كنتُ وصديقى "عزوز " إذا طالت جَلْستُنا في القهوة، ورغبنا في تناول العشاء، قصدنا "مطعم فورفاتلي " بشارع "عدلي " ...نفضله على سائر المطاعم ـ بالرغم من صغره وتواضعه، لعنايته بإعداد بعض الألوان الإيطالية الأصيلة. وأعلن "السنيور فورفاتلي " أنه سيحدثُ انقلاباً في مطعمه، يتناول كل شيء فيه بالتجديد. وذهبنا يوم الاحتفال بافتتاح المطعم في مظهره الحديث، فلم نر إلا تغييراً يسيراً سطحيًا إذا استثنيتُ أمراً واحداً جديراً بالملاحظة، ذلك أن "السنيور فورفايلي " رأى أن ينصب على مقربة من باب المطعم دمية من ورق مقوى تمثل سيداً أنيقًا يحملُ في يده قائمة الطعام، وكانوا يسلطون على هذه الدمية نوراً كهربياً تبدو به بهيجة تستوقف الأنظار .
ووقفت أتأملُ هذه الدمية، فلم ترُقني هيئتها، على ما امتازت به من إتقانٍ في الصنعة
كانت هذه الدمية تمثل شخصية السيد المتظرف الأنيق " رجل الصالون المصري " وأنيس كل حفلة شائقة. ومن منا يجهل هذا المزهو المتحذلق وهو يخطر في لبوس المحافل الرسمي، ووجهه الأمرد مستنير بشبه ابتسامة يختلط فيها الترحيب بالكبرياء ، وهذا "المونوكل" المثبت على حق عينه بمهارة خليقة بالإعجاب، وهذه الشملة السوداء ذات البطانة الحريرية البيضاء يبسطها على كتفيه في تأنق مصحوب بإهمال مقصود، وأخيراً هذه اليد المكسوة بالقفاز الأبيض، آخذة بعصا مفضضة المقبض، متلاعبة بها. لبثت أتأمل الدمية وقتاً وقد شغلتني شخصيتها عن قائمة الطعام الماثلة في يدها اليسرى، ولكن " السنيور فورفاتلي" جاء ينهى إلى أن عشاء الليلة يحوى غير "الاسبجتى النابوليتانية " صحناً من " الرافيولي " الفاخر. ثم تركنا ليستقبل بعض رواد مطعمه, وملت على صديقي "عزوز " أقول وأنا أشير إلى الدمية : ما رأيك في هذا الصديق الجديد ؟
_ لقد أتى به "السنيور فورفاتلي " ليستقبل ضيوف المطعم... ألا ترى يده التي تحمل القائمة مشيرة إلى الباب ترشدنا إليه وترحب؟
_إنها طريقه جديدة في تكريم الزوار، كأني أسمعه يقول لنا وهو يدعونا إلى الدخول : تفضلوا يا سادة، وبالسم الهاري...!
وتناولت عشائي، وأنا ازدرد الطعام غير شاعر بمذاقه، إذ كنت مشغول الفكر بهذه الدمية الحقيرة، وكيف تأتى لها أن تظهر في هذا اللباس الفاخر, وألقيت مرة بنظري في المرآة أمامي فبدت لي حلتي الجديدة_ التي أدفع ثمنها أقساطاً شهرية _ غير جديرة بالثناء !
***
كنت كلما ذهبت إلى "مطعم فورفاتلي " لقيني وجه ذلك "الجنتلمان" الأنيق بابتسامته الكاسفة، فيرشق كل منا صاحبه بنظرة عجلى، نظرة يتجلى فيها الاحتقار والزراية، وما هي إلا أن أحول طرفي عنه، وأن أحث خطاي نحو الباب.
وجلست مع صديقي "عزوز" على مائدتنا المختارة في المطعم، نتذوق حساء "المينسترون " اللذيذ, وبغتة رفعت رأسي وقلت :
لو كنت حاكمًا بأمره لقضيت على هذه الفئة الغشوم...
فقال "عزوز" وهو منهمك يأكل:
-أي فئة تعني ؟
- فئة هؤلاء الجنتلمن المزيفين... فئة هؤلاء السادة المتعطلين... هاته الدمى التي تخفي تحت مظهرها الرشيق رءوساً خاوية لا يسكنها إلا الصلف والازدراء بالناس ...
فأجابني "عزوز" وهو ما زال منكبا على حسائه:
-لا تنسى أن هذه الفئة هي زينة حياتنا الاجتماعية العصرية!
وأقبل علينا "السنيور فورفاتلي" يستطلع رأينا في حساء "المينسترون " وقبل أن نجيبه بكلمة انطلق لسانه بحديث كأنه السيل الجارف يصف محاسن هذا الحساء وجودة طهيه...
وصادفت "عزوز" مساء أحد الأيام القهوة ، فبادرني بقوله:
سنذهب الليلة حتما إلى "مطعم فورفاتلي ".
فقلت له وأنا أخلع طربوشي وأمسح وجهي :
-ولم؟
-لقد مررت به وأنا في طريقي إلى هنا فاستقبلني صديقك "الجنتلمان" وقرأت في قائمة الطعام التي يحملها في يده أن عشاء اليوم يحوى لونا من "اللازانيا ".
_"اللازانيا " ... إنها لذيذة...!
_لذيذة جدا ...
_ولكن ...
_ ماذا؟...
_ليس لي رغبة في الذهاب !
_كيف ؟... ألست جائعا ؟
_جائع ... ولكنني ... ولكنني أفضل أكل طريفة من الطعمية والفول ...
_ لقد سقم ذوقك بلا ريب، أتفضل الطعمية والفول على "اللازانيا" ...؟
_ وماذا في ذلك ؟
_أتذكر أنك كثيراً ما طلبت من " السنيور فورفاتلي " هذا اللون من الطعام ؟
_ هذا صحيح ... ولكن لا أحس الليلة رغبة في تناوله.
وأصررت على رأيي، فلم أرافقه
***
وقل اختلافي إلى " مطعم فورفاتلي " فكان صديقي "عزوز" يعجب من انصرافي عنه، وزهدي فيه، ويسائلني في ذلك، فأزعم له أن المطعم _ منذ تجديده _ قد فقد طابعه القديم، وفقد مع هذا الطابع ميزته في جودة الطهي وإرضاء رواده, فكان "عزوز " يحتج على هذا ويستنكره .
وخرجت مرة من المطعم، وبينما كنت ماراً عن كثب "بالجنتلمان "، إذا عثرت قدمي, وكدت أسقط سقطة لا تخلو من خطر، لو لا أن أدركني "عزوز" فاعتدلت في وقفتي وأنا أصلح من شأني، ووقع بصري على "الجنتلمان " وهو ماثل في وقفته الأرستقراطية المتحذلقة، فإذا هو منطلق الوجه في بشرٍ وانتصار, وراعتني منه ابتسامة لم ألمحها على ثغره في هذا المظهر الساخر قبل الآن, وخيل إلى أن شفتيه تتحركان بغمغمة:
"ما أشد غباوتك من رجل غفلى! " . اعتقاد راسخ بأن هذا "الجنتلمان " كان سبب سقطتي... أتكون قدمه اليمنى في حذائها اللامع الأنيق قد امتدت في طريقي فأعثرتني؟ أو تكون تلك العصا الممقوتة ذات المقبض المفضض قد استطالت واعترضت قدمي؟
ودنوت منه وقد رفعت يدي لأهوى بها على خده المصعر ... ولكنني وجدتني أنتزع قائمة الطعام من يده وأنهال عليها أمزقها شر ممزق ... ! منذ ذلك الحادث لم تطأ قدمي "مطعم فورفاتلي " وقابلت "عزوز" يوما فحمل إلى خبراً خطيراً, ذلك أن "السنيور فورفاتلي " أفلس، فلقد كان ممن يضاربون في السوق المالية، فأصابته نكبة فادحة، فاضطر أن يغلق مطعمه، ورأيتني أفاجئ صديقي بقولي:
"والجنتلمان "؟
_ إن مصابي في المطعم أكبر من أن يجعلني أهتم بهذه الدمية ..
_ولكنك تعلم على الأقل ما حل بمتاع " السنيور فورفاتلي "..
_علمت أن كل ما يمتلكه في المطعم قد بيع بالمزايدة..
ولم أطل معه الحديث في هذا الشأن، وفي اليوم التالي قصدت إلى المكان الذي كان يشغله المطعم، وطفقت أسأل البوابين والجيران عمن اشترى "الجنتلمان "فلم أحظ بجواب ...
وتركت المكان، وأنا مغيظ ...
***
وتوالت الأيام، وبينما كنت مارا في حارة "جامع البنات " أمام حانوت "كوهين الوراق " إذ رأيت نفسي وجهاً لوجه أمام "الجنتلمان "، فبهت، وأحست لحظة حيرة وارتباكا، ولكن سرعان ما تزايل ذلك عنى، وألقيت بنظرة متفحصة عليه، فوجدته يحمل في يده اليسرى لوحًا من الورق المقوى مثبتة فيه بطاقات زيارة في أشكال مختلفة وخطوط شتى, وكان كعهدي به يرتدى لبوس السهرة، وعلى كتفيه الشملة الثمينة ملقاة في إهمال مقصود، ومازال قابضاً بيده اليمنى على عصاه الثمينة ذات المقبض المفضض, كان هو هو ذلك "الجنتلمان "الأرستقراطي، عروس "الصالون" العصري ... ولكن شيئاً واحداً لحظته لم أعهده فيه من قبل، شيئاً راعني وأشعرني بإحساس غريب، هو تلك النظرة التي يرنو بها للناس, لقد تضاءلت لمعتها الوهاجة المنطوية على الزهو والصلف, أما وجهه فقد شاع فيه النحول والسقم واكتسى بطابع الأسى, وخيل إلى وأنا أتفحصه أنه كان يزيغ بصره عنى ليتجنب مواجهتي, وكأنه يتململ في وقفته ضجرًا... فابتسمتُ وقد انكببت على بطاقاته أتفرج، وأنا أهمهم :
- ياللحظ العاث ! من "مطعم فورفاتلي " الفاخر في شارع "عدلي" إلى وراق صغير في حارة "جامع البنات"!
وداعبت بعصاي عصاه، فشعرت بها تهتز في يده على وشك أن تتحطم، فتركته ومضيت في طريقي ...
لا أدرى ما الذي دفعني إلى أن أكثر ترددي على حانوت "كوهين " الوراق، فأجعله مكاناً مختارا أقضى فيه بعض الأصائل, لعله ذلك الجو القديم الذي يشمل حارة "جامع البنات" وملحقاتها، حيث يطيب للمرء أن يستعد ذكريات الماضي المحببة ... أو لعله شيء أخر لم أستبنه . وعلى أية حال لا أنكر أنه كانت تحلو لي جلستي على المقعد الخشبي الخشن أمام الحانوت أرشف القهوة وأدخن على مهل، أتحسس بين وقت وأخر حلتي الجديدة، فخوراً بجودة نسيجها وأناقة تفصيلها، وغير بعيد عنى صاحبنا "الجنتلمان" في وقفته التي لا تتغير، يحمل على مضض وكره منه لوح البطاقات يعرضه على المارين .
***
وكنا في مستهل الصيف ،فتهيأ لى الرحيل إلى رأس البر، وأقمت فيه نحو شهر ، ولما عدت قصدت إلى دكان الوراق، فلم أر صاحبي "الجنتلمان " في مكانه المألوف، فسألت "كوهين " عنه، فأحبرني وهو لم يغادر مقعده أمام مكتبه، وأنفه المقوس الطويل يعبث في دفتر الحساب، قائلا :
-لقد ضقنا ذرعاً به, طالما شكا المارة منه، زاعمين أنه يشغل حيزاً كبيراً في الحارة، فيعوقهم في الغدو والرواح !
_وماذا صنعتم به ؟
_ بعناه .
_ لمن ؟
_لشخص لا أعرفه ... رضي أن يدفع لي مبلغاً حسناً ثمناً له .
فتركت الحانوت على الأثر , وأنا ضيق الصدر, وقد تجلت أمامي صورة ذلك السيد الارستقراطي الأنيق وهو واقف في سوق الرقيق تتناقله الأيدي كمتاع غث رخيص, وقد ستر وجهه بطرف شملته ليخفي نفسه عن أعين الشامتين
***
وانقضت بضعة أشهر كدت أنسى فيها حوادث صاحبي "الجينتلمان" وبينما كنت أمر بحارة "بين الصورين" في "الموسكي" أذ شعرت أن يدا تأخذ بطرف سترتي, فتلفت، فلم أرى إلا كومة من الملابس البالية موضوعة على شبه مشجب أمام حانوت من حوانيت بيع المتاع القديم, فلم اعني بالأمر, واعتزمت مواصلة سيري, غير أنه استرعى نظري على حين بغته شيء يشبه اليد في قفاز ابيض قذر ظهرت لي بين الملابس, وتصور لي أنها كانت تضطرب كأنها تستوقفني, فعدت أدراجي وقلبي يدق, ومضيت على الفور ارفع كومة الملابس عن المشجب, فبان لي رويدًا صديقي "الجينتلمان".. يا الله ما اشد شحوبه, وما أكثر تجاعيد وجهه.. ورأيته كأنه يتنفس الصعداء, ويحاول ان يرفع قامته المقوسة التي حناها وأذلها وقر تلك الملابس القيمة.., وقفت أتأمله في حسرة وفي حيرة لا أجد من نفسي الشجاعة على الدنو منه لقد كان كل شيء فيه ينطق بالبؤس والفاقة, شملة ممزقة وكسوة قذرة عاثت فيها يد التخريب.. وعصاه الثمينة لم يبق منها غير مقبضها الفضي الحائل, حرص على أن يبقيه في يده ذكرى لحياة العز والسؤدد.. و"المنوكل", لم أرى له أثرا.. ولكن كل ذلك لم يعد شيئا مذكورا أذا قسناه بما دهم عينيه. يا للقدر القاسي, لقد أصبحتا مثقوبتين, فهل فقد حاسة الإبصار؟.. وأخيرًا وجدتني أدنو منه بخطى هينة ثم أطبقت بيدي على يده, وطفقت أهزها في حنو وإخلاص, فأحسست شفتيه تختلجان بابتسامة مكتئبة, وكان جفنيه قد انطبقا, وانحدرت منها قطرتان لامعتان..
وفي لحظة ألفيته ينهار أمامي, ويصبح كومة من الأنقاض
( انتهت)ـ
* الجنتلمان، قصة لمحمود تيمور، ضمن مجموعة قصص ( بنت الشيطان)
مكتبة الأسرة " مهرجان القراءة للجميع، القاهرة، 1995"
ووقفت أتأملُ هذه الدمية، فلم ترُقني هيئتها، على ما امتازت به من إتقانٍ في الصنعة
كانت هذه الدمية تمثل شخصية السيد المتظرف الأنيق " رجل الصالون المصري " وأنيس كل حفلة شائقة. ومن منا يجهل هذا المزهو المتحذلق وهو يخطر في لبوس المحافل الرسمي، ووجهه الأمرد مستنير بشبه ابتسامة يختلط فيها الترحيب بالكبرياء ، وهذا "المونوكل" المثبت على حق عينه بمهارة خليقة بالإعجاب، وهذه الشملة السوداء ذات البطانة الحريرية البيضاء يبسطها على كتفيه في تأنق مصحوب بإهمال مقصود، وأخيراً هذه اليد المكسوة بالقفاز الأبيض، آخذة بعصا مفضضة المقبض، متلاعبة بها. لبثت أتأمل الدمية وقتاً وقد شغلتني شخصيتها عن قائمة الطعام الماثلة في يدها اليسرى، ولكن " السنيور فورفاتلي" جاء ينهى إلى أن عشاء الليلة يحوى غير "الاسبجتى النابوليتانية " صحناً من " الرافيولي " الفاخر. ثم تركنا ليستقبل بعض رواد مطعمه, وملت على صديقي "عزوز " أقول وأنا أشير إلى الدمية : ما رأيك في هذا الصديق الجديد ؟
_ لقد أتى به "السنيور فورفاتلي " ليستقبل ضيوف المطعم... ألا ترى يده التي تحمل القائمة مشيرة إلى الباب ترشدنا إليه وترحب؟
_إنها طريقه جديدة في تكريم الزوار، كأني أسمعه يقول لنا وهو يدعونا إلى الدخول : تفضلوا يا سادة، وبالسم الهاري...!
وتناولت عشائي، وأنا ازدرد الطعام غير شاعر بمذاقه، إذ كنت مشغول الفكر بهذه الدمية الحقيرة، وكيف تأتى لها أن تظهر في هذا اللباس الفاخر, وألقيت مرة بنظري في المرآة أمامي فبدت لي حلتي الجديدة_ التي أدفع ثمنها أقساطاً شهرية _ غير جديرة بالثناء !
***
كنت كلما ذهبت إلى "مطعم فورفاتلي " لقيني وجه ذلك "الجنتلمان" الأنيق بابتسامته الكاسفة، فيرشق كل منا صاحبه بنظرة عجلى، نظرة يتجلى فيها الاحتقار والزراية، وما هي إلا أن أحول طرفي عنه، وأن أحث خطاي نحو الباب.
وجلست مع صديقي "عزوز" على مائدتنا المختارة في المطعم، نتذوق حساء "المينسترون " اللذيذ, وبغتة رفعت رأسي وقلت :
لو كنت حاكمًا بأمره لقضيت على هذه الفئة الغشوم...
فقال "عزوز" وهو منهمك يأكل:
-أي فئة تعني ؟
- فئة هؤلاء الجنتلمن المزيفين... فئة هؤلاء السادة المتعطلين... هاته الدمى التي تخفي تحت مظهرها الرشيق رءوساً خاوية لا يسكنها إلا الصلف والازدراء بالناس ...
فأجابني "عزوز" وهو ما زال منكبا على حسائه:
-لا تنسى أن هذه الفئة هي زينة حياتنا الاجتماعية العصرية!
وأقبل علينا "السنيور فورفاتلي" يستطلع رأينا في حساء "المينسترون " وقبل أن نجيبه بكلمة انطلق لسانه بحديث كأنه السيل الجارف يصف محاسن هذا الحساء وجودة طهيه...
وصادفت "عزوز" مساء أحد الأيام القهوة ، فبادرني بقوله:
سنذهب الليلة حتما إلى "مطعم فورفاتلي ".
فقلت له وأنا أخلع طربوشي وأمسح وجهي :
-ولم؟
-لقد مررت به وأنا في طريقي إلى هنا فاستقبلني صديقك "الجنتلمان" وقرأت في قائمة الطعام التي يحملها في يده أن عشاء اليوم يحوى لونا من "اللازانيا ".
_"اللازانيا " ... إنها لذيذة...!
_لذيذة جدا ...
_ولكن ...
_ ماذا؟...
_ليس لي رغبة في الذهاب !
_كيف ؟... ألست جائعا ؟
_جائع ... ولكنني ... ولكنني أفضل أكل طريفة من الطعمية والفول ...
_ لقد سقم ذوقك بلا ريب، أتفضل الطعمية والفول على "اللازانيا" ...؟
_ وماذا في ذلك ؟
_أتذكر أنك كثيراً ما طلبت من " السنيور فورفاتلي " هذا اللون من الطعام ؟
_ هذا صحيح ... ولكن لا أحس الليلة رغبة في تناوله.
وأصررت على رأيي، فلم أرافقه
***
وقل اختلافي إلى " مطعم فورفاتلي " فكان صديقي "عزوز" يعجب من انصرافي عنه، وزهدي فيه، ويسائلني في ذلك، فأزعم له أن المطعم _ منذ تجديده _ قد فقد طابعه القديم، وفقد مع هذا الطابع ميزته في جودة الطهي وإرضاء رواده, فكان "عزوز " يحتج على هذا ويستنكره .
وخرجت مرة من المطعم، وبينما كنت ماراً عن كثب "بالجنتلمان "، إذا عثرت قدمي, وكدت أسقط سقطة لا تخلو من خطر، لو لا أن أدركني "عزوز" فاعتدلت في وقفتي وأنا أصلح من شأني، ووقع بصري على "الجنتلمان " وهو ماثل في وقفته الأرستقراطية المتحذلقة، فإذا هو منطلق الوجه في بشرٍ وانتصار, وراعتني منه ابتسامة لم ألمحها على ثغره في هذا المظهر الساخر قبل الآن, وخيل إلى أن شفتيه تتحركان بغمغمة:
"ما أشد غباوتك من رجل غفلى! " . اعتقاد راسخ بأن هذا "الجنتلمان " كان سبب سقطتي... أتكون قدمه اليمنى في حذائها اللامع الأنيق قد امتدت في طريقي فأعثرتني؟ أو تكون تلك العصا الممقوتة ذات المقبض المفضض قد استطالت واعترضت قدمي؟
ودنوت منه وقد رفعت يدي لأهوى بها على خده المصعر ... ولكنني وجدتني أنتزع قائمة الطعام من يده وأنهال عليها أمزقها شر ممزق ... ! منذ ذلك الحادث لم تطأ قدمي "مطعم فورفاتلي " وقابلت "عزوز" يوما فحمل إلى خبراً خطيراً, ذلك أن "السنيور فورفاتلي " أفلس، فلقد كان ممن يضاربون في السوق المالية، فأصابته نكبة فادحة، فاضطر أن يغلق مطعمه، ورأيتني أفاجئ صديقي بقولي:
"والجنتلمان "؟
_ إن مصابي في المطعم أكبر من أن يجعلني أهتم بهذه الدمية ..
_ولكنك تعلم على الأقل ما حل بمتاع " السنيور فورفاتلي "..
_علمت أن كل ما يمتلكه في المطعم قد بيع بالمزايدة..
ولم أطل معه الحديث في هذا الشأن، وفي اليوم التالي قصدت إلى المكان الذي كان يشغله المطعم، وطفقت أسأل البوابين والجيران عمن اشترى "الجنتلمان "فلم أحظ بجواب ...
وتركت المكان، وأنا مغيظ ...
***
وتوالت الأيام، وبينما كنت مارا في حارة "جامع البنات " أمام حانوت "كوهين الوراق " إذ رأيت نفسي وجهاً لوجه أمام "الجنتلمان "، فبهت، وأحست لحظة حيرة وارتباكا، ولكن سرعان ما تزايل ذلك عنى، وألقيت بنظرة متفحصة عليه، فوجدته يحمل في يده اليسرى لوحًا من الورق المقوى مثبتة فيه بطاقات زيارة في أشكال مختلفة وخطوط شتى, وكان كعهدي به يرتدى لبوس السهرة، وعلى كتفيه الشملة الثمينة ملقاة في إهمال مقصود، ومازال قابضاً بيده اليمنى على عصاه الثمينة ذات المقبض المفضض, كان هو هو ذلك "الجنتلمان "الأرستقراطي، عروس "الصالون" العصري ... ولكن شيئاً واحداً لحظته لم أعهده فيه من قبل، شيئاً راعني وأشعرني بإحساس غريب، هو تلك النظرة التي يرنو بها للناس, لقد تضاءلت لمعتها الوهاجة المنطوية على الزهو والصلف, أما وجهه فقد شاع فيه النحول والسقم واكتسى بطابع الأسى, وخيل إلى وأنا أتفحصه أنه كان يزيغ بصره عنى ليتجنب مواجهتي, وكأنه يتململ في وقفته ضجرًا... فابتسمتُ وقد انكببت على بطاقاته أتفرج، وأنا أهمهم :
- ياللحظ العاث ! من "مطعم فورفاتلي " الفاخر في شارع "عدلي" إلى وراق صغير في حارة "جامع البنات"!
وداعبت بعصاي عصاه، فشعرت بها تهتز في يده على وشك أن تتحطم، فتركته ومضيت في طريقي ...
لا أدرى ما الذي دفعني إلى أن أكثر ترددي على حانوت "كوهين " الوراق، فأجعله مكاناً مختارا أقضى فيه بعض الأصائل, لعله ذلك الجو القديم الذي يشمل حارة "جامع البنات" وملحقاتها، حيث يطيب للمرء أن يستعد ذكريات الماضي المحببة ... أو لعله شيء أخر لم أستبنه . وعلى أية حال لا أنكر أنه كانت تحلو لي جلستي على المقعد الخشبي الخشن أمام الحانوت أرشف القهوة وأدخن على مهل، أتحسس بين وقت وأخر حلتي الجديدة، فخوراً بجودة نسيجها وأناقة تفصيلها، وغير بعيد عنى صاحبنا "الجنتلمان" في وقفته التي لا تتغير، يحمل على مضض وكره منه لوح البطاقات يعرضه على المارين .
***
وكنا في مستهل الصيف ،فتهيأ لى الرحيل إلى رأس البر، وأقمت فيه نحو شهر ، ولما عدت قصدت إلى دكان الوراق، فلم أر صاحبي "الجنتلمان " في مكانه المألوف، فسألت "كوهين " عنه، فأحبرني وهو لم يغادر مقعده أمام مكتبه، وأنفه المقوس الطويل يعبث في دفتر الحساب، قائلا :
-لقد ضقنا ذرعاً به, طالما شكا المارة منه، زاعمين أنه يشغل حيزاً كبيراً في الحارة، فيعوقهم في الغدو والرواح !
_وماذا صنعتم به ؟
_ بعناه .
_ لمن ؟
_لشخص لا أعرفه ... رضي أن يدفع لي مبلغاً حسناً ثمناً له .
فتركت الحانوت على الأثر , وأنا ضيق الصدر, وقد تجلت أمامي صورة ذلك السيد الارستقراطي الأنيق وهو واقف في سوق الرقيق تتناقله الأيدي كمتاع غث رخيص, وقد ستر وجهه بطرف شملته ليخفي نفسه عن أعين الشامتين
***
وانقضت بضعة أشهر كدت أنسى فيها حوادث صاحبي "الجينتلمان" وبينما كنت أمر بحارة "بين الصورين" في "الموسكي" أذ شعرت أن يدا تأخذ بطرف سترتي, فتلفت، فلم أرى إلا كومة من الملابس البالية موضوعة على شبه مشجب أمام حانوت من حوانيت بيع المتاع القديم, فلم اعني بالأمر, واعتزمت مواصلة سيري, غير أنه استرعى نظري على حين بغته شيء يشبه اليد في قفاز ابيض قذر ظهرت لي بين الملابس, وتصور لي أنها كانت تضطرب كأنها تستوقفني, فعدت أدراجي وقلبي يدق, ومضيت على الفور ارفع كومة الملابس عن المشجب, فبان لي رويدًا صديقي "الجينتلمان".. يا الله ما اشد شحوبه, وما أكثر تجاعيد وجهه.. ورأيته كأنه يتنفس الصعداء, ويحاول ان يرفع قامته المقوسة التي حناها وأذلها وقر تلك الملابس القيمة.., وقفت أتأمله في حسرة وفي حيرة لا أجد من نفسي الشجاعة على الدنو منه لقد كان كل شيء فيه ينطق بالبؤس والفاقة, شملة ممزقة وكسوة قذرة عاثت فيها يد التخريب.. وعصاه الثمينة لم يبق منها غير مقبضها الفضي الحائل, حرص على أن يبقيه في يده ذكرى لحياة العز والسؤدد.. و"المنوكل", لم أرى له أثرا.. ولكن كل ذلك لم يعد شيئا مذكورا أذا قسناه بما دهم عينيه. يا للقدر القاسي, لقد أصبحتا مثقوبتين, فهل فقد حاسة الإبصار؟.. وأخيرًا وجدتني أدنو منه بخطى هينة ثم أطبقت بيدي على يده, وطفقت أهزها في حنو وإخلاص, فأحسست شفتيه تختلجان بابتسامة مكتئبة, وكان جفنيه قد انطبقا, وانحدرت منها قطرتان لامعتان..
وفي لحظة ألفيته ينهار أمامي, ويصبح كومة من الأنقاض
( انتهت)ـ
* الجنتلمان، قصة لمحمود تيمور، ضمن مجموعة قصص ( بنت الشيطان)
مكتبة الأسرة " مهرجان القراءة للجميع، القاهرة، 1995"