أخلي وجهه للذهول, حين قال الضابط أمام البوابة الحديدية المواربة: لم يعد الدخول متاحا إلا لأبناء المدينة؟ فرك عينيه, وفتحهما, يحاول استيعاب المعني: أنا من الإسكندرية.. ما تمنعني من دخوله ميناءها الشرقي. ذلك زمن ماضي, هو الآن مدينة تقتصر علي ناسها! هل جففت الأرض, وتراجع البحر, لتفصل المينا الشرقية عن المدينة بالفعل؟ هل صارت مساحة المياه الهائلة, بعد أن تحولت إلي بنايات وشوارع وميادين وحدائق, محرمة عليه؟ لا يملك حتي أن يطل علي الحدود المائية ما بين قلعة قايتباي ولسان السلسلة؟
اعتاد في كل صباح أن يفتح النافذة المطلة علي البحر, يدخل الضوء وامتزاج رائحة الملح واليود والأعشاب, وما يتناثر في امتداد الأفق من فلايك وبلانسات وصيادين. يعبر الطريق إلي الكورنيش الحجري, تتغير ألوان الموج ما بين زرقة السماء, والسمرة الداكنة بخيمة السحب المتكاثفة. في أسفل يرتطم رذاذ الموج بالمصدات الأسمنتية, إذا كان الوقت شتاء فإن الرذاذ يعلو, يتحول إلي قطرات غزيرة تغرق ملابسه, فلا يغيب إحساسه بالنشوة.
لم يدر بباله ولا تخيل أن المشهد الذي اعتاده يختفي, يحل بدلا منه مشهد آخر تماما, تحده المسافة نفسها.
صحا علي اختفاء الكورنيش الحجري والأمواج والبلانسات والقوارب والمصدات الأسمنتية, وصيادي الجرافة, والطراحة والسنارة, وعسكري السواحل, اختفت المياه, وافترشت الشمس مساحة الأرض الخالية من الظلال. انبثقت كحلم مساحات جفت مياهها, في المسافة بين السلسلة وقايتباي. نصف الدائرة انتقل إلي الناحية المقابلة في نصف دائرة معكوسة.
أهمل زيادة اللوردات والأوناش والرافعات, وإلقاء مكعبات الأسمنت, والردم, فسر ما حدث بأنه لحماية المينا الشرقية من تأثرات النحر والنوات. لم يتصور أن ينتهي ذلك كله إلي الأرض الواسعة, المنبسطة.
أذهله موت البحر والأمواج, كأن الرمال امتدت من الشاطئ فغطت البحر تماما, واختفي الموج, لم يعد ما يشي بالحياة في المساحة الواسعة. النافذة لا تطل علي المينا الشرقية, ولا يترامي أمام البيت سوي اختلاط الرمال والحصي وقطع الحجارة. البحر مجرد تصور في نهاية الأفق, وإن ظل في سمعه صوت اصطخاب الموج, وتكسره علي مكعبات الأسمنت والكورنيش الحجري.
قرأ في الجريدة أن الأرض الرملية ستتحول إلي حي جديد, حاول تصور ماذا ستكون عليه البنايات والشوارع والميادين والبوابات, وما إذا كان الناس الذين سيقيمون فيها من أهل الإسكندرية, أم يفدون إليها من مدن أخري؟
روي أبوه عن انتقاله من داخل المدينة إلي الشقة المطلة علي البحر, لم يكن الكورنيش الحجري قد أنشئ, ولا وضعت المصدات الأسمنتية في داخله. كانت الأمواج تبسط مدها دون تكسر علي ما يعيق تقدمها. البيوت والأكواخ والأكشاك في مقدمة بنايات المدينة, علي حافة الشاطئ مباشرة, تمتد أمامها المساحة بين الشاطئ والداخل. يبتعد الناس عن الشاطئ بقدر توقعهم للخطر, ليس في أيام الموج المصيرة, وإنما في أيام النوات, تلامسها الأمواج في الشتاء, تقتحمها, تتحول إلي نوات قاسية, يرتفع مستوي سطح البحر, وترتفع الأمواج, تكتسح الناحية المقابلة, تجرف ما تناثر أمام الشاطئ من الأكواخ والكبائن والبيوت الصغيرة, في المواجهة المقابلة للشاطئ تخلفها وراءها, ربما امتدت إلي البنايات العالية في داخل المدينة, تعلو الأبواب وأسفل الجدران, قد تقتحم الدكاكين والطوابق الأرضية, وتهبط إلي البدرومات. يلجأ السكان إلي الأحياء البعيدة, أو ينشغلون بمنع تأثيرات المياه, إن ثارت النوات كنست أمامها كل شيء, ربما تهدمت البيوت, وعامت قطع الأثاث فوق الأمواج.
شكل الكورنيش الحجري مصدات تمنع الأمواج من اجتياح بيوت الصيادين في مواجهة الشاطئ الرملي. عرف سكان البيوت في قلب المدينة أن خطر مد الأمواج قد زال, وأن الكورنيش الحجري يحصر المياه في داخل المينا الشرقية. تبدلت الأوضاع, شيدت البنايات ذات الطوابق الأربعة, علي امتداد نصف الدائرة المحيط بالبحر, حتي لا تحجب الرؤية عن أربعة طوابق. القدرة علي رؤية البحر من أي موضع مسألة مهمة, لا يقتصر أفقه علي المطلين من البنايات المواجهة. سكنت فيها عائلات فرت من مد الأمواج إلي الداخل. انتقلت بيوت وأكواخ الصيادين إلي بيوت في السيالة والأنفوشي ورأس التين, وإلي أحياء المدينة البعيدة عن البحر.
أول ما يذكره من الكورنيش حين طلب الرجل ذو البدلة الكاملة والطربوش, وفي يده قلم الحبر ودفتر الإيصالات, علي تقاضي نسبة الاثنين في المائة, نطقها المية اتنين, قال أبوه وهو يدفع المبلغ:
أنشئ الكورنيش منذ سنين بعيدة.. لماذا تصرون علي تحصيل هذه النسبة؟!
اكتفي الرجل بهزة رأس خالية من المعني.
كانت فرصة الاختيار متاحة أمام أبيه لاستئجار الشقة المطلة علي البحر. لم يكن التمليك قد عرف طريقه إلي الشقق. استقر علي الطابق الثاني, فلا يكون في مستوي الطريق, ولا يتعبه السلم إن تقدمت به السن, علي ناصيتين, فلا تكون مخنوقة, تضاعف الإيجار عبر السنين لكنه ظل معقولا.
تلاشت صور الإسكندرية.. المدينة الداخلية. تبدلت صورة البحر الذي يحيط بها, ويبتعد إلي مسافة بعيدة عن صف البنايات الممتد علي طريق الكورنيش.
لم يعد الكورنيش الحجري فاصلا بين المينا الشرقية وامتداد البنايات أمامها. ردمت مساحة المياه, فاختفي الفاصل. هو لا يطل من الكورنيش الحجري علي المشاهد بين السلسلة وقلعة قايتباي: البلانسات, والقوارب, والأمواج, وصيادي السنارة والطراحة والجرافة, والمارة, والجالسين علي المقاعد الرخامية, وباعة الفشار والآيس كريم.
جفت الأرض تماما, عدا حفر متناثرة امتلأت بالأسماك الميتة. اتجهت الأسماك إلي ما بعد الشاطئ الجديد إلي قلب البحر, ومات الكثير منها فوق الأرض المختلطة بالرمال والمياه. أهمل التصريحات التي ناقشت إن كانت الآثار الغارقة قد رفعت, أم ظلت في أماكنها: ما شغله هي المساحة بين قلعة قايتباي والسلسلة, وعمقها في البحر, وفي البنايات التي كانت تطل عليه, في الصورة التي ألفها, المدينة التي ألف ملامحها, وإن تابع من الصحف وكلام الناس, وبمشاهدة ما يحدث, عمليات التنقيب في المينا الشرقية. الرافعات والغواصون والخرائط والقطع الأثرية داخل الأعماق, جزيرة أنتي رودس, المدينة الملكية, قصر كليوباترة, قصر تأملات مارك أنطونيو, القصور الغارقة الأخري, أعمدة الرخام والجرانيت, تمثال إيزيس, وتماثيل علي هيئة أبو الهول, تماثيل صغيرة من الذهب, قواعد التماثيل ذات النقوش والكتابات اليونانية, أدوات مائدة طعمت بالأحجار الثمينة, كؤوس ذات زخارف نباتية, أوان محلاة بالفسيفساء, أقنعة, حلي, مباخر, شمعدانات.
غابت الملامح, لم تعد الأمكنة إلي ما ألفه الناس: البيوت بامتداد طريق الكورنيش والكازيونهات والمحال الكبري, ومرسي القوارب, والسور الحجري بين السلسلة والقايتباي. ما كان يمثل طرف الساحل صار جزءا من إسكندرية الداخل, هو مثل كرموز وغربال والباب الجديد والقباري وكفر عشري والورديان ومحرم بك وغيرها من الأحياء في داخل الإسكندرية.
صار من غير المتاح أن يستغرق في مشاهدة اتساع مشهد البحر إلي نهاية الأفق. الأفق هو شاطئ البحر. ظلت أسراب الطير تحلق, وإن لاحظ اختفاء طيور النورس, يميزها من لونها الأبيض وصيحاتها.
لم يتصور تلاشي مساحة المياه, المكملة لاستدارة المدينة. صارت امتدادا لأرض المدينة. في باله أن خللا ما, تحولا ما فرض طبيعته علي المدينة كلها. الأحياء والميادين والحدائق والشوارع والأرصفة واللافتات وعلامات المرور وأسلاك الفضائيات.. الأماكن التي اعتاد الناس الحياة فيها, التنقل بينها, دون أن يحدقوا أو يدققوا النظر. يطمئنون إلي إحساس الألفة. بدت علي غير ما كانت عليه قبل أن تغيب المينا الشرقية. لا يقتصر التغير علي المنطقة ما بين البحر والمنطقة المطلة عليه, لكنه يجده في المساجد والمقاهي ودور السينما, حتي الكازينوهات التي مثلت واجهة للمدينة, قبالة البحر, تغيرت نظرته إليها, حتي الأسماء التي تشحب بملامسة البحر تبدل شعوره أمامها.
لم تعد كل الشوارع تفضي إلي البحر. بدل اقتطاع مساحات المياه من التصرفات المألوفة والتوقعات. تصطدم نظراته بالبنايات في المساحة البديلة, يري البحر بالتخيل, وأنه هناك وراء الأفق الجديد.
تناسي التحرك العفوي في اتجاه البحر. غابت الملامح التي يدركها دون أن يراها: البنايات, التقاطعات, المفارق, إشارات المرور, العلامات الضوئية, اللافتات, الشورع المتقاطعة, والتي لا نهاية لها, عربات الترام والباصات والسيارات, وعربات الحنطور, وعربات الكارو, ومحطات البنزين, والباعة, وزحام المارة, لم يعد الناس يتجهون إلي البحر لرؤيته, بدا البحر أفقا غائبا, يبتعد عن مدي النظر.
بدل سيره كل صباح إلي الشاطبي والعودة. يمضي علي رصيف البنايات التي كانت تطل علي البحر قبل أن يبتعد, يتجه عند ورش القزف إلي الناحية المقابلة. يسير بخطوات متسارعة إلي قرب رأس التين, ويعود. البحر هو ما يريد السير إلي جواره.
داخله اطمئنان أن طريق الكورنيش من الشاطبي إلي مرسي القوارب لن يفقد قيمته. كل الشوارع داخل المدينة تصب فيه. حين تشيد البنايات في موضع ما كان المينا الشرقية, فإن الشوارع التي تتخللها ستشكل, علي نحو ما, امتدادا للشوارع المتفرعة من طريق الكورنيش.
ظهرت في مساحة الأرض بنايات وميادين وشوارع وساحات وحدائق تحيط بها, وتتوسطها شجيرات صغيرة, مقلمة, علي هيئة دوائر ومربعات ومثلثات, وممرات يغطيها الحصباء الملون.عادت الظلال بارتفاع الأسوار, وتوالي إقامة البنايات: عمارات عالية, وذات طابقين أو ثلاثة, وفيلات. تمازجت أشعة الشمس بالظلال في الشوارع الممتدة, والمتقاطعة, وفي الزوايا والأركان.
صعد إلي سطح البيت حاول تبين ما وراء الأسوار العالية, والأشجار الكثيفة. التقطت عيناه بالكاد ما يشبه الأجزاء المتناثرة من البنايات والواجهات ومساحات الخضرة, صممت الإنشاءات, وما يحيط بها فيصعب رؤيتها حتي علي قاطني الطوابق العالية في عمائر الكورنيش.
ترامت عبر النافذة نسمات باردة, تحمل رائحة ورود, تختلف عما اعتاده أنفه من اختلاط روائح الملح واليود والطحالب والأعشاب. حدس أن الرائحة الجديدة من الحدائق في مساحة الأرض التي غطتها الإنشاءات. حاول النفاذ بنظرته بين ما أتيح له رؤيته من البنايات أول مساحة الأرض, يبحث عن أماكن الحدائق التي يتضوع الجو برائحة ورودها.
صار كل شيء جميلا بما لا يتصوره, أهمل حتي السؤال عن الآثار التي كانت في قاع البحر وهل طمرت, أم رفعت من مواضعها؟
تحولت المدينة إلي حيين, قسمين, مدينتين, الإسكندرية التي يعرفها, ومدينة أخري تأتي أخبارها دون أن يتاح له رؤية الكثير مما تضمه.
يرنو من فوق السطح إلي الجهة التي اعتاد أن يشاهد منها نصف الدائرة الواسعة, ما بين السلسلة والقلعة, تراوح حركة الموج بين الهياج والحصيرة. اختلف ما ألف مشاهدته. أفق البحر إلي حيث تغيب الرؤية. إلي اليسار خليج الأنفوشي, حافته ورش القزف, وتتناثر في مساحته بلانسات وقوارب صغيرة, تنتهي إلي الجزيرة الصغيرة الصخرية, وانحناءة الطريق إلي سراي رأس التين. تتحول نظراته بالتعود إلي الميناء الغربية, البواخر الضخمة والأرصفة والمخازن وشون الغلال والرافعات وبلوطات الأخشاب والأجولة وأحياء الإسكندرية البعيدة. يشاهد الإعلانات المتوهجة بأنوار النيون فوق البنايات العالية بميدان محطة الرمل, آخر رؤيتها مئذنة القائد إبراهيم, وتصاعد قضبان المترو إلي مناطق الرمل.
لم يعد هذا هو المشهد الذي كان يتوقعه في صعوده إلي السطح. كسرته الأبنية والإنشاءات في موضع المينا الشرقية. اهتزت الصورة, وربما تغيرت تماما. حلت مشاهد لم يسبق له رؤيتها, عرفها من الرؤية المباشرة, ومن كتابات الصحف, وبرامج الإذاعات, وقنوات التليفزيون, ومن روايات الذين أتيح لهم أن يترددوا علي المساحة الجديدة, الهائلة, المدينة التي بدأت ملامحها في الظهور, مدينة كاملة لها مرافقها وبناياتها ومساجدها وحدائقها وملاعبها وملاهيها, وقضبان الترام, ومحطات البنزين, والنافورات, والأسبلة الرخامية. حتي الشرطة صار لها مبناها المستقل, روي أنه أضخم ما في المدينة, تحفظ النظام وأمن السكان, بما تضمه من أجهزة حديثة.
تبدو صورة ما سيحدث في امتداد المدينة شاحبة, أو مشوشة.
أيقظه الضابط من ذهوله:
لكي تدخل فلابد من تصريح!
التفت إلي الواقفين جواره.
ظلوا علي سكونهم وصمتهم, وإن لاحظ في الأعين نظرات أقرب إلي الشرود, أو إلي الأسي. وثمة سحب متكاثفة إلي نهاية الأفق, غطت السماء برمادية شاحبة, وشطت بأمطار قريبة.
أعوزته الكلمات التي يعبر بها عما يعانيه, فسكت. أزمع بينه وبين نفسه أن يغلق فمه, خشي إذا حرك شفتيه أن يقول ما يجر عليه مشكلات لا يريدها.
قبل أن يعود قال الضابط كالمتنبه:
ما يدرينا أنك تطلب الدخول لفعل إجرامي؟
وعلا صوته بنبرة مهددة:
حتي لو اضطررت للعودة فلابد من تفتيشك.
وأشار إلي الجنود بتعبيرات تعكس المعني.
أحاط به الجنود, أخرجوا كل ما في ثوبه, قلبوه, تشمموه, تحسسوا أجزاء جسده.
ظلت نظراته ثابتة إلي البوابة المزدحمة بالجنود, وبالبنايات الممتدة وراءها, وهو يغالب التعثر والحزن, في خطواته الممتدة إلي داخل المدينة.
اعتاد في كل صباح أن يفتح النافذة المطلة علي البحر, يدخل الضوء وامتزاج رائحة الملح واليود والأعشاب, وما يتناثر في امتداد الأفق من فلايك وبلانسات وصيادين. يعبر الطريق إلي الكورنيش الحجري, تتغير ألوان الموج ما بين زرقة السماء, والسمرة الداكنة بخيمة السحب المتكاثفة. في أسفل يرتطم رذاذ الموج بالمصدات الأسمنتية, إذا كان الوقت شتاء فإن الرذاذ يعلو, يتحول إلي قطرات غزيرة تغرق ملابسه, فلا يغيب إحساسه بالنشوة.
لم يدر بباله ولا تخيل أن المشهد الذي اعتاده يختفي, يحل بدلا منه مشهد آخر تماما, تحده المسافة نفسها.
صحا علي اختفاء الكورنيش الحجري والأمواج والبلانسات والقوارب والمصدات الأسمنتية, وصيادي الجرافة, والطراحة والسنارة, وعسكري السواحل, اختفت المياه, وافترشت الشمس مساحة الأرض الخالية من الظلال. انبثقت كحلم مساحات جفت مياهها, في المسافة بين السلسلة وقايتباي. نصف الدائرة انتقل إلي الناحية المقابلة في نصف دائرة معكوسة.
أهمل زيادة اللوردات والأوناش والرافعات, وإلقاء مكعبات الأسمنت, والردم, فسر ما حدث بأنه لحماية المينا الشرقية من تأثرات النحر والنوات. لم يتصور أن ينتهي ذلك كله إلي الأرض الواسعة, المنبسطة.
أذهله موت البحر والأمواج, كأن الرمال امتدت من الشاطئ فغطت البحر تماما, واختفي الموج, لم يعد ما يشي بالحياة في المساحة الواسعة. النافذة لا تطل علي المينا الشرقية, ولا يترامي أمام البيت سوي اختلاط الرمال والحصي وقطع الحجارة. البحر مجرد تصور في نهاية الأفق, وإن ظل في سمعه صوت اصطخاب الموج, وتكسره علي مكعبات الأسمنت والكورنيش الحجري.
قرأ في الجريدة أن الأرض الرملية ستتحول إلي حي جديد, حاول تصور ماذا ستكون عليه البنايات والشوارع والميادين والبوابات, وما إذا كان الناس الذين سيقيمون فيها من أهل الإسكندرية, أم يفدون إليها من مدن أخري؟
روي أبوه عن انتقاله من داخل المدينة إلي الشقة المطلة علي البحر, لم يكن الكورنيش الحجري قد أنشئ, ولا وضعت المصدات الأسمنتية في داخله. كانت الأمواج تبسط مدها دون تكسر علي ما يعيق تقدمها. البيوت والأكواخ والأكشاك في مقدمة بنايات المدينة, علي حافة الشاطئ مباشرة, تمتد أمامها المساحة بين الشاطئ والداخل. يبتعد الناس عن الشاطئ بقدر توقعهم للخطر, ليس في أيام الموج المصيرة, وإنما في أيام النوات, تلامسها الأمواج في الشتاء, تقتحمها, تتحول إلي نوات قاسية, يرتفع مستوي سطح البحر, وترتفع الأمواج, تكتسح الناحية المقابلة, تجرف ما تناثر أمام الشاطئ من الأكواخ والكبائن والبيوت الصغيرة, في المواجهة المقابلة للشاطئ تخلفها وراءها, ربما امتدت إلي البنايات العالية في داخل المدينة, تعلو الأبواب وأسفل الجدران, قد تقتحم الدكاكين والطوابق الأرضية, وتهبط إلي البدرومات. يلجأ السكان إلي الأحياء البعيدة, أو ينشغلون بمنع تأثيرات المياه, إن ثارت النوات كنست أمامها كل شيء, ربما تهدمت البيوت, وعامت قطع الأثاث فوق الأمواج.
شكل الكورنيش الحجري مصدات تمنع الأمواج من اجتياح بيوت الصيادين في مواجهة الشاطئ الرملي. عرف سكان البيوت في قلب المدينة أن خطر مد الأمواج قد زال, وأن الكورنيش الحجري يحصر المياه في داخل المينا الشرقية. تبدلت الأوضاع, شيدت البنايات ذات الطوابق الأربعة, علي امتداد نصف الدائرة المحيط بالبحر, حتي لا تحجب الرؤية عن أربعة طوابق. القدرة علي رؤية البحر من أي موضع مسألة مهمة, لا يقتصر أفقه علي المطلين من البنايات المواجهة. سكنت فيها عائلات فرت من مد الأمواج إلي الداخل. انتقلت بيوت وأكواخ الصيادين إلي بيوت في السيالة والأنفوشي ورأس التين, وإلي أحياء المدينة البعيدة عن البحر.
أول ما يذكره من الكورنيش حين طلب الرجل ذو البدلة الكاملة والطربوش, وفي يده قلم الحبر ودفتر الإيصالات, علي تقاضي نسبة الاثنين في المائة, نطقها المية اتنين, قال أبوه وهو يدفع المبلغ:
أنشئ الكورنيش منذ سنين بعيدة.. لماذا تصرون علي تحصيل هذه النسبة؟!
اكتفي الرجل بهزة رأس خالية من المعني.
كانت فرصة الاختيار متاحة أمام أبيه لاستئجار الشقة المطلة علي البحر. لم يكن التمليك قد عرف طريقه إلي الشقق. استقر علي الطابق الثاني, فلا يكون في مستوي الطريق, ولا يتعبه السلم إن تقدمت به السن, علي ناصيتين, فلا تكون مخنوقة, تضاعف الإيجار عبر السنين لكنه ظل معقولا.
تلاشت صور الإسكندرية.. المدينة الداخلية. تبدلت صورة البحر الذي يحيط بها, ويبتعد إلي مسافة بعيدة عن صف البنايات الممتد علي طريق الكورنيش.
لم يعد الكورنيش الحجري فاصلا بين المينا الشرقية وامتداد البنايات أمامها. ردمت مساحة المياه, فاختفي الفاصل. هو لا يطل من الكورنيش الحجري علي المشاهد بين السلسلة وقلعة قايتباي: البلانسات, والقوارب, والأمواج, وصيادي السنارة والطراحة والجرافة, والمارة, والجالسين علي المقاعد الرخامية, وباعة الفشار والآيس كريم.
جفت الأرض تماما, عدا حفر متناثرة امتلأت بالأسماك الميتة. اتجهت الأسماك إلي ما بعد الشاطئ الجديد إلي قلب البحر, ومات الكثير منها فوق الأرض المختلطة بالرمال والمياه. أهمل التصريحات التي ناقشت إن كانت الآثار الغارقة قد رفعت, أم ظلت في أماكنها: ما شغله هي المساحة بين قلعة قايتباي والسلسلة, وعمقها في البحر, وفي البنايات التي كانت تطل عليه, في الصورة التي ألفها, المدينة التي ألف ملامحها, وإن تابع من الصحف وكلام الناس, وبمشاهدة ما يحدث, عمليات التنقيب في المينا الشرقية. الرافعات والغواصون والخرائط والقطع الأثرية داخل الأعماق, جزيرة أنتي رودس, المدينة الملكية, قصر كليوباترة, قصر تأملات مارك أنطونيو, القصور الغارقة الأخري, أعمدة الرخام والجرانيت, تمثال إيزيس, وتماثيل علي هيئة أبو الهول, تماثيل صغيرة من الذهب, قواعد التماثيل ذات النقوش والكتابات اليونانية, أدوات مائدة طعمت بالأحجار الثمينة, كؤوس ذات زخارف نباتية, أوان محلاة بالفسيفساء, أقنعة, حلي, مباخر, شمعدانات.
غابت الملامح, لم تعد الأمكنة إلي ما ألفه الناس: البيوت بامتداد طريق الكورنيش والكازيونهات والمحال الكبري, ومرسي القوارب, والسور الحجري بين السلسلة والقايتباي. ما كان يمثل طرف الساحل صار جزءا من إسكندرية الداخل, هو مثل كرموز وغربال والباب الجديد والقباري وكفر عشري والورديان ومحرم بك وغيرها من الأحياء في داخل الإسكندرية.
صار من غير المتاح أن يستغرق في مشاهدة اتساع مشهد البحر إلي نهاية الأفق. الأفق هو شاطئ البحر. ظلت أسراب الطير تحلق, وإن لاحظ اختفاء طيور النورس, يميزها من لونها الأبيض وصيحاتها.
لم يتصور تلاشي مساحة المياه, المكملة لاستدارة المدينة. صارت امتدادا لأرض المدينة. في باله أن خللا ما, تحولا ما فرض طبيعته علي المدينة كلها. الأحياء والميادين والحدائق والشوارع والأرصفة واللافتات وعلامات المرور وأسلاك الفضائيات.. الأماكن التي اعتاد الناس الحياة فيها, التنقل بينها, دون أن يحدقوا أو يدققوا النظر. يطمئنون إلي إحساس الألفة. بدت علي غير ما كانت عليه قبل أن تغيب المينا الشرقية. لا يقتصر التغير علي المنطقة ما بين البحر والمنطقة المطلة عليه, لكنه يجده في المساجد والمقاهي ودور السينما, حتي الكازينوهات التي مثلت واجهة للمدينة, قبالة البحر, تغيرت نظرته إليها, حتي الأسماء التي تشحب بملامسة البحر تبدل شعوره أمامها.
لم تعد كل الشوارع تفضي إلي البحر. بدل اقتطاع مساحات المياه من التصرفات المألوفة والتوقعات. تصطدم نظراته بالبنايات في المساحة البديلة, يري البحر بالتخيل, وأنه هناك وراء الأفق الجديد.
تناسي التحرك العفوي في اتجاه البحر. غابت الملامح التي يدركها دون أن يراها: البنايات, التقاطعات, المفارق, إشارات المرور, العلامات الضوئية, اللافتات, الشورع المتقاطعة, والتي لا نهاية لها, عربات الترام والباصات والسيارات, وعربات الحنطور, وعربات الكارو, ومحطات البنزين, والباعة, وزحام المارة, لم يعد الناس يتجهون إلي البحر لرؤيته, بدا البحر أفقا غائبا, يبتعد عن مدي النظر.
بدل سيره كل صباح إلي الشاطبي والعودة. يمضي علي رصيف البنايات التي كانت تطل علي البحر قبل أن يبتعد, يتجه عند ورش القزف إلي الناحية المقابلة. يسير بخطوات متسارعة إلي قرب رأس التين, ويعود. البحر هو ما يريد السير إلي جواره.
داخله اطمئنان أن طريق الكورنيش من الشاطبي إلي مرسي القوارب لن يفقد قيمته. كل الشوارع داخل المدينة تصب فيه. حين تشيد البنايات في موضع ما كان المينا الشرقية, فإن الشوارع التي تتخللها ستشكل, علي نحو ما, امتدادا للشوارع المتفرعة من طريق الكورنيش.
ظهرت في مساحة الأرض بنايات وميادين وشوارع وساحات وحدائق تحيط بها, وتتوسطها شجيرات صغيرة, مقلمة, علي هيئة دوائر ومربعات ومثلثات, وممرات يغطيها الحصباء الملون.عادت الظلال بارتفاع الأسوار, وتوالي إقامة البنايات: عمارات عالية, وذات طابقين أو ثلاثة, وفيلات. تمازجت أشعة الشمس بالظلال في الشوارع الممتدة, والمتقاطعة, وفي الزوايا والأركان.
صعد إلي سطح البيت حاول تبين ما وراء الأسوار العالية, والأشجار الكثيفة. التقطت عيناه بالكاد ما يشبه الأجزاء المتناثرة من البنايات والواجهات ومساحات الخضرة, صممت الإنشاءات, وما يحيط بها فيصعب رؤيتها حتي علي قاطني الطوابق العالية في عمائر الكورنيش.
ترامت عبر النافذة نسمات باردة, تحمل رائحة ورود, تختلف عما اعتاده أنفه من اختلاط روائح الملح واليود والطحالب والأعشاب. حدس أن الرائحة الجديدة من الحدائق في مساحة الأرض التي غطتها الإنشاءات. حاول النفاذ بنظرته بين ما أتيح له رؤيته من البنايات أول مساحة الأرض, يبحث عن أماكن الحدائق التي يتضوع الجو برائحة ورودها.
صار كل شيء جميلا بما لا يتصوره, أهمل حتي السؤال عن الآثار التي كانت في قاع البحر وهل طمرت, أم رفعت من مواضعها؟
تحولت المدينة إلي حيين, قسمين, مدينتين, الإسكندرية التي يعرفها, ومدينة أخري تأتي أخبارها دون أن يتاح له رؤية الكثير مما تضمه.
يرنو من فوق السطح إلي الجهة التي اعتاد أن يشاهد منها نصف الدائرة الواسعة, ما بين السلسلة والقلعة, تراوح حركة الموج بين الهياج والحصيرة. اختلف ما ألف مشاهدته. أفق البحر إلي حيث تغيب الرؤية. إلي اليسار خليج الأنفوشي, حافته ورش القزف, وتتناثر في مساحته بلانسات وقوارب صغيرة, تنتهي إلي الجزيرة الصغيرة الصخرية, وانحناءة الطريق إلي سراي رأس التين. تتحول نظراته بالتعود إلي الميناء الغربية, البواخر الضخمة والأرصفة والمخازن وشون الغلال والرافعات وبلوطات الأخشاب والأجولة وأحياء الإسكندرية البعيدة. يشاهد الإعلانات المتوهجة بأنوار النيون فوق البنايات العالية بميدان محطة الرمل, آخر رؤيتها مئذنة القائد إبراهيم, وتصاعد قضبان المترو إلي مناطق الرمل.
لم يعد هذا هو المشهد الذي كان يتوقعه في صعوده إلي السطح. كسرته الأبنية والإنشاءات في موضع المينا الشرقية. اهتزت الصورة, وربما تغيرت تماما. حلت مشاهد لم يسبق له رؤيتها, عرفها من الرؤية المباشرة, ومن كتابات الصحف, وبرامج الإذاعات, وقنوات التليفزيون, ومن روايات الذين أتيح لهم أن يترددوا علي المساحة الجديدة, الهائلة, المدينة التي بدأت ملامحها في الظهور, مدينة كاملة لها مرافقها وبناياتها ومساجدها وحدائقها وملاعبها وملاهيها, وقضبان الترام, ومحطات البنزين, والنافورات, والأسبلة الرخامية. حتي الشرطة صار لها مبناها المستقل, روي أنه أضخم ما في المدينة, تحفظ النظام وأمن السكان, بما تضمه من أجهزة حديثة.
تبدو صورة ما سيحدث في امتداد المدينة شاحبة, أو مشوشة.
أيقظه الضابط من ذهوله:
لكي تدخل فلابد من تصريح!
التفت إلي الواقفين جواره.
ظلوا علي سكونهم وصمتهم, وإن لاحظ في الأعين نظرات أقرب إلي الشرود, أو إلي الأسي. وثمة سحب متكاثفة إلي نهاية الأفق, غطت السماء برمادية شاحبة, وشطت بأمطار قريبة.
أعوزته الكلمات التي يعبر بها عما يعانيه, فسكت. أزمع بينه وبين نفسه أن يغلق فمه, خشي إذا حرك شفتيه أن يقول ما يجر عليه مشكلات لا يريدها.
قبل أن يعود قال الضابط كالمتنبه:
ما يدرينا أنك تطلب الدخول لفعل إجرامي؟
وعلا صوته بنبرة مهددة:
حتي لو اضطررت للعودة فلابد من تفتيشك.
وأشار إلي الجنود بتعبيرات تعكس المعني.
أحاط به الجنود, أخرجوا كل ما في ثوبه, قلبوه, تشمموه, تحسسوا أجزاء جسده.
ظلت نظراته ثابتة إلي البوابة المزدحمة بالجنود, وبالبنايات الممتدة وراءها, وهو يغالب التعثر والحزن, في خطواته الممتدة إلي داخل المدينة.