الذهبي مشروحي - نـداء العطْر

إلى إدريس بنزكري

°°°

أُعاكِسُ في الأشْياءِ شَارِدَةَ النّقِيضِ. أدُورُ مع الأيامِ ما دارَ السَّجينُ في دُوّامَةِ السّابِحِ. وأُحيطُ الوقْتَ بذراعيْنِ كي لا يزْحَفَ في اتِّجاهٍ غيْرِ نافِذٍ. أُحادثُ نفْسي بالشُّكوكِ وطاعونُ هذه اللّغةِ يفْتِكُ بي. نَسِيَتْني البلادُ مُعلَّقاً بين سَحابتيْن. رأْسي مِرْجَلٌ يَغْلي بِحَديدِهِ. كَأْسٌ واحدةٌ كالطّلْقةِ الواحِدةِ تَكْفِيني لِأموتَ وأنا واقِفٌ. ولِأنّ النهارَ لم يَعُدْ نهاراً والْمساءُ تصدَّعَ كفُخّارٍ سأظلُّ أَنْقُرُ زجاجَ الكلِماتِ بِرِفْقٍ. لتَفْتَحِ اللغةُ الأبوابَ على مِصْراعَيَّ كيلا أغُطَّ في صَمْتٍ يُقرّبني من الهَلاكِ. فأمامَ البُوّابَةِ السُّفْلى للرَّحيلِ، بِقَبْضَتِه الحازِمةِ كان يطْرُقُ نافِذَتي، ذلك الْمَوتُ.

°°°

في مَقْبَرةِ القصيدَةِ لا أحد يستطيعُ أن يُضيفَ إلى وجْهِي عِطْراً. وسَتخْتفي الحروفُ إذا سال حِبْرٌ كثيفٌ في جَيْبِ الورقةِ التي ستَروي سيرةَ الموْتى. وسيُغَطّي ظِلّي ما فَشِلتْ فيه يَداي. أكُلّما راوَدتْني خَطابَةٌ أشْرقَتْ فِي سَمائي امْرأَةٌ تُثيرُ فيَّ ما تثيرُهُ العاصِفةُ في القَصبِ. فأصْفِرُ ظَنّاً منّي أنّني أرْقُصُ في حَضْرةِ الغيابِ أو أكبرُ. سأردُّ الكَفَنَ إلى صاحِبهِ لكي لا أموتَ سريعاً. سأرُدُّ المناشيرَ التي لم توزِّعْني على السُّجونِ كي أحْتَفي بذاتي على عادَةِ الخلقِ. وسأُخلّفُ الهَواجِسَ تحْترِقُ على جمْرِ المواعيدِ التي نَسِيتْني قُرْبَ دِيوانٍ تَمْلأُهُ الحِكْمةُ. ليَحرُسَهُ الشّاعرُ في غِيّابي.

°°°

سألبَسُ هذا السَّريرَ إلى آخِرِ الدُّنيا. قرِّبي مِدْفَأةَ صدْرِكِ من صدْري. عارٍ أرجعُ إلى الكَثاَفةِ. خلْف السِّتار قصَّةٌ يرْويها عاشقٌ بأنْيابهِ على الصَّخْرِ. سأنْصَرفُ فضْفاضاً وبي غموضٌ كالوُضوحِ أو أكثر. أريدُ عيْناً ترْقُبُ مِرْآتي فلا تتْرُكُني وحيداً في العَتَمَةِ. أحدِّقُ في الرُّفْقَةِ وهي دوْما تَقْبِضُ الجمْر بيدي أو تلْحَسُ العسَل من تحتِ جَرَّتِها بلِساني. لينْزاحَ هذا السِّتارُ عن شُرْفَتِنا وليرْحَلْ هذا الحُزْنُ عن قَرْيَتِنا. فكلُّ ما بيننا سَرابٌ وكل ما بَنيْناهُ خرابٌ يُمْسِكُ بِعُرْفِهِ الخَرابُ.

°°°

في مِحْرابِ الحانَةِ تُطَقْطِقُ المُوسيقى. من عَطَشٍ تَسْتقبِلُني القَناني دامعةً. صخَبٌ يعْلو ودُوارٌ. همْسٌ يرتفِعُ في الآذانِ. أحاسيسُ تصْقُلُ وَجْهَ الكلماتِ بِدَفْقٍ. كأْسٌ أخرى عامِرةٌ بالفضّة كقصْرِ الأميرةِ العازِبَةِ. هذه الأرضُ أعْرِفُها صخْرةً صخرةً كَهَذِي المرأةِ التي بين يديَّ. أفْرِكُها كالسُّنْبُلةِ بين كَفَّيَّ وتَفْرِكُني. خُذوا هذا الرّملَ فأنا لستُ صحْراءً ولا تمْسِكوا حُلْمي من جناحيْهِ. أُتْركوني شارِداً بلا ملاذٍ أكْمُنُ في قعْرِ هذي الكأْسِ ولْأَطِرْ يلا أجنحةٍ إلى أن أبْلُغ صباحاً يمْلأُهُ الصّقيعُ. خيْري مُطْلقٌ أنا العَدَمُ المُطْلَقُ في العَدَمِ أنا الإنسَانُ.

°°°

شَريداً أنامُ أمام بُوَّابةِ الصَّمْتِ. لا أحَدَ جَرُؤَ على جُرْحي ليُكلِّمَه أو يكمِّلهُ. الأسْوارُ كانت تشْرَبُ دمي. الكُرسي الفارِغٌ يسْتنْطِقُني وحيداً. وَوَحيدا كُنت أرْقُب أُفْقاً بالألوان.ِ أبْعِدوا الماءَ عنّي قليلا حتّى لا تُطْفِئوا أعْصابي. أُغْلِقُ عيْناً وأفتَحُ عيناً. قبضةُ الوردِ، ويدُها النّاعِمة، كانت فُرْصَتي الأخيرة للتخلُّصِ من كلّ هذا اليقينِ.

°°°

إدريسُ يقيمُ منْفَرِداً على هَضَبةٍ أعْلى من السَّماء قليلاً. الآن زعيمُ الخَلِيَّةِ الفلّاحُ يرْقُدُ بلا دُخانٍ بعيدا عن العَسَسِ. بُوطُ الكَاوَتْشُو يَحْتَلُّ رُقعةً أوْسَعَ من المَبادِئِ. إلى الأمامِ وغيرُك إلى الوراءِ دوماً. رجلٌ ضاقَ بكلِّ شيءٍ ولم يجدْ حاضِنةً لمِنْجَلِهِ. انتبهْ أيُّها الهَرَمُ يدُها تمتدُّ إلى المَلاءَةِ تلك العاصفةُ التي ترْقُبُ مَرْقَدَك الخَفيَّ. أنت تصْعَدُ وهي تهبِطُ إلى بؤْسِ العَالَمِ الأضْيَقِ من زنزانةٍ.

°°°

سأقْطَعُ هذا المساءَ مخفورا بالْأَهْلاسِ. بغتَةً يتوقفُ كلُّ شيءٍ ويبقى الهواءُ مشْبَعاً بالعِطْرِ. نبيذُكِ سيدتي يُطْفئُ جاذِبيّتي وأشْرَعُ في فُقْدانِ الوزْنِ. في بدايةِ الحِراثَةِ وعلى رأسِ الحقْلِ طيورٌ حَصَدتْ ريشَها وأسْندَتْ سيقانها لِلْمَهَبِّ. أنامُ فتستيقظُ المدينةُ في رأسي طوالَ الليلِ. وطوال الصخبِ ليلٌ يَفْرِدُ أجنحتهُ ويطيرُ. صَخَبٌ، رقْصٌ، دَرْبَكَةٌ ومِقَصٌّ... وفْرةٌ ونقْصٌ...وجَعٌ وهمْسٌ، مُطارَدَةٌ وقنصٌ.

°°°

تعال يا محمد إلى بداية الثمانينات نُنْصِتْ إلى الأخبار من الجِهة الشّرقيةِ للحُدود في الدار البيضاء. سنُفرِغُ حقائبنا في الممرّاتِ البعيدةِ عن الأعْيُنِ. نسْنُدُ هِضابَنا بالمطْبوعات المسْتَحيلَةِ كي لا تَهْوي الأحْلامُ. حَتْماً سَنُسْقِطُ هذه المُنْشَأَةَ الكرطونيةَ بسواعِدِنا الواهِنَةِ إذا إجْتَمَعَتْ. لا رِجْعةَ عن هذا الضّيقِ الذي يتحسَّسُ صُدورنا. الكهرباءُ سرّحَتْ نمْلها في ذراعي اليُسْرى وكنت سأموتُ خَطأ. الظّهيرةُ أرْخَتْ عَضَلاتِها ومالتْ نحو الغُروبٍ. الوحَلُ يتخثّرُ في الشّرايينِ. ستخْتفي بين الضُّلوعِ رَجْفَتُنا. والحُلْمُ الذي كان يجْمعُنا غيرُ قابلٍ للقِسْمةِ هذا المَساءُ. وأنا سأسْبَحُ بعيدا في هذا العِطْرِ ، وضِدّ الحَرَسِ، نحْو قبْركَ التُّرابي، لأُقَبِّلَنَّهُ حجَراً حجراً حتى أُدْرِكَ السّعادةَ أو تُدْركني الحَياةُ خَطَأ كهذه المَرَّةِ بين يَدَيْكَ.

°°°

أعْماقي ترقصُ على وَقْعِ هَزائِمها من غَيرِ إيقاعٍ. الوحْشةُ والرَّعْشةُ. الطالبُ اللطيف والمهندسُ الأمينُ. ومسدسُ العِطْر ِيقْصِفُني بحَذَرٍ وأنا أرْفعُ يدَيَّ مُسْتسْلِماً لِلْأَلْطافِ. لا أحدَ يُصدِّقُ أحداً. احتمالٌ كبيرٌ أن أغادِرَ وأنتم تعودونَ . يخيفُني وطنٌ ترْقُبُهُ قبوركُمْ. وقريباً يشْرِفُ الزّمنُ الإضافيُّ على نهايتهِ الأولى. الجسْر يمتدُّ نحو الربعِ النّهائي من العُمْرِ. سَتَمُرُّ هذه الليلةُ الخضراءُ سعيدةً على عادةِ الفصولِ أن تنتهي بغْتةً. لقد غنَّيتُ طويلاً وهاهُوَ الصَّمْت يأخذُني إلى المتاهَةِ كالفُجاءَةِ. وغداً سأُمْسِكُ عن التّرَقُّبِ قربَ كؤوسِ القهوةِ الفارغةِ كأنّني لم أوقظْ قسْوةَ ذلك الصباحِ من موْتِهِ السّريريِّ.

°°°

فُرْصةٌ أخرى للعَبَثِ تعْبثُ بي. أستجْمِعُ ما بقِيَ لي من حُطامٍ. وحينَ تهُبُّ المواجِعُ ينهضُ من نومهِ الأسَى مُكشِّراً. تعودُ الخَيْبَةُ أدْراجَها عامِرةً بالزُّعافِ. جُرْحٌ هو الجرْحُ غائرٌ. والمسامير ُالتي دُقَّتْ في النّعْشِ ما تزال تؤْلمُ الميت من جهةِ الأحْياءِ. أهذا هو أنت. بلى، قالتْ وبكَتْ وبكَيْتٌ وانصرفَتْ وانصرفْتُ... ألا ياأيتها البلادُ التي سوَّرتْني بالقُضبانِ كما لو كنتُ سجناً أترُكي لي نوافذَ كثيرةً للإغاثةِ ومِساحةً كُبْرى للّعبِ وخابيّةً عُظْمى للْبُكاءِ وامْرأةً فاجِرَةً تعْبُرُ بي الجِسْرَ البعيد نحو أَطْيافِ الحُلْمِ.

°°°

ليُكْشَفِ المتوقَّعُ من التّحْتِ. نهايةٌ تَرويها امرأةٌ بالشّفتين من الفوْقِ. نُبْلُ المواقعِ التي تَشْتَهي النَّهْبَ. الصّراعُ هو الصّراعُ على الخرائطِ والنساء.ِ ليَهُبَّ الغُزاةُ إلى السّهْلِ المَديدِ على مَدى السّنابِكِ. تذْكِرةٌ خضْراءُ مُسْتَقْطَعَةٌ من عُرْفِ الّليلِ. ضوءٌ طائشٌ يَجْري وراءَ الأثَرِ . كلبةٌ تجرُّ وراءً سلسلةً من الجبالِ مُضيئةً. وأنا أتدَفّقُ مع العطْرِ أعلنُ الولاءَ لكَ ياريشَ النّسْرِ. وأُحلِّقُ في الأجْواءِ العُلْيا المُحاذِيةِ للسُّقوطِ في الفَخّ. وأنام مُرْتَجَلاً مع أجْزائي الصَّالِحةِ للاسْتِعْمالِ.

°°°

غُرْفةُ الهواءِ تزدادُ ضغْطاً بَيْنَ الأَناملِ. سأسْحَبُ نفَساً عميقاً قبل أن أسدِّدَ النبيذَ إلى شفتيكِ. ليمْتَصَّ فوْرةَ العطْرِ هذا العطشانُ إلى الثّوْرةِ. وَحْدَنا أُنْسُ ألحانِ. لتصحُوَ الخَلايا يداً بِيَدِ البَلايا. أحرِّرُ السَّبيلَ كيْ تمُرّ أناقتُكِ بكل شفاهِها على الفِخاخِ المنْصوبةِ في جسَدي. أُغْمِضُ عيْنيَّ لأُمرِّرَ يدي على دَلْتا سَبُو بين نخْلتيكِ. واشْتهيكِ لأشْتهيكِ أيتها البلادُ. أيها البهاءُ الذي يوقِظُني بينَ غَفْوتَيْنِ متأخِّرا كالعادةِ. أنا طَوْعُ أمْرِكَ. وكعَادةِ الكِلْسِ أن يتَفَتَّتَ تحت المَطرِ أتَفتَّتُ من العَطَشِ إلى أيام الرُّفْقَةِ ولو تحتَ سَماءِ الجلّادِ. العيْنُ حمْراء والحَليبُ أبْيَض والسُّلَّمُ ينتظرْ.

°°°

قُبالةَ البحيرةِ. قلبٌ يدقُّ. امرأةٌ تَتَهادى. موعدٌ في الأفُقِ تحرسُهُ السُّجونُ. هبّةٌ نسيمٍ تَتلَوّى. عُرْفٌ سابَ على كتفيْنِ تُضيؤهُما الغُرْفَةُ. نداءٌ يدُكُّ حُصونَ القلْعةِ من جِهةِ الأفقِ. ساقٌ يظلِّلُها السُّرورُ والعُشْبُ. حواشٍ ترْعى المواشي على خِصْرِ حبيبتي. قميصٌ كالغُصْنِ تُثْقِلهُ الثِّمارُ. كثيرٌ عليَّ أن أُغْمِضَ لأرى قوسَ قزحٍ يتزوَّجُ الشُّطآنَ. مِن أعْلى قِمَمِكِ أنهضُ غائماً. الهُوَّة في مرْمى الخَطْوِ لكنّي لا أُبالي أيّها البَهاءُ إن نَضَج َموْتي بين راحَتيْكَ.

°°°

سَحابةُ العطْرِ تُغطّي سَماءَ من لا سَماءَ له. ويدي تلْبَسُ جسَدكَ حتى الجواربِ. في الأعالي واجهةٌ أخرى لإستقْطابِ الفراشاتِ. صوتكَ يعبُرني رنينهُ جَوْقةً من نحاسٍ. شاخِصٌ أمامَ هذا الانحِدارِ الصَّعْبِ إلى اليَسَارِ. يكتسِحُني الشَّوْكُ المرجانيُّ المترسِّبُ على فُوّهةِ المَحارِ. مِقْبَرَةٌ أخرى بحجمِ الأرخبيلِ تنْبُتُ في الجِوارِ. ألا أيتها الأسْماءُ المشْطوبة من لائحة الوقتِ أُتْرُكي لي وصِيّة أُتْرُكي لي تحيّةً أحْيا بها إلى مُتِمِّ النَّهارِ.

°°°

أمامَ المَزالقِ السّاخنةِ لا أَتَفادى السُّقوطَ. المَداراتُ مغلقةٌ. يبدو الرّبيعُ أخْضرَ من الحياةِ. نافذةٌ للْبوحِ هذا الجسدُ. ستنتهي دورتهُ وتُطِلُّ امرأةٌ من شُرْفتهِ تَمْضَغُ بضعَ كلماتٍ وتَغيمُ. حسناً لن نجدّد تذاكِرَ السّفْرةِ إلى كهْفِ النّبواتِ. عَبثاً لن يتوقّفَ القِطارُ في نهايةِ المَمرِّ الذي ملأتْنا أُمسياتُهُ بالأغاني. الجَحيمُ هو الجحيمُ يلبسُ أغْراضَنا وَيُحَطِّمُ ما تبقَّى من خلايانا وينصرفُ. والمؤذّنُ أنهضَ الصباح فجراً تخيفهُ الحَفَلاتُ والرّقْصُ على الجِراحِ. سأتركهُ ورائي وأنْسى أن لي وطناً كان يسكنني ليْلُهُ لمّا تغِبْ ليلاهُ. سأهبِطُ الدُّرْجَ اضطراريا هذه المرّةَ لأمْلأ الدّنيا صَخَباً. وهاهُمْ قُطاعُ أشْرِطَةِ الحُلْمِ يتلاطَمونَ على بوّابتي كالصّقيعِ. سأقْطَعُ الشريط الفاصِلَ وأجْري خلْف ظلّي لأبْلُغَ العالَم على رأْسِ الماءِ.

°°°

يداهِمُ السَّرابُ نضارَةَ الأفُقِ. لن أنْحني هذا الصباحُ للوهْمِ. رفاقي ودّعوني من غير عناقٍ. تَعْبُرُ السِّهامُ سماءكَ بكثافةٍ تخيف الأعْداءَ. وراءَ هذا الزّمن الموحِشِ كان يرقدُ وطنٌ لا يحْتاجُ إلى الخُطَبِ الجرّارَةِ. وليلى في هذه اللحظةِ تلاحقُها عدَساتُ القنّاصةِ الذين زرعتْهُم الأيديولوجيا والطوائفُ على أسْطُحِ الجرائدِ. أيها الظِّلُّ السّابحُ في عَلْيائِهِ تعال إهبطْ ليس لك ما تقوم به الآن بين قمَرينِ. تعال إهبطْ ليس لك ما تقوم به الآن بين عَطالَتيْنِ. واغْفِرْ ذنْب من عَتِمَتْ في وجههِ الشّمسُ والبلادُ والعَتَباتُ.

°°°

لم أَدْخُلِ الدّوامَةَ لكن خُطُواتي شَطَحَتْ بي بعيداً. وعلى رأْسي كانت أمواجُ العدَمِ تنْكَسِرُ. يجتمعُ شَمْلُ الطبقاتِ التي تقولُ ما لا تقولهُ الأُسْتُقُصَّاتُ والأركانُ الخمْسةُ للثورةِ. للجلادِ أن يحْظى برعايتنا الأخَويةِ ويسير في رَكْب جنائزنا الحاضِرةِ والغائبةِ. أدورُ ما دارَ ظِلُّ على شجرٍ. أسْترْسِلُ في سَرْدٍ يقرِّبني من أنايَ. ذَلِكمُ الهيكلُ الذي يدخِّن في أعلى التّلّةِ كان قبل أن يحْتَرِقَ ذاتيَ الأخْرى. قناديلي غامَتْ. وعناقُ التفّاحِ يقْطُرُ ماؤُهُ على قلْبي أسْهُماً حارقةً. أسْقِني واسْقِني وأنا أَدْخُلُ على الخَطّ مَطْوياً كمنشورٍ سِرّي لم تُوَزِّعْهُ الخَلِيةُ السَّائبةُ على مِجَسَّاتِ المَنَاعَةِ النَّائِمَةِ.

