فاروق أوهان - حنينٌ بلا ضفاف

القصّة :

تقديم
وهل للغربة ضفاف
يدخل يونس الشقة التـي اسـتأجرها؛ ليقيـم فيهـا فـترة الخـريف، والشتاء؛ ريثما ينتهي من مهمته التي قدم من أجلها؛ فيقوم بالنتقل بيـن الصالة؛ والغرف؛ والملحقاتح وعندما يذهب إلى الشـرفة تجتذبـه الشـمس ببريقها المنعكس عن مياه نهـر الدانـوب؛ وفـي الأسـفل، يـرى حديقـة كبيرة؛ تراكمت الأوراق المدرجة الاصفـرار عـلى أرضهـا؛ بينمـا تعـرّت الأشجار من أوراقها؛ لتفسح المجال لرؤية أعشاش الطيـور؛ ولفتـت نظـره شجرة قريبة خلعت أوراقها؛ ولم يبق عليها سوى وريقات تعمقت صفرتها حتى اقتربت إلى اللون البني الغامق؛ وبـدت مـن خـلال الأوراق الأرجوانيـة الغامقة الاحمرار بعض أعشاش الطيور؛ ورأى واحدا منها وقد بدا متمـيزا عن غيره؛ مبنيًّا بلا تنظيم، وبفوضى وعشوائية؛ كأنـه عش لطـائر حـديث السكن في وكره، لم يحسن بناءه؛ لأن أجـزاء مـن جسـد الطـائر قـد بـدت ظاهرة؛ لم يستوعبها العش؛ ويبدو أن الطائر قد تحصن بـهـذا العش الـذي صنعه لنفسه مؤقتا . رفع يونس قبعته التي تعوّد على ارتدائها؛ والتي لا تفارق صلعته حتى داخل البيت؛ وقد اضطرته الضرورة الآن لازاحتها؛ لكي تتمكن عينـاه من النظر إلى السماء؛ فرآها صافية؛ تعكـرت زوايـا الأفـق؛ بمـزيج مـن السواد والاصفرار المتناقضين في الحدة؛ وكأن عاصفة هوجاء قد مَرّت من هنا؛ وسكن بعدها كل شيء .
وبغير اهتمام أعاد القبعة إلى رأسه؛ وقام ليعود إلى الداخـل، حـيث أمور أهم؛ وأكثر استعجالا؛ لكن يده ارتطمت بأصيص تركه الساكن السـابق على سياج الشرفة؛ فـوقع أرضـا؛ فخـاف أن يـزعج صـوت ارتطامـه بـالأرض الجيران الذين تحته؛ والذين على يمين شرفة شقته؛ فركع بخفة ليجمع مـا تبقى منه؛ آملا ألا يكون قد تهشم؛ ولحسن الحظ فإن الأصيص لـم يـكسـر؛ فقام على الفور بجس التربة؛ فوجدها جافة؛ وعروق النبتة يابسـة؛ فعمـل على لملمتها؛ عساه يستطيع علاج الأمر لعل النبتة تعـود لهـا الحيـاة؛ عندما يكون الربيع على الأبواب .
وفكّر يونس في نفسه: لعلها إحدى بصيلات الزنابق التي يغلـب عـلى سكان الشقق الاحتفـاظ بهـا؛ فـإذا مـا كـان الـربيع؛ تزهـر شـرفاتهم؛ وشبابيكهم بأجمل الأزهار؛ وتذكّـر يـونس شـرفات البيـوت فـي مدينـة طليطلة، وحنّ لتلك المشـاعر الجميلـة التـي تتركهـا فـي النفس تلـك الحارات الملونة بالأزهار، لكن ظَنّ يونس خـاب عندمـا وجـد النبتـة جافة .
ودخل مسرعا إلى مصدر المياه في الشقة؛ ليعود بماء يسـقي النبتـة علّ بصيلات تحت الجذور لم يلاحظها؛ تنبت على حـين غـرّة وعندمـا رفـع الأصيص ليضعه على حافة السياج لم يجد له ذلـك المكـان الكـافي؛ فهنـا صندوق من صنع آدميّ لعش مهجور حديثا، كأن أيدي عابثة قـد لعبـت بـه، فأزاحت انسجامه؛ وحانت منـه التفاتـة إلـى الشـجرة القريبـة؛ خـال أن الطائر المنتظر يختلس نظرات متوجسة له، ربما يكون هو صاحب هذا العش .
وقام يونس لتوه، بتقليل حركاته العريضة؛ والأصوات التي يحدثهـا بسيره، فحرص المشي على رؤوس أصابع أقدامه، وتحاشى الالتفات وهو يدخل الدار، بل وحرص على إقفال الباب لتطمين الطائر؛ وفكّر وهـو مـن وراء الزجاج، وقد انعزل تماما عن عالم هذا الطائر .
والآن وقد صار يونس إلى وحدته، فرح كثـيرا لأن حيـا آخـرا ربمـا سيشاركه في بيته الجديد، لو استطاع أن يستدرج هـذا الطائر إلـى هذا العش، ليعيش مستأنسا؛ مع كائن حي يبعد عنه وحشته الدائمة؛ وقد افتقـد كثيرا طيور بلده الأليفة؛ فكيف له من خلق الألفة؛ وتجاوز الوحشة، ومن ثم الصداقة، فكّر في ذلك للحظة: ثم ضحك لغرابة استطراده؛ فمجيئه هنا كان للوحدة من أجل إنجاز البحث .
لقد اعتنى كثيرا بالحصول على نمط معين من البيوت، في هذا المـوقع، وهذا الهدوء، فهو يطـل عـلى جـزيرة مـارغريت – MARGIT SZIGET. مـارغيت سغت، ومن بيته يشرف على جزء هام من المدينة، حيث النهر ينساب أمامه، تحت الجسور الستة التي يراها من هنا، ويرى النهر واضحًـا مـن المكـان الذي يجلس، في كرسيه الهزاز دون الحاجة لأي مجهود، ومـن موضعـه سـيرى النهر في كل الأوقات، منذ شروق الشمس، وحتى غروبها، وعـلى مـدى تغـير الجو في اليوم منه، شروق، ثم مرور غيوم، ثم أمطار، وبعدها غـروب، كـل ذلك يراه منعكسا على صفحات ماء النهر، حـتى أنـوار الأضـواء الملونـة للجزيرة، أو المراكب التي تمر منها وإليها، سيلاحظها دون عناء يذكـر، والأهم أن يراقب الطائر أيضّا، وإذا ما نهض سـوف تلـوح لـه قمـة جـبل GELLERT غلليرت ، فـي منطقـة CITTADELLA وقـد ارتفـع فوقـه تمثـال النصر، يقود إليه ممر جسر ERZSBET آرزبت، أي اليزابيث الـذي يوصل بين الضفتين، بودا، وبشت .
جال يونس بصره في الداخل، مستطلعا المواضع التي سيعمل ضمنها في أرجاء البيت، هنا سوف ينشر أوراقـه، ويرتبهـا عـلى الأرفـف الفارغـة، والمناضد، والأسِرّة، والحيطـان، فـي كـل مكـان سيسـتعمل لـه وسـائله للتثبيت، دبابيس في الأخشاب، وكلبسات في ورق الجدران، والآن وقد قـرر التفرّغ للترتيب فمن أين يبدأ . ونهض ليفتح الثلاجـة، ففـاحت رائحـة غريبـة ذكّرتـه بـروائح سـوق السراي ، في مدينة الموصل ، فانتصبت دكاكين البقالين أمامه، منبعثة من خلال رائحة ماء عين كبريت *، وقـد امتزجـت فيهـا روائـح الهـال، والعطرة*، والمستكي، والجوري ، والناس يذهبون، ويعودون، من مكان إلـى آخر، ومن دكان إلـى أخـرى، والباعـة يعرضـون بضـائعهم المسـتديمة، أو الأغذية الموسمية مثل الجبن بأنواعه جبن كرد، وجبن البيزة*، والجـبن المثوم أو قيمر* الجاموس الموصلي، أو القشطة التي لا تظهـر إلا فـي موسم حلب الأبقار، في شهر نيسان، وتذكر أيام كان فتى، وكان قد صـار دوره في العائلة، لكي يستيقظ من الصباح الباكر، فيشتري للأهـل الخـبز الحار،والقيمر الطازج، من سوق الشعيرين ، الذي عاش لفترة طويلـة فـي حاراته، يمّر كل يوم أمام جـامع النبـي جرجـيس وبـرد الخـريف يقـرص أصابعه، وأذنيه، فراحت يده تفرك إحدى أذنيـه لا إراديًّـا، ورغـب فـي تذكر علامات المواسم من منتجاتها، فلكل موسم خضراواته وفواكهه، صيفية مثل الرمّان، والتفـاح بخـدوده الملونـة وخريفيـة، مثـل السـفرجل، والجوز، واللوز، والحبة خضراء، والسسي* ، وشتائية، مثـل البرتقـال، والنارنج، والليمون بحامضه، وحلوه ، وفجـأة تذكـر يـونس سـوق بـاب الطوب ، وباعة الخبز الحار، إلى جانب ما في السوق من متناقضات، خصوصا محل بيع حـوائج أكلـة الباجـة *، وكـم اشـتهى أكلـة باجـة فـي مطعـم الحاتي ، بشارع الشيخ عمر، فـي بغـداد بعـد سـكرة فـي أحـد نـوادي الموظفين، مثل العدل، أو المحامين، أو الموسـيقيين، أو الكهرباء، أو حتى مواخير الفنادق من الدرجة الثانية، كمواخير فـي كل من فندق البحرين ، أو فندق سرجون على شارع أبي نؤاس ، وعنّت عـلى بالـه أن يقوم بشراء بعض حوائج أكلة الباجة ، ولكن من وكيف يطبخها، الأجدر أن يفكر بأكلة كشك *، أو أكلة قره زنككي *، أو أكلة سـمّاق الـربيع ، أو أكلة كبة الموصل ، ولكن هذه كلها صعبة التنفيذ، ربمـا إذا توفـرت الحنطية أو البرغل، فمن الممكن أن يقوم بعمل طبخة من أحدهما، ولكن من أين له الوقت، وفكّرَ بأهمية وجود مطعم عربي فـي مثـل هـذه البلـدان، لكنه أبعد كل الاستطرادات هذه ليقوم على عجـل بجـرد حاجيـات الثلاجـة وتنظيفها لكي يقوم بملئها باللوازم التي ستتوفر لهذا اليوم، وبعـد أن أعد قائمة المواد اللازمة، وضع الورقة في مكان مناسب لكـي يمضـي بهـا إلى مجمع دكاكين المنطقة ليشتري ما هـو متوفـر، وإلا، فـإلى الأسـواق المتخصصة .
ومباشرة انتبه يونس إلى الحمام، فرأى من الواجب عليه تنظيفهـا؛ قبل الإغتسال، لكنه بعد أن نظفها أرجأ اغتساله إلى بعد تنظيم، وتنظيف البيت، وتذكر حمام بيتهم الموصلي التركي، كيف كانت جدته توقد فرنها من الخارج، وتتعب كثـيرا بعمـل الجـمرة الرئيســة التـي سـتبقى طـوال النهار، وحتى الليل، هذا لو تصادف وأن جمرة الليلة السابقة قد خـمدت، وكم اشتاقت نفسه للاغتسال، بل لغطسة فـي مـاء النهـر، يعـوم مـن ضفـة دجلة اليمنى في محلة الفيصلية حتى إذا ما سحبه التيار يخـرج عـلى الضفة اليسرى عند محلة الدوّاسة يكون قد وضع ملابسه على رأسه، طوال قطعه المسافة بين الضفتين، كما يفعل بحقيبته طوال مدة غربتـه ، لكـي لا يضطره ذلك العودة من جديد، وذلك لأنه سيقوم بزيارة بساتين الفسـتق في محلة الدوّاسة ، ومنها يتزود بالفستق الأخـضر مـن عـلى الأغصـان، ومنها يتزوّد بالعطر، والحب، فهو على موعد مع حبيبته سـهام ، جارتـه في الركن الملاصق لبيته من الحي الخلفي لدار أهله، فهـذا موعـد خـروج الحبيبة من مدرسة الدوّاسة المتوسطة للبنات، وقد انتهت مـن دروسـها اليومية للدورة الصيفية، لكن مجرد تذكر الماء، والنهر جعل القشعريرة تسري في أوصال يونس ، وهو يرى منظر مياه الخريف فـي نهـر الدانـوب المصفر اللون، فشعر ببرودة الخريف على ضفاف نهر دجلـة التـي ودعهـا منذ زمن طويل، وكم حنّ لأن تستقبله إحدى الضفتين، فـي كـل مـرة يعـود إليها تعبا من سباحة طويلة وبنفس واحد من الضفة الأخرى، لكن يبـدو أن سباحته هذه المرة قد طالت، وليس من أمل لكي يصل إلى واحـدة مـن ضفتـي دجلة الحبيب، الفيصليـة، أو الدوّاسـة، الكـرخ، أو الرصافـة ، وهنا بين بودا، أو بشت .
ونفض يونس كل خيالاته ليفكر من جديد من أين يمسك خيوط عمله مـن جديد، وفطن هنا إلى أنه بانتقاله إلى هذا البيت الجديد، بل وإلى هـذه المدينة، وهذا البلد في درب غربته الطويل، التي قضاهـا ملازمـا لمـدن تعيش على ضفاف الأنهر، وبخاصة نهر الدانوب ، ذلك الهاجس الذي يسـكنه دائما، ولا يعرف لماذا، بل لقد عزاه كثير من أصدقـاء الغربـة إلـى أن الذي يولد، ويعيش في مدينة لهـا ضفتـان، لا يسـتطيع العيش بمـدن بـلا ضفاف .
ويفكر يونس ، بأنه الآن وبترتيبه للغرف، والأماكن، إنما يسـتعيد بذاكرته، حواسه المشتركة مع الوطن، كان قبلها قـد شـك فـي بقـاء أيـة رابطة بينه وبين الوطن، ربما لأنه لم يكن يعيش في بيت وحـده، أو ربما لم تتيسر له الظروف، لكي يتخذ له بيت وحـده فيقـوم بإعــادة ترتيبـه، وفكر متندرا إذا كان هذا البيت كعالم صغير قـد اسـتثار حواسـا كثـيرة لديه، تدفقت كلها بهذا الزخم، فكيف لوطنه الكبير إذا ما فكر هو وغيره بالعودة لكي يسكنوه، كم من الأمور يحتاجها للترتيب، وكم من النوايـا، والأفعال، وردودها، بدلا عن الحواس سوف تتفجر، لكن هيهات له من إعادة ترتيب أمور وطنه بهذه السهولة، إن ذلك يحتاج لمعجـزات، ومـن شـكه فـي قدراته على استرجاع بعض هذه الأمور الحسية، تفاجـأ إلـى أنـه كـم مـن الأمور الصغيرة قد برزت، ربما تبدو تافهة في نظـر الآخـرين لـو سـردت عليهم في غير هذه المواقف، لكن الحواس لا تتحدد بمـا يقـاس، فحدودهـا مواقع الاستثارة، ومفاتيحها الربط، والاقتران .
كان يونس بهواجسه هذه قد دخل إلى الصالة، وفكر في طريقة لإعـادة ترتيبها فوضعها الحالي لا يتلاءَم مع حاله كفرد مستقـل وحـده، وفكّـر فجأة بالمادة التي سيكتبها، وابتأس لظنه السلبي إذ ربما لن يخرج بأية نتيجة، طالما يداخله مثل هذا الشعور عندما يطلب منه شيئّا بحد ذاتـه، ورغم توفر الإمكانـات في هذه المرة، ومنها فرصة السكن في بيـت وحـده، وبعزلة تامة. وانتبه إلـى أن أهـل الـدار الـذين تركـوه، لـم يـتركوا إلا نسخة واحدة من مفتاح الباب الخارجي ربما سيجده بيـن الحاجــات فـي البيت، كما قالت له وكيلة شركة الاستِئْجار IBUSZ ، وعندهـا بـادر بالبحث عنه فلاحظ أن البيت لعائلة لديها أطفال، فهذه كراريس مدرسـية، وتلك ألعاب تركت لأنها محطمة، بعـضهـا يشــبه القطـارات، والطـائرات، والسفن، كلها وسائل نقل، وسفر، ولاحظ أيضا الدمى المتناثرة الأشـلاء، لأكثر من واحدة بقي من هذه كتف، ومن الأخرى رأس، ومن ثالثة بقي البدن ومن رابعة جسد ورجلين، وهكذا، ووقعت يده على شريط تسجيل أصوات حـاول يونس الاحتفاظ به كأنه قد عثر على أحد مفاتيح عالم آخر، فلم يتـوان من وضع الشريط في جيبه، وحانت منه التفاتة إلى الوراء، بل استدار حول نفسه كأنه يخشى أعين المتلصصين، وهو يسرق شيئا ثمينا، وفكر : إنه شيء مهم، لعله يساعدني على معرفة طبيعة تفكير أهل الدار من قبلي، وقال:-
– أتمنى أن يكون ما في الشريط، بلغة أفهمها .
وخاف أن يسمع أحد صوت سره، فسكت وقد اطمأن إلى الكـنز فـي جيبـه، لكنه فكر بأن الشريط بحاجة لآلة تسجيل، عله يشتريها من السوق، وتحـول يونس إلى ما يسمى مكتبة، فهي هيكل متهالك من الرفوف، المسنودة عـلى الجدران بمثبتات بارزة، وتذكر كم من مكتبة كونها في الوطن، وحرقت بعد أن يهرب من دار إلى أخرى، حتى هاجر فحرقت كـل كتبـه ومـا يتعلـق حـتى باسمه، وربما قطعت صوره التي يقف فيها مع أصدقائه لأن هؤلاء سُيسألون للمرة الألف عنه، ويعذبون مرات إذا ما شوهدت صورته معهـم، أو شـوهدوا مصورين معه، فقط صورة التخرج هي التي يسلم صاحبها من الاتهـام، ولكـن لن يسلم بالطبع من الأسئلة، ومد يده لما تبقى من الكتب، وما كـان قـد صُف هنا، فوقعت يده أول الأمر على بعض الكتب الهنغارية التي غالبا ما يتركها صاحب الدار يحسـبها منـة عـلى المسـتأجر، هـي كـبعض الحاجــات العتيقة التي لا تسـتأهل حـتى الخـزن، بـل الـرمي فـي النفايـا، مثـل أدوات المطبخ المهشمة، والقذرة، وها هي ماكنة خياطة يدوية، بقي منهـا الهيكل فقط، كم تمنى لو يتيسر له الوقت أن يعيد لهذا الهيكـل هيبتـه، ومن خلال الماكنة أن يعيد بعضًا من هيبة هذه الـدار، كـأن يخـيط بعـض الستائر القديمة ببعضها ليغطي المهملات، وأنصـرف عـن المكتبـة مؤقتـا عندما شغلته فكرة التفتيش فـي مهمـلات صاحبـة الـدار الأصليـة، وفطـن لتركيزه على كون صاحب الدار سيدة، وليست سيد، ذلك ما أحسه منذ دخولـه الدار لأول مرة، وتمنى ألا يخطِئ حدسه، ورفع الأشياء القديمة من فـوق بعضها التي كانت قد جمعت في زاوية الصالة، قرب إحدى زوايـا المكتبـة. هذه نفايا لا ربط بين حوائجها، أسلاك كهربائية، منشـار، غطـاء غسـالة ملابس قديمة، تمثال من الطين صنع بيـد فنـان فطـري، نحاسـيات هنديـة، بقايا آلة كاتبة، أدوات شطرنج مبعثرة، ود لو يعثر على النسخة الثانية من المفتاح، وينتهي من هذا العبث غير المجدي، لكـن بـروز هيكـل لآلـة تسجيل الأصوات، أنساه المفتاح فهّم بحرص، وسرعة مبالغين أن يرفعها من بين هذه الأنقاض، لكي يقوم بستر النفايا تحت ستارة أو شرشف، كما تستر العرايا عوراتهن، ودون أية بادرة أو مزاج في ترتيبها، وفكر ها هو قـد حصل على بغيته، من هذه النفايا التي احتقرها :
– آااااه لو تمنيت أشياء أخرى، أكثر قيمة !!!
وأجابه ظنه، بنفسه :
– لكن أليست هذه من الأشياء الثمينة التي يتمناها الفرد في حيـاة التشرد .
ومهما كان حال آلة التسجيل هذه، فسوف يسعى حتى لقضاء نصـف يومـه هذا من أجل أن يصلحها، كيف لا وهي المفتاح لعالم، سيرضي الشـريط، والجهاز فضول يونس، وحرص أن يضع الجهاز في مكان آمن، لا يسقط منـه، ريثما يتفرغ له.
وحانت منه نظرة إلى الهاتف، حاول تجربته لكن مـزاج الهـاتف، ومـن وراء الخطوط، يبدو أنه غير رائق اليوم، وضحك معلقا :
– لا بد أن الغيوم قد منعت الاستجابة .
وكأن الهاتف حجر، فرفعـه مـرة ثانيـة وانتظـر، فأرسـل هـذا صوتـا كالأنين :
– ونننننننننننننننننن .
وعاد لا إراديا الآن إلى المكتبة التي تركها، وحيث تـوقف، تاركـا التدقيق في الكتب الهنغارية، فهنا أيضا كتب لاتينيـة، وأخـرى روسـية، وغيرها، ومجلات، تعجب كيف لم ينتبه إليها، إنها مجـلات عربيـة، ربمـا كانت مغطاة وفي أثناء تفتيشه بين النفايا رفع شيئا من فوقهـا فتكشـفت له الآن فقط، وقلّب في الأوراق، هذه بعض نشرات لسفارات عربيـة، وهـذه مجلات لمنظمات ممنوعة في الوطن الكبير .
وبفضوله المعهود عثر على قصاصات أوراق اجتهد في جمعها ليدخل بها إلى غرفة النوم، لكي يقوم بتقليبها على مهل، ريثما ينعس لينام خصوصـا وأنه قد قرر ترك غرفة النوم على حالها، لأنها تذكره بغرفة نومه التـي نهبت عندما هـرب مـن الـوطن . وقـرأ مـا احتوتـه القصاصـات، حسـابات متفرّقة،الملابس، دفاتر الصغار، أحذية، ملابس رياضيـة، مصـروف الأكـل الشهري ، مقسما ذلك على راتب الإعانة الشهري الـذي لا يكفيـه، وتذكـر يونس أولاد أخواته، وإخوانه البالغين رقم أربعة وثمـانين حـتى أخـر خبر وصله عنهم، فيا حيرة أهلهم بمصاريف غذائهم، وملبسهم، ومدارسهم .
وتحت هذه المجموعة وقعت يده على بقايا لجرائد وصحـف ممزقـة، حـرص المستأجر على تمزيقها لكنه لم يستطع إتلافها بالكامل، ونفـذت مباشـرة إلى حاسة شم يونس رائحة جرائد محروقة اسـتدرجها مـن ذاكرتـه، عندمـا يفاجأ أهله بغارة لشرطة سـرية فـلا يجـدون أسـهل، وأقـرب مـن الجـرائد لحرقها بسرعة، وقرأ يونس بعضا من الأوراق التي تبـدو أنهـا مخطوطـة ممزّقة، فيها مواضيع متناثرة لما يصلح لرواية، وتحتها وجد قصاصات ورق يتكرر فيها اسم طائر .
– آاااهه الطائر كم مضى من الوقت، ولم يُعن على بالي الطائر .
– ربما لا يكون المقصود هذا الطائر الذي رآه في الخارج اليوم .
هكذا فكّر للحظة، وهّم للنهوض إلى الشرفة ليتأكد من عودة الطائر إلى عشه، لكن رغبة أهم سكنته، وهي قراءة ما هو مكتوب، فهنـا مـا يـدل على مذكرات الأب حول تفاهم الأسرة على تسمية طائر حـلّ ضيفـا عليهـم، وقد أجروا استفتاء على الاسم الذي سيدعونه به، فقد كانت رغبـة البنـت الصغيرة، أن يكون الاسم هنغاريا، واقترحت اسم أربـاد ، ولكـن الولـد كان يصر على اسم يمام، اسم ابن أصدقاء العائلة في مدريـد، سـرعان ما غير رأيه إلى عراق، اسم ابن صديقهم في مدينـة كوبنهـاغن ، لكـن أخته اقترحت اسم فيان ابنة صديقتهم التي حصلت على لجوء من ألمانيا، أما الأم والأب فقد كان في ذهنهم اسم مشترك بينهـم وبيـن الـوطن، هـو سلمان، فيرضى الجميع لأن أباهم ولسبب لا يعلمونـه، يـدعى مـن قِبـل رفاقه بأبي سلمان رغم أن سلمان الذي تعلق صورته في الصالة، يـراه الصغيران أكبر بكثير من أبيهم، وحـانت مـن يـونس إلتفاتـة ليسـتعرض جدران الصالة، ليتأكد من وجود الصورة، لعله يتعرف عـلى صاحبهـا، فلـم يجد إلا أثر حافاتها الأربع على أحد الجدران .
هناك هامش في ذيل إحدى القصاصات غير المكتملة أن هؤلاء، قـد فـرض عليهم ترك البيت عنوة دونما ترتيب لأن السلطة هنـا، قـد قـررت ترحـيل المشتبه بهم بناء على الأحداث الحاصلة في بلدهم، ودون حساب، ولا سابق إنذار، لذلك لم يسع العائلة جمع كل الأشـياء بهـذه السـرعة، ولا حـتى تمزيق البقايا، وإتلافها بالكامل، فأين للطائر من مكان سـيلمهم معـه، لذلك تقترح الزوجة أن يحتفظـو بنسـخة المفتاح الثانية، ريثما تتوافـر لهم الفرصة بالعودة لأخذه عندما يستقرون، ويفكّر يونس لبرهة :
– هذا هو إذن مصير النسخة الثانية من مفتاح البيت !
وتجتذب يونس هذه الحالة، وتبعده عن هاجسه، مـرة وتقرّبـه مـرات كثيرة من البحث الذي جاء ليكتبه هنا، ويتبـادر إلـى ذهنـه ربمـا كـان مقصودا له، أن يوجه لاختيار هذه الدار بالذات، لكنه تذَكّر، كيف سـعى وبصعوبة بالغة، من خلال أساتذة هنغاريين للحـصول عـلى موافقـة وكيلـة إيجار الدار، التي كانت تمانع، لمجرّد سماعها اسم يونس محمد لقمان ، ورغم كل التعهدات بعدم استغلال البيت في أمور مما درجـت عليهـا سـمعة العرب هناك، ولم ترضخ إلا عندما توضح لها بأن يونس يحمل جواز سفر من بلد راقٍ متحّضر .
ومن تلهّفه لمعرفة المزيد، تحركت يده لا إرادايا إلى جيبه ليتحسـس الشريط الذي التقطه من بين النفاية، وفكّر ربما يكون بهذا الشريط فكرة لأهل الدار الذين سبقوه، ويلقي الضوء على ما علمه لحد الآن، مادام قد وجد مسجل صوت، وتمنى أن يكون ما زال صالحا للاستعمال، لكـي لا ينقطـع كثيرا عن متابعة ما بدأه، وقام ليربط الجهاز بالكهرباء، ووضـع الشـريط في محله، وفجأة سمع وقد ذهل صوت لأغاني أطفال يعرفها، لأنها بلهجة أهل بلاده فهنا في الشريط صوت امرأة تعلم طفليها أنشودة للصغار :
صوت الأم – ابدَئِي أنت يا صفية ..
صوت صفية – لا،، لا أريد ليبدأ بيان قبلي إنه الأكبر وهو يعرفها أكثر مني، هيا يا بيان هيا …
صوت بيان – لا أريد، لا … لا، هيا يا أمي أعيديها لنا …
صوت الأم – حسنا أسمعوها ولكن لأخر مرة، كيف لكما أن تعرفا الوطـن وأنتما لا تجيدان أبسط أناشيده، ألا تذكران نشيد :
– جبهة الشعب؟
صوت صفية – نريد :
يا طيور الطايرة، مري بهلي …*
صوت بيان – لا ،، لا،، نريد :
ويه الطيور الطايرة، أبعث سلامي الكم ….*
صوت الأم – يكفي السهر يبعاد ننطر رسائلكم …والآن ما رأيكـم فـي
تريد كلمات الشاعر في قصيدة يا دجلة الخير * .
صوت بيان – لقد حفظناها …
صوت الأم – وقصيدة شناشيل ابنة الجلبي *
صوت صفية – أنا .. أنا أحفظها، ها.. أبدأ؟
مطر، مطر حلبي
عبر بنات الجلبي
عبر بنات الباشا
صوت الأم – لا، لا يا صفية القصيدة …
صوت بيان – لا، يا ماما، نريد شيئا من شعرك، ألم تقـولي لنـا أنـك شاعرة شعبية؟
صوت الأم – لا،،، لا يا ولدي، كنت أكتب الشعر أيام الجامعـة فقـط، ولكني سأنشد لكما قصيدة لشاعر كنا نكتب قصائده، ونتغنى بها أيام الدراسة الجامعية …
صوت بيان – نعم، نعم التي فيها سفن، السفن، والسفر ..
صوت الأم – زلمنه تخوض مي تشرين *
صوت بيان – التي فيها اسم سعود، صديقنا الذي يعزف على العود؟
صوت الأم – ها، نعم ، نعم
هذوله احنه *
سرجنه الدم
عله اصهيل الشككر
يسعود
صوت صفية – لا، لا، إنا أريد غير هذه …
صوت الأم – أعرف، أعرف ماذا تريدين، يا صفاوي الحبوبة *
رديلي الفرح رديت *
معضد باب يبجيني
واحن حنّة حمامة بيت
و يتحشـرج صـوت الأم، يعقبـه صمت، ، ،ثم .. والآن كيف لكما أن تستضيفا طـائر الـوطن المهـاجر إلـى هـذا البلـد مثلنـا، وقد جاء يستجير بنا وبدارنا؟ كيف سـيتآلف معنا؟ ولا يحس بالغربة كما يحدث لنا هنا؟ هل تتذكر يا بيان أسئلة الصغار معك في المدرسة عن بلدنا وأهلنا؟ إذن يا أولاد اسمعوا جيدا .
تقول أنثى الفخـاتي لصديقتهـا، أو جارتهـا التـي حـضرت تجاور عشها على الشجرة :
– كوكوختي، منين أختي ؟*
وترد عليها جارتها التي جاءت لتستجير بها :
– من الحلة …
– أين تنامين؟
– عند اللّه…
– و شتاكلين ؟
– رزق اللّه…
– شتشربين ؟
– ماء اللّه … إلخ
وينتهي الشريط فجأة، فيقوم يونس للبحث في قصاصات الأوراق، التـي يعتقد أن فيها أهم جزء من القصة، وما يدور حولها من أحداث أوليـة أدت إليها، فيحاول إلصاق المتوافق بين القصاصات، لعله يجد أصل قصة الطائر هذا، ويتذَكّر لأول مرة كم من الوقت مضى بعـد أن دخـل ناسـيا الهـاجس الذي شده للدخـول وتـرك الطـائر عـلى سـجيته، وهـو جـعل الطـائر يحـس بالاطمئنان، بعد هروبه إلى تلك الشجرة المقابلة لشرفة الدار، لعله ما يزال يراقب زوال الخطر، أو عودة أهل الدار إلى بيتهم، ويقترب يـونس من الحافة المحاذية لنافذة الشرفة من الصالة، وبتلصـص الخـائف يحـاول رصد حركة رفيقه الذي سيبعد وحشـته، وهكـذا يلمـح اقـتراب الطـائر مـن الشرفة بتحوله إلى شجرة أقرب، ويفكّر يونس في سره :
– إن ما سمعته في هذا الشريط، قد تـم تسـجيله قبـل مجـيء الطـائر، فماذا كان يجري هنا قبل ذلك، وكيف حلّ الطائر ضيفا عليهم؟
ويعود إلى الأوراق لعلها تنجده، ويقرأ في القصاصات التي اسـتطاع إلصاقها ببعضها ملاحظات الزوج اليومية :
إن الطائر قد جاء كهاتف، دعته زوجتي في حلمها، لزائـر مـن بلادنـا التـي طالمـا طـال انتظارنـا لـه، خصوصـا بعـد اشـتعال حـرب السـنوات الثمان،وقد جاء الهاتف على شكل طائر الفخات .. ويقول الزوج في موضع آخر من القصاصات :
إن زوجتي كانت تتمنى أن ترى أي شيء له علاقة بالوطن طالما قد حرمت نعمة الوصول إلى هناك، لا فـي زيـارة، أو حـتى السـماح لهـا بمكالمـة هاتفية حرّة غير مقيدة، ولا رسالة مرصودة من رقابة، فهل يا ترى يتحقق حلمها الذي كثيرا ما كررته، فتجلس صباح كل يوم وتذهب إلى الشرفة كـأن هاجسا يدعوها لأن شيئا ما سيأتي من الشرفة وليس من الباب، فقد أقفلـت كل منافذ الوطن، لا رسائل، ولا هدايا لـذلك ليس للبـاب أهميـة لديهـا لأنها لن تنتظر لا ساعي البريد، ولا صديق سيكون قدومـه علينـا سـعدا، إنما أملها في هذا الفضاء الواسع الذي لا تحده حدود، ولا خطوط مرسومة عليه، ولا شمع أحمر يمهر بخاتم الحاكم . إنها تتـوقع قـدوم شـيء مـا، ولكن ماذا سيكون هذا الشيء، وكيف سيقدم إلينا من فضاء الشرفة .
وهكذا كان لها كل يوم أمنية، وقصة، ووسيلة تتخيلها، لعله يكون في الختام طائرا تحاول أن تستعجله بالنداءات المتكررة، لعلهـا تفيـد، أو تشعر القادم بالآلفة،وها هي زوجتي تبدأ نداءاتها الجـديدة منـذ صبـاح الربيع الثاني العاشر لهجرتنا متذكرة أغاني الطفولة وهي :
– كو كو ختي وين أختي ….
لعل هذه الترنيمة تجتذب بنغماتها أحد طيـور الفخـات الضالـة، ولـن يغيب عن بال زوجتي منذ ذلك اليوم نشيدها الصباحي بـل أنهـا تحـاول أن تستبق فجر هذه البلاد بساعتين لتوقته مـع فجـر وادينـا العـريق، حـتى استجاب لها الحظ، وُقبلت نداءاتها، وذلك عندما هـرعت إلـيّ فـي أحـد الصباحات مولولة كالخرساء، وقد عقدت المفاجأة لسانها، لكي تخبرني بأن فختية فاختة قد حطت على سياج شرفتنا، ولماذا فاختـة، مؤنثـة، وخـلت للوهلة الأولى أن زوجتي قد اختبلت، فلففت رأسي بالحاف لأتجـنب واقعـا جديدا سأظل أعاني منه في الغربة، فوق كل الآلام السابقة، لكنني سـمعت صوت الفاختة في الشرفة المتجاوب مع نفخات شفاه زوجـتي المقلـدة لهـا، وقد عقدت أصابع كفيها أمام فمها، لتكوّن تجويفا يصدر الصـوت المشـابه لأصوات الفواخت هكذا :
– كوخ، كووووخ، كوكووووووخ، كككوووكككووو، كوكوختييييي .
ويأتي الجواب متقنـا، حريفـا مـن فاختـة متعجبـة، مسـتغربة، ولكـن مستأنسة :
– كُكوختي، كُكوختي .
ثم تنقطع عن ذلك طويلا، لعلها تريد التأكد من الجواب، فيما لو كان آدميا أم لطائر من بني جنسها، كل ذلك جعـلني أصحو على الـوطن، وكأنـه قد ولد بيننا نحن الثلاثة رغم بعد المسافة، ورغم تقطيـع كـل الأوصـال بيننا وبين وطننا الغالي، فقمت لأتحقق من الواقعة، وفي خاطري شيء أهم هو أن أعرّف طفلاي بيان، وصفية على رائحة الوطن التي فقداها، فقـدا كل خيط يوصلهم بجذورنا، فضاعا في العالم من غير هوية، وقـام الطفـلان وهما يفركان عينيهما، كأنهما قد دعيا لاستقبال بابا نوئيل* في إحدى ليالي شتاء هنغارية، ذكرتني بليالينا الشـتائية، ونحن أطفال في محلـة القلعة بمدينة كركوك ، تجمعنا مع أهلنا في بيت جارتنا أم نازلي ، ونحن منصتين، إلى أبي نازلي، الراوي التركماني يغمور يلانجـي، أو دروين بالكردية، أو دوجلانه بالأشورية، وتعني كلها الكذّاب، و يغمور يرقص الدمى عرائسه المشوشكة على أسياخ فوق طاولـة مسـتديرة يحركهـا بأصابع قدميه من أسفل، تحت غطاء الطاولة، نتلهى مرات بـالزحف تحتهـا، لنرى فنه المتوزع على مختلف أطرافه بتناسق، بينما تلعـب أصـابع يديـه فوق على أوتار طنبوره * وقد راح يروي لنا قصصه التي لا تنتهي، وعندما يختتم فاصل يربطه بأغنية كردية، أو أخرى آشورية، أو ثالثة ماردينيـة، ورابعة تركمانية، وربما إذا توافر له المجال، وكـان هنـاك مـن الـذين يسهرون معه من الأرمن أغنية أرمنية، وبين أغنية وأخرى مواويل عربيـة، وأغاني من المقامات العراقية، فيغني عندما يلاحظ يغمور الكذاب ، بعد مرحلة سرد قصصية، أن النوم قد دب لعيون بعضنـا، لكـي يضطرنـا لـترديد المقاطع الحيوية معه، ولما نفرغ معه مـن الأغنيـة وقـد عـاد النشـاط إلينا يعود إلى قصته الأصلية، وأهلنـا هـم مـن أكـثر المتشـوقين إلـى القصص، عن الأغاني، التي يفضلونها في نهاية السهرة بينمـا تبـدو لهـم هنا، فواصل تقطعهم عن سرد قصة الملكة أبريزا من ألف ليلة وليلة .وقد دعي يغمور بالكذّاب لأنه ربما كان يقوم بإضافات معينـة دخيلة على الأغاني الشعبية البسيطة، فيها مقاصد التي لم نكن نفهـم أبعادهـا آنذاك، أو لربما دعوه كذابا لسبب يتعلق بهوايته في القص والرواية، إذ أن مهنته الأصلية كانت الندافة .
وعند نهاية السهرة تعلو الأصوات بالأغاني، وقـد تـواردت خـواطرهم، ليقوموا بغناء أغنية خدري الجاي *، وتتنقل الأصوات من مقـام بغـدادي إلـى أخـر حـتى نهايـة السـهرة، لا يسـتطيع يغمور الكـذّاب الوعــد بالاستمرار للذين يطالبوه به، فيؤجل كل شيء إلـى مسـاء الغـد، بينمـا يستمر الجمع الساهر بالغناء، فهذا يبدأ أغنية يا صياد السمك *، وذلك يغني أغنية بطة وصدتني *، وهذا يقلد المغنية سـليمة باشـا ،* وتلـك جدة محمود تقلد صوت المغنية زكية جورج * في أغنية وين رايح وين * أما المغنية عفيفة اسكندر * فقد كان نصيبها للفتيـات الصغـيرات، إذا ما قبل أهلهن .
وبمجيء الطائر يعلم طفلي أن شيئا من أمنيات أمهما قد تحققت، تماما كما يتحقق ما يوعدون به من هدايا سيجلبها لهم بابا نوئيل * الهنغاري لذلك يعتبرون أن هذا هو أحد الأشياء التي لا تستعصي على الكبار مهمـا عظم أمرها، لأنهم كبارا ليس إلا، ولا يقدر الصغار بهذا التفكـير، مـا هي المعانات، والآلام التي يعانيها الكبار، ويكابدونها عندما يحـرمون من أشيائهم، تماما كما يحرم الصغار من ألعابهم، لذلك تحاول زوجـتي أن تبدأ مع صغيريها التدريب على تقبل أشياء الوطن التـي فقدهـا فعسـى أن نعود فجأة للوطن، حين ذاك سيلاقي الطفـلان صعوبـات فـي التـأقلم عـلى معطيـات الـوطن مـن إيجابيّـات أو سـلبيات، وهكـذا تبـدأ أم الطفليـن برنامجها اليومي مع إشراقة شمس كل يوم جديد على وطننا .
وتقلد زوجتي صوت الطائر كل يوم، كأنها تريد بذلك أن تذكره، وتذكير نفسها بخصوصيات الوطن التي لا ينتبه إليها، إلا هؤلاء الـذين قاسـوا آلام الغربة، فصارت حتى روائح قـص النباتـات تذكـرهم بحـوادث مختزنـة عميقًا في جوف الذاكرة، وجيوبها، وكم من مرّة حنت زوجتي إلى جلسة شرب شاي في حوش دار أهلها في مدينة البصـرة ، من عصاري شـهر آب ، آب اللّهاب الذي يدخل المسمار في الباب *، وتشم التراب مـن خـلال رائحـة الثيل الذي قطعه البستاني حديثا، آه ذلك الغبار الـذي لا يـأتي إلا في هذا الشهر، طوز الرطب غبار رطب البلح، هذا الغبار الذي لا تنضـج دونه حبات رطب التمر في أعالي النخيل، وتسحب زوجتي نفسًا عميقا كأنها تحاول إستقدام روائح الوطن من أواسط العراق، ومن جنوبـه وشـماله بشـق الأنفس قائلة لطفلينا :
– يا للّه، يا لها من رائحة، رائحة عبق الوطن الزكية تزكم الأنـف، روائح مركبة من زهور القدّاح، والشبو الشـجري، والخـزام، والاثـل *، تأتي وكأنها رائحة غبار طلع النخيل على ضفاف الفراتين .
وتجري الدموع من مآقيها، وتسـتعصي الحسـرة فـي صدرهـا، لا تخـرج، وإنما تتدافع في زفرات متكررة، من غير إرادة محسوبة، ويحار الصغـيران مما تشكو أمهما، وماذا ألَمّ بها هكذا فجأة، فتأتي صفاوي بشـقاوتها لتلاطف أمها، كأنها تلاطف دميتها، أو كأنهـا تقـوم لتمـارس دور أمهـا عندما تلاطفها هي من زعل، أو بكـاء وقـد عكسـت الـدور فـي واحـدة مـن ألعابها كما تفعل الفتيات من بنـات جنسـها، فتقـول لأمهـا بصـوت الأم لإبنتها الذي تشخصه، لكنها ما تزال تلفظ حرفي السين والشين، ثاء :
– قومي حبوبتي*، قومي يا حلوة ياحبابة، يا بنتي ليلوايه ليـلى ، ليلوايه حبابة وبيتها على الشط، ليلوايه حبابة وبيتها في العامرية .
عندها تضحك الأم من بين دموعها، محاولة التغلب على آلامها، بينما يكون بيان قد هرب إلى الغرفة الثانية متواريا مـن الخجـل، خجـل مـن رؤية الكبار يبكون فذلك شيء لا يطيقه، وتقوم ليلى لتوضح لهمـا كـيف انتقلا هي ووالدهما إلى حي العامرية فـي العاصمـة بغـداد بعـد أن تركا محلة بابا ككرككر في كركوك ، منطقة النار الأزلية، منـذ فجـر التأريخ، وتستعيد لهما لقائها مع أبيهما فـي الجامعـة المسـتنصرية ، وقد جاء هو من مدينة كركوك ، ليدرس الفلسفة ، بينمـا جـاءت هـي مـن مدينة البصرة لتدرس علم النفس ، وتعود ليلى أمهما بهـذا المدخـل لتمارس واجبها في تعليم أولادها أشياء كانت سوف تنساها هي نفسها، مـن تأريخ بلادنا، ثم تعلمهـم قواعـد اللغـة العربيـة، وحكايـات الآبـاء، والأجداد، وقد بدأت الأن أكثر اهتمام بجزئيات أخرى، ذكّرها بها طـائر الفخات، هذا الزائر الذي استعارته لبرهـة مـن الـوطن، ريثمـا يعـودون جميعا .
– كو كوختي، وين أختي …
تكررها لمرات، لتستحث الطائر، ومن بعدها يرددهـا الصغـار ، بينمـا ينصت الطائر باهتا، ثم بعد صمت لا يطول يجيب أو تجيب لأنهم جميعا فـي العائلة يتمنونها أنثى لكي تتكاثر، ولكن لا بد للأنثى هي الأخـرى مـن ذكر يلقح بيضها، ولم تعصى الصغيرين الحيلة فقد اقترحـا مؤقتـا، وإذا ما تأخر لحاق الذكر بها أن يزوجوها من ذكر، فخاتي هنغـاري، يشـبه الفخات العراقي، كما فعلت صديقة العائلة أم مريم، عندما تأخر عليها الزمن، وطال غيابها في الغربة، فخافت من العنوسة، فبادرت للـزواج مـن معجب إيطالي، فالعمر يمُرّ، والحياة واحدة وليس في غربة ميلانو رجل من وطنها يتناسب وصفاتها البابلية، ويعطيها حقها، وقيمتها .
ويقرأ يونس ملاحظـات عـلى التقـويم الحـائطي الممـزق، مـن خـلال تأشيرات على مواعيد مختلفة من أيام السنة، أهمها مواعيد أعياد الوطن ويوم حلول الطائر ضيفا عليهم، وأعياد ميـلاد كـل مـن بيـان وصفيـة ، ومناسبة الزفاف، ويوم الرحيل، كلا، كلا، ربما يوم الهجـرة، لكـن يـوم الهجرة مدوّن في أعلى القائمة، ربما آه يوم الهجـرة الثانيـة، لكنهـا هجرة مفاجئة، أجل فقد كتبت في نهاية التقويم، وعـلى عجـل خـريف عـام 1990، دون تحديد اليوم، لعلهم يقصدون يوم تـركهم هـذا البيـت عنـوة، لذلك لم يحددوا اليوم، لكن لماذا ترك التقويم، وقد مزق من الوسـط، إن ترك البيت بالتأكيد قد هدم كل تلك الآمال، والعشرة التي بـدأت تتوطـد بينهم وبين الطائر وبعد أن طالت المحاولات، ولو أن الطائر كان قد دجن
بالكامل لكانوا أخذوه معهم، ولكن إلى أين ما دامـت العائلـة لا تعـرف إلى أي اتجاه ستذهب، فهي الآن منفيـة مـن جـديد، فعـلى الأم أن تـرعى فرخيها بالدرجة الأولى، لعلها خمنت أن الطائر كمـا جـاءهم بالدعـاوى، ولحق برائحتهم، فإنه سوف يتعقب آثارهم ويقتفي رائحتها ما دامت بدايات عشرة عميقة قد قامت وبدأت تتوطد .
ويتعهد يونس بالقيام بإعادة ما فقده الطائر من أمـان واسـتقرار، وأن يغري الطائر بالعودة للعش، الذي قرر أن يعيد بناءه بنفسـه، وكمـا يتخيله مبنيا على غصن شجرة توت في الحوش الخلفي لـدارهم، فـي محلـة النجارين، وفي القيلولة تأتي أصوات الفخاتي دون غيرها لكـي تلحـن له أغاريد النعاس بعد غذاء موصلي دسم، وفي أيام حزيران بخاصة، حـيث يتساقط التوت الناضج على الثيل ، حيث يفضـل يـونس قطفـه بيديـه، ورغم تحاشيه لإزعاج العصافير، والطيور، لكنه يفضـل الصعـود إلـى غصـن متوسط العلو، فيقوم بقطف الناضج بيده، ويتذوّق هامسا لنفسه :
– هذه حلوة، وهذه حلاوتها ممزوجة بالحامض ألمِز ، وتلك فجة وتلـك بأربعة خدود .
ويفكّر يونس حينهـا بـأن هـذه الألـوان، تشـبه مـا جـاء فـي رؤى حزقيال النبي، للوجوه الأربعة التي تخيّلها بخدود ملونـة هـي، خـدّ أبيض، وخدّ وردي، وخدّ أحمر، وخدّ رابع شرابي اللون، وهذا هـو مـا يفضله يونس اللون الشرابي، مثل لون أصبـاغ قمـاش الموسـلين التـي تشتهر به مدينة الموصل منذ زمن طويل، وحبة التوت الشرابية اللون تكون كلها ناضجة نبيذية المذاق والرائحة .
– آآآآآههههمممممم …
هكذا، ويلتهم الحبات الواحدة تلو الأخرى، وبعـد أن يتمـلى نظـره، وتكتفي نفسه من المـذاق، يقفـز مـن العلـو، والصغـار أبنـاء الأخـوة، والأخوات يلاحقونه، وقد خرج يونس عن وقاره، وصار طفلا صغيرا مثلهم، يلاعبهم، ويلاطفهم فيزاول رمية مـن إحـدى لعبـاتهم الطفوليـة، بينمـا تتبرع واحدة من الصغيرات بحبة توت لكي ترضيه، يقلدها البعض الآخر فـي ذلك، لأن موعد نهاية الشهر قادم، وخمسون فلسا، أو مائة فلس، سوف تدخل في جيوب كل منهم، سوف يتفاجأون بها عند الصباح في جيوبهم، حسب السـن، والاجتهاد بالدراسة، وكأن الفخاتي هي الأخرى تشاركهم ابتهـاجهم فـلا تهرب من دخليها، لكنها تزيد من غنائهـا، وترديـدات الواحـدة للأخـرى، عندما تبدأ الأولى فيأتي الجواب من الثانية، إلى الثالثة إلـى رابعـة فالعاشرة، وتنقلب الحديقة الخلفية للدار إلى عرس مجلجل كل يطـرب عـلى هواه، والعريس هو خالهم، وعمهم الذي يحبوه ويفدوه بكل غالي، ومن خـلف الجدار صوت حبيب آخر يغني معهم، وهو صـوت سـهام الحبيبـة الموعـودة التي طالما مدت رأسها من الزاوية الملاصقة لسياج دارهم الخلفية، لكـي تتناول حبة من حبات التوت التي قطفها لها يونس، تلتقطها طائرة، مـع قبلة هوائية عاجلة، بعيدة عن أعين الجيران، والحسّاد ……
-كوكوختي، ….كوكوختي،….كوكوختي …
وتعج قيلولة الظهـيرة بـالفرح والغنـاء، والـتراكض والصيـاح بـلا نهاية، ليس كصياح، وتراكض اليوم الذي التجأ فيـه يونس خلسـة، لجـذع الشجرة نفسه، وعلى عجل، وكأن الكل كـان متفـق معـه، الأولاد واجـمون، والفخاتي حريصة معهم، تراقب بعيون الحذر، والحيطة إلـى المصـير الـذي سيؤول إليه عزيزهم يونس ، لو أن أيا منها أخرج صوتا في هـذا الوجـوم المتحفّز، المشؤوم والمقيت، والكل يستعجلون صعوده، وتسـلقه مـن خـلال الغصن إلى جدار الجيران، لكي ينفذ من فتحة فـي الزاويـة، هاربـا إلـى الحارة الخلفية، عبر بيت سهام جيرانهم المتأملة بفرحة عرسها منه، وسوف ينجو من كمين الشرطة السـرية التـي جـاءت لتـداهم الـدار، ويشـم يونس من خلال نجاته روائح حـرق جـرائد الصحـف، والكـتب، وقـد تـبرع الأطفال بدفعها في كور الحمام التركي المـوصلي الـذي يلتهـب عـلى مدار اليوم، ويستقبل أفواج أطفال الأخوات المستحمين، الـذين يصـارعون من اكتواء أرجلهم بنيران الإسمنت الحار لأرضية الحمـام، وهـم يتلهـون برفع إحدى الرجلين لكي تبرد، بينما تشـوي الأخـرى إلـى حـد الاكتـواء والصراخ، ولا يـبرّد السـعير إلا طاسـات * المـاء رغـم حرارتهـا هـي الأخرى، والسرعة في أخذ الواجب في الاستحمام، ماء، ثم حفنة ككيـل *، ودورالتكيس*، ثم فم دور ليفة بالصابون، وأخيرا يجيء السعد مـع دور الشطف بالماء، ثـم الهـروب بمنشـفة تغطـي الجسـد حـتى أعـلى السـاقين هاربا إلى حيثالأم في غرفتها، لتضعه تحت لحاف سميك من الصـوف، ريثمـا يجف عرقه، ويبرد جسمه، حين ذاك تعتني بإلباسه حلته النظيفة .
وتقوم الشرطة باختراق كل محرّم دون رادع، وتسطو على مـا يقـع تحـت يديها، ولما ترى الجرائد المحروقة تنقعها بالماء، لتقرأ فيها الأخبار الرسمية فقط، وقد احـترقت نصـف صـورة الحـاكم، حـينذاك تكـون مهمتهـا الأصلية قد فشـلت، ومحاولتها في صيدها الثمين، قد ضـاعت سـدى، فتقـوم لتسحب معها الجد الخرف كغنيمة سوف تلبسها تهمة حـرق الصـورة، لكـي لا تفشل أمام الرؤساء أو تعاقب . وتهرع الجدة خلفه مولولة، وقد عافت أفواج الأولاد في الحمام يقرفصـون مـن فـزع الشـرطة الـذي تركـز عميقـا فـي ذاكرتهم، كلما رَنّ جرس الدار . فيبكي طفل، وتفزع بنـت، وتـزوغ عيـون صبية أكبر، وتبهت أكثر من فاختة، فتلم جناحيها على صغارها العش . لكن عم البعض، وخال الآخرين، قد نجا مرة أخرى، وصار ألآن في مأمن من أعين السلطة، كما كان قد حصل مع النبي يونس الذي سمي هو على اسـمه، حـتى اصطاده الحوت ولفظه سالما، غير أن حوت الغربة، لم يلفظ يونس العصري من منافيه، ولم يزل يسكن جوف التجوال بلا قرار، رغم النذور التـي مـا تزال جدته، ووالدته، تقدمانها إلى ضريح النبي يونس، في حي نينـوى *، مطالبتين، بعودة الابن، والحفيد، كما وهبهم إياه طفلا الشفيع يونس ، وذلك يوم ذهبتا تطلبانه من النبي، وقد حملتـا شـمعة صفـراء ابتاعتهـا الجدة من سوق السراي، وتذّكر يونس كيف ودعته سهام مـن بعيـد، يـوم استقل قطار طوروس السريع !! آنذاك، فرأى لؤلؤتان تلمعان عـلى خـذيّ حبيبته سهام ، لأنها شعرت بأن لا أمل لها في عودة الحبيب، ومــع هذا تبقى على العهد، لكن لا رسائل، ولا أخبار، منها أو منه، حتى قـرأ ذات مرّة، في إحدى رسائل الأهل إليه، وبشكل مبطن أن أهل سهام قد أجبروا على تزويجها من ضابط هددهم بارسال والدها إلى الحرب ..
قام يونس ليذهب إلى الشرفة بعد هذا المشوار الذي ربط بين حياتـه، وبين حياة أبطال هذا البيت، وكأنه كان يعيش في بيت مسـكون بـالأرواح، وسحب نفسه إلى الشرفة كأنه عاش في هذا البيت منذ دهر، وما إن فتح باب الشرفة، وكانت الشمس في أصيلها تودع نهر الدونـا ، كمـا يـدعى هنـا، لتختفي خلف جبل ورد الجوري ROZSA DOM ، فاجأه قدوم الطائر إلـى عشـه رغم أن هذا لم يتم ترتيبه كاملا، لعل الطائر اطمـأن لوجـود سـاكن فـي البيت، أو ربما وصلته دعاوى ليلى ساكنة الدار السابقة، ففرح كثيرا، ووعد أن يقوم صباحا لترتيب العش بينمـا يتـنزه الطـائر فـي البسـتان، ويطير فوق النهر، في جولة رياضية، مقررة، وفكّـر يـونس بـأن الـوقت مناسب الآن لكي يذهب، للتسوق، فدخل إلى غرفة النوم لكي يبدل ملابسـه، لكنه ولتعبه أحب أن يستلقي قليلا، وما هي إلا ثوان حتى كان يغط في نوم عميق، فوجد نفسه محاصر في الوطن، هناك جدران عالية لا يستطيع الخـروج منها، لكن ما صبره، هو مشاهدة أحد أصدقائه الرسامين الذين مـا زالـوا في الوطن، ربما هو الآخر سجين مثله، يقوم هذا بمساعدة زميلته التي لا يشعر بأنها غريبة عليه، ومن الألفة لم يتعب نفسه في التعرف عليها، أو على اسمها، ربما هي ابتسام ، أما الرسـام فتـارة هـو عـلي ، وأخـرى طالب ، وثالثة سالم ، أو رافع ، أو ناجي ، أو مهر الـدين ، لكـن رسم اللوحات كتوائم ثلاث، التي تكمل بعضها حتى فـي الإطـار هـو الـذي شغله الآن، و طالب الآن هو الذي يرش الدهـان عليهـا، تبـدو بارتفـاع صالة عرض مسرحي، بـل هـي الآن موجـودة فـي صالـة عـرض معهـد الفنـون الجميلة القديم في منطقة الكسرة * واللوحة بتفاصيلها تتداخـل فيهـا الأجساد رؤوس بلا رقـاب، كلهـا وجـوه مفتوحـة الأفـواه، كأنهـا تريـد التصريح بشيء، لكن هذا الشيء محبوس داخل صندوق الصوت، كأنها في كابوس ليلي، لا يقوى حالمه على الصراخ، وإنما هناك حشرجات، من خـوف، وألـم، وجوع، وفزع من مستقبل غامض، ارتسم التعبير الأخير في العيون الزائغة، بينما يقوم الرسام وهو سالم الآن، بإحاطتهـا بالسـواد مـن أطرافهـا العليا، بينما ترسم ابتسام في أسفل اللوحـات الثـلاث، زهـور قانيـة الاحمرار، كأنها دماء هؤلاء وقد تناثرت قطراتها هنـا وهنـاك، فتفجـرت على شكل زهور شقائق النعمان التي تزهر في شهر نيسان، يقال إنها زهـور الشهداء، ولا يجد يونس نفسه إلا وهو يحمل نعشا، له أرجـل يخـرج بـه إلى الشارع باتجاه منطقة باب المعظم يريد الوصول إلى منطقة كـرادة مريم * حيث كـانت قائمـة هنـاك، وإلـى يـوم تغربـه، مصلحـة السـينما والمسرح لكي ينفذ على خشبتها ديكـور لمسـرحية سـاعة القيامـة ، مـن تأليفه، وإخراج جاسم العبـودي *، ولكـن المسـافة تطـول، ويجـد نفسـه محاصرا من جديد في منطقة السـجن المركـزي ، غـير أنـه يسـتطيع أخـير اجتياز سياجا عندما يطوي النعش ويرفعه تحت إبطه، غير أن مقـامرين مـن الجنود الفارين يصطادونه، لا لشيء إلا ليعطيهم سـجائر، لكي يدلوه على الطريق، ولكن هيهات له الخروج ، فالدروب كلها محاصرة، وهو كمـا يبـدو الآن قد ارتدى زيًّا عسكريًّا، فكيف له التخلص . ويصعد سطح، وينزل من آخر، الأبواب مغلقة، والجدران مهدمة، والمهملات كثيرة. ولكـن لا ماء فالعطش قاتل، وكلما يقترب من أمل في وجود منفذ، يرى أمامه حارس، يرصده بزاوية عينه من بعيد . ويتمنى أن يتعلق بجـنح طائر مهمـا صغـر حجمـه، ليخرجه من هذا الحصار، وإذا ما سقط خارجه لا يهمه إن مـات، أو تكسـرت أطرافه، لأنه مهما سيكون حاله، فهو خارج جـدران السـجن. ويعلـو تغريد طائر يراه قادم من بعيد، يغرد بشـتى أنـواع أناشـيد الـوطن، لكنـه لا يقترب ولا يهبط، وتظل أعين يونس ورأسه معلقان إلى فوق بشـكل مشـدود إلى التغريد وقد تداعت إليه أصوات كل الطيور في وطنـه، وبخاصـة طيـور الفواخت في على شجرة توت حوش دارهم الخلفي، ويبقى منتعشًا رغم تعلّـق رأسه وعينيه إلى أعلى بوضع مؤلم جعله يفيق، وها هو يسمع غنـاء طـائره وقد شق الفجر مبسمه على الدنيا المجرية ، فيعرف أي كابوس كريه سـكنه في الحلم، فيقوم بفرك رقبته من تشنج أصابها . ولا يستعجل الذهاب إلـى الشرفة ما دام الطائر مستأنسا، فقط حاول مرة أو مـرتين تقليـده، لكـي يشعر الطائر من جانبه بأن الساكن الجديد من أهلـه هـو الآخـر، وهكـذا تنشأ الألفة الجديدة بين مغتربين .
وفي أحد الأيام بعد أسبوع أو أسبوعين، وبينما يقوم يونس بكتابـة الملاحظات الأولية، وتجميعها، لتتشكل كمادة للفصـل الأول مـن روايتـه التي قرر أن يكتبها كشكل مناسب للمادة المطلوبة منه، وقد شغله ذلك عن كل ما حوله، كل شيء حتى أهل الدار قبلـه، وقصتهـم، فيحـس بحركـة قـرب الباب الخارجي، أو لعلها في المطبخ القريب من الباب الخـارجي، ولأنـه منشغل كثيرا، لم يعِنّ على باله أن أحـدا سـوف يسـرق منـه خلوتـه مـع أوراقه، وطائره الذي استكان أخيرا، لكنه يتذكـر أن المسـتأجر القـديم لديه نسخة من المفتاح، وفكر في نفسه بأن لا ضير بل سـيكون سـعيدا لـو قابله، ربما سيضيف بعدا جديدا لمادته .
لكن يونس يفاجأ بصوت رنين الجرس، وعندما فتح يونس الباب، بادر القادم بالتحية بلغة أهل البلد، ولكن بلهجـة ومفـردات ضعيفـة مضحكـة، بادره الزائر باللغة الإنجليزية، وقام هذا بالاعتذار لأنه قطـع عليـه خلوته، فقد جاء ليعيد المفتاح الذي ظل لديه، و،، و،،، ولم يرد يـونس لأبي سلمان أن يكمل، خوفا من كذبة بيضاء يقع هذا فيها، فيتشكل موقف لا يمكن خروجهما عنه، كذلك لكي لا تزول من ذاكرة يـونس تلـك الصـور التي شكلها عن أبي بيان وعن عائلته، كأنما كان يقرؤهـا فـي روايـة، وخرج الآن أحد أبطالها مجسدا أمامه، وفكّر في سره أن يرجِئ الحديث عن أي شيء، أو الاستيضاح حول الهدف الحقيقي من الزيارة لعله الطائر، لكن الأوراق ربما تكون في نظر الـزوج أهـم، وسـارع إلـى مبادرتـه الكـلام باللغة العربية طالما تأكد له أن الواقف أمامه هو أبـو بيـان فقـال يونس :
– تفضل بالجلوس ..
– أنت عربي، أقصد عراقي؟
– نعم ..
– أنا عمر يوسف سلمان الساكن السابق لهذه الدار ..
وغبط يونس نفسه بأن هذه المعلومة كانت قريبة من متناوله لـو فتش في الأوراق مرة أخرى، لكنه أنّب نفسه لفضولـه وتطفلـه، وهـا هـو يـرى الرجل وكأنه شبه عاري أمامه، يعرف عنه أكثر مما يعرف هـذا عـن واقعه، لكن يونس يتعشم بالمزيد، لعل المحاورة، وإعادتها معه تفيده، ترى ما سر عمر الذي أخرج من داره عنـوة، وهـو فـي عـداد الملاحـقين بجنحـة البقاء غير المشروع في البلد، فكيف يخفي نفسـه، وعنــد مَـن، ولمـاذا يجازف بالبقاء، وهو تحت طائلة القانون، لا بد أن هناك أمورا سوف تسوى من أجل الإعداد لرحيل عمر وعائلته أو أنه مجبر على البقاء فهو أهون الشرور .
وتبادلا الأحاديث طويلا كل يجـترح مـا بداخلـه، رغـم أنهمـا بـدأا متحفزين، بل إن عمر بدا متخوفا من يونس وقد سكنه الشك في أن يكون المقابل له من أزلام السلطة، لكن الاطمئنان سرعان ما عَمّ الجـانبين، فالهموم مشتركة، والمؤشرات على التوافق واضحـة، الأسـماء، والأحـداث، والمفارقات كلها تؤكد أن الاثنين عمهما ضيم واحد رغم خصوصية التفاصيل بينهما، فللظروف التي عاشاها أحكامها، وقبل أن يتوادعـا، وعد يـونس بتبني الطائر، لحين انجلاء الأمور واستقرار العائلـة، فإنـه سيسـلمهم الأمانة التي حفظها لديه .
وفي أحد أيام مطلع عام 1991، يعود يونس إلى الدار، بعد أن أرسـل روايته لدار النشر، يرى ريش متناثر فـي الحديقـة الأماميـة للبنايـة، وعندما يصعد، يذهب إلى الشرفة ليزور زميل وحدتـه، فـلا يجـد الطـائر، وينظر إلى الشجرة فلا يراه، لكنه يرى جمهرة من الأطفال والمسـنين فـي الحديقة الخلفية للبناية، وقد التف الجمع حول شيء مـا كـأنهم ينظـرون إلى حادثة دهس، أو يشيعون فقيدا، ومـع هواجسـه نـزل بسـرعة إلـى حـيث الجمهرة، غير مبالٍ باللغة التي سيتفاهم بها مع الجيران، وكان الجواب بعد كل المعوقات، أن نسرا أقرعا،غريبا، جائعا هاجم الطائر وهو يتشـمس على الشجرة المقابلة للبناية، ولأنها ظاهرة غريبة لـم تحـدث إلا منـذ بدايات هذا القرن مرة، وقبيل منتصفه مرة أخرى، فزع الرجـال المسـنون، متذكرين كلتا الحادثتين، فحثوا الصغار على احداث ضوضاء، عالية وصراخ، ومن فزعه منهم ارتبك النسر الأقرع ، خصوصا عندما حـاولوا رميـه بمـا تيسر لهم، وباشتداد صياح الأطفال ترك النسـر، الطـائر الـذبيح يتلـوى فعطفوا عليه، بذبحه، ولم ينتظروا صاحبه الغريب، وها هـم الآن يطلبـون مساعدته لهم على دفنه .
وعند رجوع يونس إلى الدار ينتبه لورقة علقت عـلى حافـة البـاب، مكتوبة بحروف عربية، فأخذها بتلهف ليقرأ فيها :
– عزيزنا السيد يونس ، لقد قررنا أنا، وزوجتي، وولـديّ بالاجمـاع أن نهبك الطائر سلمان نهائيا، لأننا قد حصلنا أخيرا على حق اللجـوء إلى إحدى الدول الشمالية، فها قد ضاع منّا كل شيء .

22\6\1991



هوامش :
* عين كبريت،- اسم عين ماء تنبع، وتصب في دجلة مباشـرة، فـي الجهة الشمالية من مدينة الموصل، يؤمها المرضى، وتؤثر في مذاق ماء دجلة في الموصل، ويمييز رائحتها كل زائـر جاء من بعيد إلى هذه المدينة .
* العطرة – نوع من العطور التي تنمو فـي المـوصل، وتـوضع أوراقهـا الطرية أو الجاف في الشاي لتطيبه .
* البيزة – نوع من الأعشاب، تعطم بها الأجبان .
* القيمر – قشطة الجاموس .
* السسي – ثمرة نبات الكعوب، أو العكوب تسـتخدم لـدى المـوصليين
فقط كنوع من أنواع المكسرات .
* الباجة – أكلة الأقدام، والرؤوس، والمحاشي .
* الكشك – أكلة تتكون، من نبات السلق، والحنطية، تخمر، وتنشـر فـي الشمس، وتطبخ مع الكبة .
* الحنطية – مدقوقـة الحنطـة، تطبـخ مثـل الـبرغل، أو يعمـل منهـا الهريس .
* القره زنككي – أكلة من أنواع الكبـة، تطبـخ مـع التمـر، والتين، والزبيب، وناشف المشمش .
* يا طيور الطائرة، مرّي، على أهلي، أغنية سعدون جابر .
* مع الطيور الطائرة أبعث سلامي، يكفي سهر أيها المبتعدون – أغنية رضا الخياط .
* يا دجلة الخير، يا أم البساتين – قصيدة شاعر العرب، محمد مهـدي الجواهري ، يعيش منذ فترة طويلة في المنفى .
* شناشيل ابنة الجلبي – عنوان ديوان، وقصيدة للشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب الذي مات في المنفى .
* من قصيدة سفن غيلان ازيرج :
أزلامنا تخوض في ماء تشرين
على طول البردي تنتظر
* من قصيدة عشاير سعود :
هاتان القصيدتان، والقصيدة التي تليهما للشاعر
المنفي، مظفر النوّاب .
* صفاوي الحبوبة – لفظتا تدليل ل صفية الحبيبة .
* من قصيدة جنح أغنيدة :
ردي إليّ الفرح رديت
حلقة باب تبكيني
وأحنّ حنين حمام البيوت .
* كوكوختي – صوت طائر الفخات .
* الطنبور – آلة موسيقية شعبية أصغر من العود، وبيـت أطـول، يكـثر استعمالها في شمال العراق .
* خدري الجاي – أغلي الشاي ببطء على الطريقة العراقية .
* بنية – نوع من أنواع السمك النهري، ينصـح باسـتعماله كثـيرا فـي أكلة المسقوف الشهيرة .
* سليمة باشـا – لقـب للمغنيـة العراقيـة سـليمة مـراد، تـوفيت فـي الستينيات، ومن أغنياتها يا صياد السمك صيـد لـي بنية .
* زكية جورج – مغنية عراقية معروفة توفيـة فـي الأربعينيـات، ومـن أغنياتها وين رايح وين، وين الوعد وين، وعليك ليـل نهار يبكن العينين . ،
* عفيفة اسكندر – مغنية عراقية ما تزال تـؤدي دورهـا فـي الأغنيـة العراقية .
* بابا نوئيل – SALUKIM أو سانتا كلوز، أو فاذر كريسمس .
* مثل عراقي معروف .
* القدّاح – ورد البرتقال، وغيره من الحمضيات .
– الشبو الشجري – زهور متسلقة عبقة الرائحة، تنتشـر رائحتها وقت الغروب .
– الأثل، أشجار تنمو في ثغر الخليج كما تدعى به مدينة البصرة .
* قومي حبوبتي، ليلوايه – انهضي يا حبيبتي ليلى .
* الطاسات – جمع طاسة، وعاء يستعمل لسكب الماء، أو للشرب منه .
* الككيل – نوع من الطين كان يستعمل لتنعيـم الشـعر قبـل اسـتعمال الصابون .
* التكييس – فرك الجلد بقماش خشن بعـد التبخـير لإخـراج الأوسـاخ، وفتح مسمات الجسم .
* نينوى – اسم المحافظة التي مركزها مدينة الموصل، وهي أيضاحي فـي الموصل، واسم العاصمة الأشوية .
* جامع النبي يونس، هو النبي نوح، أو النبي يونان .
* الكَسرة – من أحياء مدينة بغداد .
* كرادة مريم – من أحياء مدينة بغذاد .
* جاسم العبودي – مخرج مسرحي عراقي رائد، توفي في المهجر .
* الكلمات الاتينية، هي اسماء مجرية، وقد كتبت كمـا تقـرأ باللغـة المجرية .
نشرت ضمن مجموعة هديل على الحدود\ دار سينا بالقاهرة 1997


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارة : قصة “حنين بلا ضفاف” هي آخر قصة أرسلها الراحل الكبير د. فاروق أوهان إلى موقع الناقد العراقي ، وهو نص كعادة الراحل في أغلب نصوصه عن التمزقات التي تخلقها الغربة والحنين الكاسح للوطن .. هذا الحنين الذي من وجهة نظرنا كان أحد اسباب رحيل فاروق مقهوراً .. حياة فاروق ونصوصه أنموذج للوطن عندما يصبح حبّه لعنة على ابنائه .. رحم الله الراحل الكبير .



** منقول عن مجلة الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى