موسى شعيب - هيفا تنتظر الباص على مفرق تل الزعتر

أسميك في السر
أرسم في الصمت عينيك
عيناك تاريخ كل الدموع
وأكتب قلبي رسالة حب
وأكتب وجهك
أكتب قلبي على وجهك ثم أمزقه

وهيفاء في الدار
في لوحة في الجدار
وهيفا تنحلّ في الكأس
تنساب لحناً لفيروز
ترحل في الخوف خلف الحدائق
وتبقى أصابعها و دخان الحرائق

وأبدأ من أول السطر هيفا
وأبدأ من آخر السطر هيفا
وفي كل سطرٍ
وما بين سطرٍ و سطرٍ
وفي نقطة الحبر
في الورق الأبيض مكتوبة بالبياض
آه يا هيفا ...

أسميك الحكايات أم العمرَ
أسميك الأزاهير أم العطرَ
بلا أنت الحكاياتُ الأزاهير
و أنت العمرُ والعطرُ
وأنت الوجع الصارخ فوق الجسر
يا هيفا ... أسميك بلادي
"مرةً واحدة، ودونما حذر ... أجيئك
مغرورقاً بالندم. أنهمر عليك شوقاً حجمه
العمر. شظاياي تسّاقط فوق وجهك المهموم،
وعلى صدرك المترع بالمواعيد.
مرةً واحدة. ودونما خجل ... أقول لكِ:
يا حبيبة السنوات الجميلة الراحلة".

يا جرح الأمس النازف في حنجرتي
يا وتري الضائع
يا صوتي الهارب من بين الكلمات
الآن أسمِّيكِ
الآن أغنِّيكِ
الآن ...

أمتشق الذكرى وأجيئكِ
أحمل حزني وأجيئكِ
أجمع أشياءً راحلةً، وأجيئك
ألقي بين يديك الذكرى والحزن وكل الأشياء.

الآن الآن ..
أشواق العمر اجتمعت في شهقة عينيكِ
اشتبكت في أحزان الشعر الملقى منذ صباي
على كتفيكِ ...
وعاد الصيف يمرّ دموعاً فوق دروب الضيعة
الأيام تكرّ سريعاً

والحبّ يعرّش في القلب كعلّيقة.
وعيون الفتيات تمرّ على القلب
تنقّره
والخجل العربيّ يعرّش في القلب
يميت عيون الفتيات وأحلام القلبِ ...

وحداءات الزمن الغابر تمطر في قلبي ألحاناً
أحزاناً
ألواناً
سُوَراً لا يعرفها إلا الله وعرافون من التاريخ
أفتّش عنهم
أعرفهم ... لكنيَ لا ألقاهم ...

في الزمن الغابر كان العرافون يطوفون على الناس
يسمّون الأشياءَ بأسماء رائعة ٍ...
في الزمن الغابر كان الناس يطوفون على العرّافين.
وفي الزمن الغابر ...
في الزمن الـ ...

وزمان الورد يمتد على مرمى التوابيت
ويأتي
مترعاً بالشوك والبارود.
والبارود يأتي
مترعاً بالورد ...
آهٍ يا زمان الورد والبارود
كم تنبض بالحبّ وبالموت
وكم تولد في أهداب هيفا؟!

عبرت هيفا حدود المدّ والجزر،
ارتمت ضاحكةً فوق طريق العين
هيفا ...
دخلت في الليل تبكي
أشرقت قنبلةً في شارع "الأسعد"
ماجت بين عطر الورد والبارود
وانحلّت على الجسر دموعا ...

كانت هيفا تنتظر الباص على مفرق تل الزعتر
يخفق صدر هواها بالأحلام
ويمتدّ هواها
من كحلة عينيها
حتى أول جرحٍ في عيني يافا ...
كانت هيفا تنتظر الباص. ولا تعلم
أن الدرب الفاصل بينهما
أطول من عمر هواها ...

كانت بيروت على الشرفات مواعيدا
وهوىً مكتظا ً بالورد
هوىً يتهيّأ للرحلة خلف الورد
وينشرُ للصيف ضفائرَه
كانت هيفا تنتظر الباص
وتحلم بالصيف،
وتضحكُ ...
لمّا اشتعلت كلّ الشرفات

هيفا تسقط من شرفات الوردِ
وهيفا تطلعُ من وردِ الشرفات
هيفا تضحكُ ...
هيفا تبكي.
تضحكُ ... تبكي ...
تضحكُ ...
يشتعلُ الوردُ
وتشتعلُ الشرفاتُ
وهيفا ...
تنتظر الباص على مفرق تلّ الزعتر

تروح السنونو ...
تجيء السنونو ...
وقلبيَ شبّاكُ همٍّ عتيق.
إلى أين تعبر يا غيم؟
والريح باب على الموت،
و عينا حبيبي سراجان في الليل ...
في الصيف ينطفئ الليل،
تغدو الحكايا بلا أجنحةْ ...

وفي الصيف يمتدّ حتى الضلوع الصباحُ
وتمتدّ حتى الدموع الجراحُ ...
ولا يلد الظلّ غير النعاس،
ولا يشتعلْ
سوى حزن هيفا.
ولا يرتحلْ
سوى قلب هيفا.
وتغدو الحكايا بلا أجنحهْ ...

وفي الصيف تنكر أعشاشها الطيرُ
تبكي الحقول مواعيدها
يصير التراب بلا رائحهْ.
إلى أين تعبر يا غيم؟
يافا ارتحال السواقي إلى البحر،
يافا الحكايات،
يافا دموع الحكايات،
يافا الليالي المليئات بالهمس والأضرحهْ ...

إلى أين تعبر يا غيم؟
كل السواقي إلى البحر ترتدُّ
والبحر يحضن يافا ...

أناديكِ ملءَ الدروب التي انحلّ جسمي
عليها تراباً.
أُناديك ملءَ الحقول التي أنبتت لون وجهي.
أردّكِ لي
من زمان الحكاياتِ،
من وحشة الخوف والذكرياتْ.
أُعيدك وجهاً بلون الطفولة والأغنياتْ.

ألمّكِ من بين أنقاضِ وجهي،
وكلّ الوجوه التي غرّبتني.
وكل الدروب التي بعثرتني ...
أعيدك لي.
أُعانق خصركِ،
أُجدِّل شعركِ،

ألقي زماني على صدرك الشتويّ،
أقول: ابتدئ يا زماني ...
أعيدكِ لي.
صيفيَ القمريَّ، وأسطورتي،
ودمعة عشقٍ تسافر فيك وتكبر حتى حدود
الفجيعهْ ...

وأنا أنتظرتك في ارتحالي،
فارتحلت وأنت تنتظرين ...
كان الصيف يعبر خلف أدمُعنا،
وتقترب الأصابع من حدود النار ...
كلّ حواجز التفتيش كانت في انتظارك
وانتظاري ...

كان الزمان يدورُ
والسنوات تهرب من أصابعنا
وكنَّا في المكان ندور
أسرى للزمان وللمكان ...

وأنا التقيتك في ارتحال الخوف
بين الورد والبارود،
بين الموت والذكرى ...
تقاطعت الخرائط
فاتحدنا.

وأنا التقيتك عند خطّ النار
وجهي كان محترقاً.
ووجهك كان محترقاً ...
تبدّلت الخرائط
فاتحدنا.

وأنا التقيتك في التشرّد والتمرّد
في الحواجز والجنائز،
في الخنادق والبنادق ...
في الدم المشحون نفطاً
في الدم المعجون خبزاً
في الدم المصنوع أوسمةً ...
تشابهت الخرائط
فاتحدنا.

وأنا التقيتك كيفما اتجهت خطوط الطول
أو ذهبت خطوط العرض
"يوضاس" هو المصلوب
"والجولان" لا يدري!
تحوّلت الخرائط ...
فاتحدنا.

وأنا التقيتك في التقاطع والتبدّل
في التشابه والتحول.
تلك غربتنا
وعودتنا.
وتلك حكاية الوطن الممزّق في توحّده
الموحّد في تمزّقه!
تمزّقت الخرائط
فاتّحدنا.

درب يافا لولبيّ
مثل أحزانك يا هيفا.
وللزعتر طعم النار
للماء شهيق الدم
والحلم هو الطاعون.
هذا زمن القتل على الحلم ...
وهذا مهر يافا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى