حمدي الحسيني - نبضات الحياة في الشعر الجاهلي

كان للعرب في جاهليتهم حصن من جزيرتهم حفظها الله وحماها، وسور من حدود هذه الجزيرة المباركة. عاشوا في هذا الحصن الممنع كراما أعزاء، أحرارا مستقلين. لا يعلوهم سلطان ولا يخضعون لمن يحاول الاستبداد بهم، فظلت نفوسهم مطلقة على طبيعتها، وغرائزهم مرسلة على فطرتها. فجاء أدبهم مرآة لهذه النفوس وصورة لهذه السجايا. قوة في المعنى مع سذاجة، ورصانة اللفظ مع بساطة. يقذف إليك العربي الحر المستقل العزيز الكريم بقطعة من الشعر فتجد نفسه مجلوة في هذه القطعة، كما يجلي وجه الحسناء في المرآة المصقولة، فتشرق عليك بقوتها وبساطتها إشراقة الشمس، لا يشوبها ضعف ولا يشوهها استسلام.

وهل يمكن أن ترى للضعف ضلا فيما يصوره ذلك العربي من صورة نفسه في أدبه وهو لم يضعف أمام ظالم ولم يخضع لطاغية غاشم.

هذا امرؤ القيس الذي كان مغموسا في ملذات الشباب مدفوعا في تيار الملاهي والمسرات، يقتل أبوه الملك، فينعاه إليه الناعي فلا تضطرب نفسه ولا يجيش فؤاده، بل ينهض للأمر العظيم وقد نسلى ملذات الشباب وملاهيه، يأخذ بثأر الملك القتيل ويسترجع صولجان الملك الضائع. هدف عظيم يثير في هذه النفس العظيمة قوة العراك والمغالبة، فيندفع هذا المغيظ المحنق، المفجوع بأبيه وملكه، بكل ما في نفسه من شدة وعنف وصرامة، يكافح الصعوبات التي كانت تقف في سبيله شامخة مستعلية، ويقاوم العقبات التي كانت تعترض طريقه متجبرة متكبرة

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب، قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

ظل يحاول تذليل الصعوبات وهدفه العظيم يثير في نفسه القوة والثقة بالنفس ويحاول إخضاع العقبات وغايته السامية تبعث في روحه الأمل في النصر.

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذ ظل يحاول حتى خر صريعا فمات معذورا مشكورا.

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت، فلم أكسل ولم أتبلد

ألا ترى هذا البيت الذي يكاد يقفز عن صفحة الكتاب، فتى مملوء النفس بالقوة وحماسة الفتوة، ويده على مقبض سيفه يلتف يمنة ويسرة ليرى القوم الذين كربهم الكرب ودهمهم الخطب، ليدعوه فيأخذ بناصرهم ويريد عنهم الكرب الذي دهم، والخطب الذي اقتحم. وأية فضيلة في قائمة فضائل البشر أعلى قيمة في التلبية التي لباها طرفه؟ وأي خلق إنساني أمتن من هذه السرعة في البادرة لنصرف المستنصر وغياث المستغيث؟

وإن أدع للجلي أكن من حماتها ... وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد

وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم ... بكأس حياض الموت قبل الّهدد

ثم ألا تنتظر إلى هذين البيتين الذين يصوران لك نفسا قوية ولكنها متسامحة، والتسامح ضرب من القوة أيضا. هذه نفس طرفة الذي خاصمه ابن عمه وعاداه ولم يترك في معاداته طريقا إلا سلكها، ولكن طرفة ينسى كل هذه المعاداة ويتسامح مع ابن عمه، ولا يقف عند حد التسامح السلبي بل يعدوه إلى المناصرة بالسيف إذا اعتدى على ابن عمه المعتدون. والويل كل الويل لهؤلاء المعتدين إذا قذفوا عرض ابن عمه الذي يعتبره عرضه، وهو في الحقيقة كذلك. وتراه يسوق كل هذه الفضائل نحو ابن عمه على متن هذه الكاف الخطابية التي جعلها بهذه العواطف النبيلة تشع نورا وجمالا.

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم

ألست ترى الحياة كلها محمولة على يدي هذا البيت من الشعر الذي تركه زهير ميراثا للعلم والأدب والفلسفة والاجتماع والسياسة. وهل الحياة غير هذا القتال المسلح ذودا عن موارد الحياة ومناهلها؟ وإذا أنت لم تحمل السلاح ولم تقاتل ولم تدفع هذه الأيدي المتطاولة إلى وطنك فماذا يكون المصير؟ أليس مصيرك أن تقع في أيدي الظلم والاستبعاد؟ وهل تستقر نفسك على هذا المصير؟ إذا كان لا بد من الظلم في هذه الحياة فكن أنت الظالم لا المظلوم.

أنا إذا التقت المجامع لم يزل ... فينا لزاز عظيمة جشامها

خذ الثقة بالنفس والشعور بالقوة رغم كل ما يوهم الضعف والخور. فلبيد، يؤكد للناس أجمعين أن قومه لم يفقدوا قوتهم ولم يزايروا قدرتهم على القتال ولا يزال فيهم من بتجشم العظائم في الأيام التي تفوح فيها رائحة الموت شهية في سبيل المجد والفخار.

إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الذل فينا

إذا اطمأن الناس للظلم حرصا على طعامهم وشرابهم وراحت أجسامهم رأيت هؤلاء الناس أفرادا وجماعات تتلظى نفوسهم آلما من وقع الخسف، وتتحول هممهم قذائف من نار وحديد لدفع هذا الخسف الذي رضى به غيرهم من عبيد الشهوات. وهل هذا البيت الذي قذف به عمرو ابن كلثوم إلا القاعدة المثلى للتمرد على الظلم؟ وهل هو إلا الطريق الواضح للانقلابات السياسية والاجتماعية في تاريخ البشر.

اثني علي بما علمت فإنني ... سهل معاشرتي إذا لم أظلم

فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل ... مر مذاقته كطعم العلقم

هذه القطعة من معلقة فارس بني عبس، تعطينا صورة جميلة لما انطوت عليه نفس الشاعر البطل من رقة مؤنسة، ولطف مغر بالمعاشرة يستوجب ثناء المحبين والعشراء، حتى يظلم. فإذا ظلم فهناك ننقلب الحال وتتبدل الأرض غير الأرض والسماء غير السماء. تنقلب الرجل الرقيق الهادي أسدا مزمجرا يقاتل دفاعا عن نفسه وذيادا عن حريته وكرامته. ويظل يقاتل حتى يدفع الظلم ويرد الأذى.

ما جزعنا عند العجاجة إذ ولوا ... شلالا وإذ تلظى الصلاء

فريقان من الأبطال يتساقيان كؤوس الموت شهيا في سبيل النصر العزيز، حتى لاح جبين النصر مشرقا لقوم اليشكري إذ ولى خصومهم فرارا من لظى الحرب المتقدة. وإنك لترى ابتسامة الإيمان بالنصر تلمع في صدر هذا البيت من الشعر كما كان الإيمان بالنصر يشرق في صدور أولئك الأبطال الذين فازوا بالنصر على أقرانهم في ذلك الموقف الذي ما كان فيه للشجاع غير النصر أو الموت.

حمدي الحسيني
02 - 04 - 1951

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى