحو الحفرة مخترقاً الشريط الأصفر، ثم قفز في الحفرة وغاب عن الأعين..
وأكد "أشجع" بذلك تهوره الشديد لا "شجاعته"، فيما كان الأصدقاء لا يتوقعون أن يقوده تهوره إلى هذا الحد على الإطلاق، ففي ذلك مخاطرة لم يسبق أن قام بمثلها.
وما أن رأى الأصدقاء ذلك حتى بدأوا بالصياح والصراخ ومناداة العمال لينقذوا صديقهم بعد أن توارى عن الإنظار تحت الأرض ولم يعودوا يسمعون له صوتاً.
هب العمال مسرعين نحو الحفرة وهاج الأصدقاء فالتم الناس وتجمهروا في المكان.
نزل بعض العمال في الحفرة فيما قام مسؤولهم بالاتصال بمركز الإسعاف.
حبس الأصدقاء أنفاسهم، وكان الوقت يمر ثقيلاً جداً.
مضت دقائق كان شديدة الصعوبة عليهم، إلى أن استطاع العمال إخراج "أشجع" من الحفرة، ووضعوه على الأرض وهو لا يتنفس.
في هذا الوقت وصلت فرقة الإسعاف وبدأ المسعفون فوراً بمحاولة إنقاذه.
كان الجميع مصدومين من هول المشهد ويشعرون بهلع شديد، إلى أن تمكن المسعفون من إنقاذه بعد أن لفظ ماء وفيراً من رئتيه وعاد يتنفس لكن بشكل متقطع.
وبسرعة خاطفة حمله المسعفون إلى سيارة الإسعاف وهرعوا به إلى المستشفى مباشرة...
بعد أيام عاد "أشجع" إلى مدرسته..
الجميع فرحوا بعودته وصارت قصته مدار الكلام.
فرح "أشجع" بحياته الجديدة، وصار يحكي قصة "موته" القصير في كل مناسبة، ولا يخجل منها، حتى أنه كتبها ووضعها في مجلة المدرسة الإلكترونية، ليتعظ منها كل من يدعي "الشجاعة" ولا يفرق بينها وبين التهور.
انتقلت قصة "أشجع" من مكان إلى مكان، ونشرتها الصحف والمجلات.. وأجرت معه محطات الإذاعة والتلفزيون مقابلات كثيرة..
كانت تجربة مفيدة لولا لطف الله لفقد فيها "أشجع" حياته.. وكان "أشجع" شجاعاً بالحديث عنها.
ومن يومها أصبح "أشجع" شجاعاً حقيقياً، يعرف المعنى الحقيقي للشجاعة، وأنها كما قال بعض الحكماء: "فضيلة بين رذيلتين؛ الجبن والتهور".
وأصبح يردد قول (المتنبي):
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
وَلَرُبَّمَا طَعَنَ الفَتَى أَقْرَانَهُ بالرَّأْيِ قَبْلَ تَطَاعُن الأَقْرَانِ
لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ
هامش:
شرح المفردات:
- النفس المرة: الأبية.
- الضيغم: الأسد.
- الكماة: الأبطال الشجعان.
- المران: الرماح التي تجمع اللين مع الصلابة.
-
شرح الأبيات:
الشاعر يؤكد فضيلة الرأي على الشجاعة، وأن الرأي السديد يدل على مواضع الشجاعة، ولولا العقل لكان الإنسان أقل من الأسد حالاً وأوضع منزلة، وكانت الأُسود أقرب إلى شرف الرفعة وعلو المنزلة من الإنسان؛ لأنها تبلغ من ذلك ما لا يبلغه، وتدرك أكثر مما يدركه، لكن الإنسان يفضل على الأسود بعقله، ويزيد عليها بمعرفته وعلمه. ولولا العقول لما ارتقى الإنسان على سائر الحيوان.
د. طارق البكري
كان يردد أمام أصدقائه من حين لآخر أنه أشجع من غيره من الفتيان الذين هم في مثل سنه، لأنهم يخشون القيام بما يقوم به من أعمال، بل يصف نفسه بأنه (أشجع الشجعان)، فهو لا يهاب الإقدام على أعمال يخشاها ويتجنبها كثير من الناس، ويصفها بأنها ألعاب خطرة.. وكان يعترض بشدة على من يصف أعماله بأنها نوع من التهور.
كان يقفز من الأمكنة المرتفعة على الأرض الصلبة، يرمي الأشياء الثقيلة والحادة إلى الأعلى ثم يقوم بالتقاطها بيديه ولا يعبأ بها حتى لو أصابته بجراح ونزف بسببها دمه، بل كان يذهب إلى ما هو أكثر من ذلك؛ فقد كان يتفاخر بالدم النازف ويعتبره وساماً ودليلاً إضافياً على قوته وشجاعته ويخفي ما يصيبه من ألم.
ولربما قام بفتح أغطية العلب الحديدية لبعض المشروبات الغازية بأسنانه، مفاخراً بقوته هذه التي قد تجعله يفقد أسنانه..
بعض أبناء الحي المستهترين كانوا يشجعون "أشجع"، ويحثونه على القيام بمزيد من مثل هذه الألعاب الخطرة، بل كانوا يصفقون له كلما قام بلعبة من ألعابه، فيما كان أصدقاؤه المخلصون يحذرونه مما تخفيه له هذه الألعاب الخطرة، وينصحونه تكراراً بتجنبها والابتعاد عنها، والاكتفاء بالألعاب التي لا تشكل خطورة عليه، وفي الوقت نفسه تبرز قوته وشجاعته.
أما "أشجع" فقد كان يطرب كثيراً بتشجيع المشجعين وتصفيق المصفقين، وفي المقابل لم يكن يعبأ بنصح الناصحين، ولا يولي اهتماماً كبيراً بتنبيه من حوله وخاصة والديه ومدرسيه وتحذريهم المستمر له من القيام بما يعرضه للخطر.
ومع ذلك لم يكن "أشجع" صبياً غبياً ولا تلميذاً مهملاً، بل كان ذكياً مجتهداً، إلا أنه كان مقتنعاً بأن ما يقوم به يسمى "شجاعة" ولا يمكن أن يكون تهوراً.. ولم يكن يدري أن "أشجع الشجعان" في الحقيقة هو من يستطيع التمييز ويدرك الفرق الواسع ما بين الشجاعة والتهور، وما بين التسرع والتفكير بعاقبة الأمور، وما بين لجم النفس وتركها تتصرف حرة على هواها.. إلى أن وقعت حادثة لا تنسى.
كان "أشجع" عائداً من مدرسته برفقة أصحابه عندما لاحظوا وجود حفرة عميقة يعمل فيها بعض العمال لفتح قناة تحت الأرض خاصة بمياه الصرف الصحي كانت مسدودة بسبب تراكم الأوساخ.
سمع "أشجع" والأصدقاء حديث العمال وهم يتكلمون ويقولون إنهم تعبوا من قضاء وقت طويل منذ الصباح يعملون بجهد دون أن يتمكنوا من فتح القناة.
لمعت فكرة في رأس أشجع، فقال لأصدقائه متباهياً بقوته إنه يستطيع فتح القناة بسهولة.
ضحك الأصدقاء من كلامه واستبعدوا قيامه بذلك رغم تهوره، إدراكاً منهم بخطورة النزول في الحفرة، فيما قال له صديق آخر ساخراً منه: "إن هؤلاء العمال المحترفين لم يستطيعوا ذلك، وهم يحاولون منذ الصباح، فهل تستطيع أنت؟؟ يبدو أنك لم تعد فقط متهوراً بل أصبحت مجنوناً"، وصار الجميع يضحكون معتقدين بأن "أشجع" يمازحهم ومن المستحيل أن يفكر بالإقدام على مثل هذا العمل الخطير.
غضب "أشجع" من أصدقائه بعد أن شعر أنهم يسخرون منه ويستخفون بقدراته.
لم يعلق "أشجع" على كلامهم وضحكهم، واكتفى برسم ابتسامة مزيفة على شفتيه.
وفيما هم في طريقهم سائرون، وما أن بلغوا مكاناً قريباً من الحفرة، وكان العمال في فترة استراحتهم يجلسون على الرصيف في الظل قريباً من الحفرة بعد أن ضعوا حولها شريطاً أصفر تنبيهاً وتحذيراً للمارة من خطر الاقتراب منها؛ باغت "أشجع" أصدقاءه وتوجه مسرعاً نحو الحفرة مخترقاً الشريط الأصفر، ثم قفز في الحفرة وغاب عن الأعين..
وأكد "أشجع" بذلك تهوره الشديد لا "شجاعته"، فيما كان الأصدقاء لا يتوقعون أن يقوده تهوره إلى هذا الحد على الإطلاق، ففي ذلك مخاطرة لم يسبق أن قام بمثلها.
وما أن رأى الأصدقاء ذلك حتى بدأوا بالصياح والصراخ ومناداة العمال لينقذوا صديقهم بعد أن توارى عن الإنظار تحت الأرض ولم يعودوا يسمعون له صوتاً.
هب العمال مسرعين نحو الحفرة وهاج الأصدقاء فالتم الناس وتجمهروا في المكان.
نزل بعض العمال في الحفرة فيما قام مسؤولهم بالاتصال بمركز الإسعاف.
حبس الأصدقاء أنفاسهم، وكان الوقت يمر ثقيلاً جداً.
مضت دقائق كان شديدة الصعوبة عليهم، إلى أن استطاع العمال إخراج "أشجع" من الحفرة، ووضعوه على الأرض وهو لا يتنفس.
في هذا الوقت وصلت فرقة الإسعاف وبدأ المسعفون فوراً بمحاولة إنقاذه.
كان الجميع مصدومين من هول المشهد ويشعرون بهلع شديد، إلى أن تمكن المسعفون من إنقاذه بعد أن لفظ ماء وفيراً من رئتيه وعاد يتنفس لكن بشكل متقطع.
وبسرعة خاطفة حمله المسعفون إلى سيارة الإسعاف وهرعوا به إلى المستشفى مباشرة...
بعد أيام عاد "أشجع" إلى مدرسته..
الجميع فرحوا بعودته وصارت قصته مدار الكلام.
فرح "أشجع" بحياته الجديدة، وصار يحكي قصة "موته" القصير في كل مناسبة، ولا يخجل منها، حتى أنه كتبها ووضعها في مجلة المدرسة الإلكترونية، ليتعظ منها كل من يدعي "الشجاعة" ولا يفرق بينها وبين التهور.
انتقلت قصة "أشجع" من مكان إلى مكان، ونشرتها الصحف والمجلات.. وأجرت معه محطات الإذاعة والتلفزيون مقابلات كثيرة..
كانت تجربة مفيدة لولا لطف الله لفقد فيها "أشجع" حياته.. وكان "أشجع" شجاعاً بالحديث عنها.
ومن يومها أصبح "أشجع" شجاعاً حقيقياً، يعرف المعنى الحقيقي للشجاعة، وأنها كما قال بعض الحكماء: "فضيلة بين رذيلتين؛ الجبن والتهور".
وأصبح يردد قول (المتنبي):
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
وَلَرُبَّمَا طَعَنَ الفَتَى أَقْرَانَهُ بالرَّأْيِ قَبْلَ تَطَاعُن الأَقْرَانِ
لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ
هامش:
شرح المفردات:
- النفس المرة: الأبية.
- الضيغم: الأسد.
- الكماة: الأبطال الشجعان.
- المران: الرماح التي تجمع اللين مع الصلابة.
-
شرح الأبيات:
الشاعر يؤكد فضيلة الرأي على الشجاعة، وأن الرأي السديد يدل على مواضع الشجاعة، ولولا العقل لكان الإنسان أقل من الأسد حالاً وأوضع منزلة، وكانت الأُسود أقرب إلى شرف الرفعة وعلو المنزلة من الإنسان؛ لأنها تبلغ من ذلك ما لا يبلغه، وتدرك أكثر مما يدركه، لكن الإنسان يفضل على الأسود بعقله، ويزيد عليها بمعرفته وعلمه. ولولا العقول لما ارتقى الإنسان على سائر الحيوان.
د. طارق البكري