°°°

من اشتعاِل الشَّوقِ أُعبِّدُ طريقاً. أقشِّرُ إمْكانا صِرْفاً. أدنو من هدفٍ. أبتعدُ. الأقلُّ يُفْرِزُ فيَّ دواعِيَ التَّقزُّزِ. أتقدّمُ بِحِبالٍ صوْتيةٍ من هذا القَطيعِ لأصْرُخَ على امْتِدادِ الوَتَرِ الحسّاسِ: أنا التقطُّعُ والامتدادُ لن يدْرِكَني فيكُمْ. أتدفّقُ بعد جُمودِ الدّمِ في المفاصِلِ. أُضاعِفُ من سُرْعةِ الإيقاعِ كي أُدْرِكَ أثراً لم يُخَلِّفْهُ أحدٌ قبْلي . ونُسُورُ الموْتِ تشْحَذُ مَعاقِفَها على جبْهتي وأنا ألْتهِبُ. أما التكلُّسُ الذي يتهدَّدُ مَفَاصِل لُغَتِي فيتواصَلُ بإيقاعٍ لا يُحتَمَلُ. ياهَذِه الأرْضُ لا تُحَمِّلي كاهِلي سَواتِرَكِ التُّرابيةِ لئلا يكْمُن قنّاصَةُ العِطْرِ بين الفَجَواتِ.

°°°

عادةٌ جديدةٌ في الحبّ تَسْتَدْعيكَ أيها السّندبادُ البَرِّيُّ. لا تُخْضِعْ حواسّكَ العاصِفةَ للخَدَرِ المَوْضِعيّ. الجسدُ هو العقلُ الذي يُسْقِطُ أحاسيسهُ على الأشياءِ ويخْتفي. هو الماءُ ذاتُهُ الذي يضيءُ الكائناتِ التي هَبّتْ مع رِيّاحِ الوُجودِ أوَّلَ مرّةٍ. حِمْضٌ نَوَوِيٌّ يحتضِنُ نداءَ العطْرِ. ذَبْذَباتٌ تَصْدى بتعدُّدِ الأصْواتِ. رويداً، رويداً أسْتَلُّ خُيوطي واحداً واحداً وأنطَفِئُ في عُمْقِ زنزانةٍ كانت بيتيَ فيما مَضى من السَّنواتِ. أغمسُ رأْسي في المِدادِ وانتظرُ أن تنْبُتَ لي أجنحةٌ أحلّقُ بها في العُمْقِ السَّحيقِ لِذَاتي.

°°°

لا يكْفي أن أتوسَّطَ لقْطَتيْنِ كي أحدِّد اتّجاهاً. يحْلُو لي أن أبْقى على أرْتفاعٍ واحدٍ من الأشْياءِ أو أتدفَّقُ على مسافةٍ واحدةٍ بين الكلماتِ. الأعصابُ مشدودةٌ إلى هذا الصباحِ الجنائزيِّ. الأعْطابُ واردةٌ مثلما هي الزَّنْزَانةُ وارِدَةٌ. وحْشٌ يرْقُصُ على هامِشِ ورْدَةٍ. والفَراغُ مُتوَّجٌ بانتظارٍ. في مرايا العينِ محطّتي لأتخلّصَ من الدّوافعِ الدائريةِ لرَغْبةِ الرَّغَباتِ. هدفٌ جديرٌ به أكونُ ما أكونُ وما لا أكونُ.

°°°

صوتُ الحكايةِ يشرَبُ أعصابي ويُرْبِكُها. التوحُّدُ في التعدُّدِ أظانين الدّيانات. سيبلغُ قَميصي في الصّيفِ ورقةَ التّوتِ. ما تزال العتَمَةُ تربّي خمْرتَها في خابِيّةِ الفجْرِ. سأرْتدي ربيعي إلى آخر زهرةٍ وأمدُّ يديّ للحنّاءِ. لِلْفوْضَى أن تشَيِّعَني إلى مَقبرةِ الفُقراءِ. للأخْضَرِ الماثِلِ في المجرّاتِ أن يُسْرِع قليلاً لينْقُشَ اسْمي على شاهِدَة القبْرِ المنْسي. سُحبُ الدخّانِ وما تبقَّى من حرْبِ الطَّبقاتِ يمْلأنُي. أنا لا أُطيلُ النظَر إلى الأزْرقِ في كلِّ سماءٍ تدنو من رُموشي لأُصفِّيَ الحسابَ وأشربَ النّخَبَ وأميلَ كالشُّعاعِ جهة الغُروبِ من غيْرِ إنْكِسارٍ وأتَوارَى خلْفَ الهضابِ.

°°°

أبْراهامُ
أن تكونَ مُسْلما وأكونَ يهودياً
أو لا نَكُونُ إلا ما كُنَّاهُ.
لم يجمَعْنا حِقْدٌ أو عقيدةٌ.
بلى ياسيّدي فرّقَنا شَجَنُ الوطَنِ
وجمَّعنا لبَنُ القَصيدَةِ.

°°°

إِيفْلين: عيناكِ أُخْتي عيْنا قصيدةٍ تُضيئانِ الشُّطْآنِ. والجسْرُ المُحطَّمُ يرقُبُ ورودًا تحْبو فوق الماءِ. فراشةٌ حطَّمتْ على محْرابِ القهْرِ أجنحةَ عُنْفُوانِها. لم يخبِّئْني شجرٌ ولا حجرٌ وانكشفَ صدْري للنِّبالِ. أنا لن أكونَ إلّا ما سأكونُه. لن تقِفَ في طريقي إلى الجَحيمِ صلاةٌ. ولو قلَّدتْني امرأة جسَدها المُشْرِقَ لمَخَرْتُ عُبابَ اليقينِ نحو شَواطِئ الظنِّ. لأقُولَ إلى غيْرِ رِجْعَةٍ أيُّها الَّليلُ المُفْعَمُ بالأوغادِ.


كانتْ عيناها تمْسَحُ الوجود الخَلْفِيَّ للصّورةِ. مشْدودةٌ إلى ذِكرى تُلازِمُ بدايةَ التكْوينِ. ترْتعِدُ من الترقُّبِ وتبْكي واقفةً كي لا يغرقَ العالمُ في الضَّجرِ. التصحُّر الأخيرُ استَحالَ شُعورًا أجْوَفَ يمارِسُ على الأشْياءِ كي تنام في كهْف النُّبواتِ حيث الكذِبُ معجزةً لا تتكرَّرُ إلّا مرّة واحدةً. والمغْرِبُ لنا لكنّنا نرْحلُ بغير أيْدينا في سَفَرٍ بعيدٍ لا يعيدُنا إلى أمَّهاتِنا.

°°°

لِيَتَنَفَّسِ التوتُّرُ من هذه الشُّقوقِ. الشَّجرةُ التي تقاومُ زَحْف الصحراءِ بعُرْيِها منحتْني قُبَلاً برائحةِ التُّرابِ. وأعْضائي الحيَّةُ حمْحَمَتْ كالأحْصِنةِ في قلْب المحرِّكاتِ. وارْتَوى منّي الفِراشُ بعطْرٍ يحْرُسُه الفراقُ. وأنا سأنامُ عارياً هذه الليلةَ من كل السَّوابقِ وسيحمِلُني موْجُ الحُلْمِ إلى أرْخَبيلاتٍ بعيدةٍ لِأُتَوَّج مَلِكاً على عرْشٍ أو مفقوداً على نعْشٍ.

°°°

صباحٌ بلا طَعْمٍ. إشراقةٌ بلا شمْسٍ. انسِيابٌ بلا دفْقٍ. عَرَضاً عرضاً. أنا الأعمى ليس لي طريقٌ يقودُني إلى نِيَتي. رصيفاً رصيفاً. أنا لا أملكُ شجراً كي أقول أنْسابي ضاعتْ. جِذْراً جذراً. وليس لي دوما أن أقولَ ما قُلْتُه وما تَلاهُ. وليس لي أن أذْكُرَ على مسْرحِ الوِسادةِ ما غيْريَ ينْساهُ.

°°°

ربيع الجرح ربيع الجسد 2007

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى