هو مهندسٌ متخصّصٌ بالجيولوجيا... مهمّتُه استكشافُ المناجم .. واستطلاع خبايا الأرض والتنقيب عن النفط .. والإشراف على الحَفْر.
خبرتُه العتيقة جعلته يعرف التربةَ من رائحتها .. من لونِها .. يستعملُ أوصافاً تليقُ بالنساء..هذه التربة سمراء غنية .. وتلك شقراء شاحبة ... احذروا الأديمَ الأحمر شيمتهُ الغدرُ ولو كان غنياً بالحديد .. بين تضاريسهِ أوكارُ الأفاعي شديدة السّمية .. لذلك أحَبَّ الرّفاق أحاديثه .. فالمرأة هي الحاضرة الغائبة في مجتمع الرجال.
حفنةٌ من التراب يَقبِضُ عليها .. يفركها بأصابعه .. يشمّها .. يقرأ بين ذرّاتها فحواها ..يرسم إشاراتٍ على مفاصلها وصخورها .. يحلّلها .. يحرّمها .. يضع أجهزته فوق الصوتية كالطبيب عندما يفحص حاملاً في شهرها التاسع .. يعرف أنّ في رحمِ هذه البُقعة مُبتغاه من الثروات الباطنية .. يثقب طبقات الأرض فيُخْرِجُ منها عبقَ التاريخ غازاً أو زيتاً صخرياً .. يزدرعُ علماً على فوهة البئر إثباتاً لامتلاكه .. هذا البئر النفطيُّ لنا وحرامٌ على غيرنا.
قال:
-أحبُّ الأرضَ كالمرأةِ بكراً .. مجهولةَ الأعماق .. خجلةً من وقع خطواتنا ومن (وطئنا ) لها ... إذ خلف خَفَرها وحيائِها كنوزٌ وثروات .. وعندما تدقّها حفّاراتنا ..أراها ثيباً ومثقوبة .. مهتوكة الحرمات .. مسبورة الأغوار.. مكشوفة التاريخ وسيعيثون فيها فساداً من بعدي..
قد تكون أنت الأول .. المستكشف والفاتح .. ثم يستبيحون البئر!!
وللأسف .. كلّ ما يحيط بكم أصبح مثقوباً.. مخروماً.. مخروقاً .. ومخترقاً ..نحن نعيش بين الثقوب السوداء وخيالاتنا تجنح نحو الثقوب الحمراء..
هاجسنا نحن البشر البحث عن الثقوب والدخول بها أو الخروج منها .. يقضي الجنين تسعة أشهر في رحم أمه بنعيمٍ تام .. فلا بردَ ولا جوع ولا عمل .. ثم يجاهد في مخاضٍ رهيب للخروج من ثقب صغير .. وعندما يدرج في الحياة يجهد ويجاهد أيضاً بحثاً عن طرقٍ شتى لمعاودة الدخول إلى ثقب مشابه!
يحاول الإنسان ثقب كل شيء .. ثم امتلاك ثقوبه وفوهاته .
هكذا يسيطرون على البحر الواسع بامتلاك مضائقه .. ويسيطرون على البلاد بفتحها أولاً ثم يضبطون مداخلها ومخارجها .. مطاراتها وموانئها.. فيمتلكونها.
والمرأة أيضاً .. ماهي إلا قارورة مبهمة عذراء .. حُرمة تفتَحُها .. وإذا سيطرْتَ على ثغورها .. كانت لك وحدك وحرامٌ على غيرك.!
وكلّ الحروب قائمة على ضفاف الثغور لامتلاكها .. ومن ثم رفع الرايات على الموانئ والمضائق والمناجم .. وينابيع النهر وآبار النفط..
إنها نظرية الثّقبْ بفتح الثاء عنوة وبالتشديد.. وإبقاء القاف والباء ساكنتين خاشعتين!
كان المهندس يتكلّم بعصبيّة ظاهرة .. ويطلق زفراتٍ مسموعة بين جُمله غيرَ مُبالٍ باستغراب الصديق .. لم ينظر في عينيه ولم ينتظر منه جواباً كأستاذٍ يُملي محاضرة في الفقه .. أفكاراً ينبغي التسليمُ بها .. بل وحفظها منزّلة ً هكذا.. والإيمانُ بها..
لذلك تابع شرْحَ نظريته :
-هل تعلم متى ينضُج المرء ويصبح عاقلاً؟.. نظريتي تقول عندما يسيطر على ثقوبه ويمتلك زمامها .. فثقوب الإنسان تعمل بالغريزة كالحيوان منذ ولادته .. يتبوّل ويتغوّط ويتعرّق ويطلق أصواتاً لا معنى لها .. بشكلٍ انعكاسي لا إرادي .. وعندما يضبط مصرّاته وثقوبه يصبح واعياً.. تلك هي البداية
ثم يضبط فمه ومخارج حروفه بما يتناسب مع مجتمعه .. فيصبح ناطقاً
ويرقى عندما يقفل فمه ويفتح أذنيه .. فيصبح متكلماً
ويمتلك الصحة عندما يسيطر على فمه بما يأكل أو يشرب .. فيغدو سليماً..
أو يُغفِل ذلك الثغر فيدخّن ويعربد .. فيصبح مريضاً
ويسود عندما يبدأ بالسيطرة على ثغور الآخرين فيكمّ الأفواه ويسدّ الآذان ويعمي العيون .. أو يتحكم بما يدخل أو يخرج من ثقوبهم الخلقية.. فيمتلكهم .. فيسمى سيداً.. أو مالكاً أو ملِكاً .
أحسّ الصديق بالملل من سرد نظريةٍ قائمةٍ على الإملاء .. وكأنها فتوى حول المحرّمات .. فحاول ترطيب الموقف :
- رويدك .. أنت تحاول السيطرة على ثقوبنا أيضاً بدءاً من ثقوب مسامعنا
-دعني أكمِل .. ولا تستخفّ بما قد يكون خافياً عليك .. نظرية الثقب تتطور بإبداع الإنسان .. فتطور الطب مثلاً قائم على استكشاف البدن ظاهرياً ثم الدخول إليه من ثقوبه بالمناظير عبر كل الثغور .. ثم قرروا ثقبه بالجراحات التنظيرية وثقب شرايينه بالقثطرة وصولاً إلى قلبه .. وهذا ما نفعله نحن بالأرض.
قال الصديق وقد بلغ الملل منه مبلغاً:
-أظن أن الأطباء يتعلمون منا وليس العكس .. نحن سبقناهم باستعمال الأمواج فوق الصوتية لاستكشاف طبقات الأرض وأعماق البحر ومن ثم سبر أغوارها ... دعنا من العلم وحدثنا عن النساء ليحلو الكلام ونخفّف من غربتنا في هذه الصحراء ..
ضحك المهندس وقال:
-المرأة ..والمرأة مجدداً!! .. سأحدّثك عن المرأة وفق نظريتي
تنهّد واحتبس نفساً طويلاً .. ثم تابع :
- شبهوها بالقارورة وشرفها تختصره فوهتها فقط .. وفي الحقيقة هي ليست أكثر من ثقبة عوراء يقدّسون عذريتها .. ويرقصون بمنديلها المبلل بدمها عندما يثقبونها .. والرجل الذي خرج من ذلك الثقب المقدس كما قلت سابقاً .. يفني عمره وماله ساعياً وراء ثقب مشابه للذي خرج منه..
هذا هو هاجسك ..ثقوب المرأة .. أليس كذلك ؟.. لذلك جاءت الآية الكريمة (وآتوا حرثكم أنى شئتم) .. لأن القدير يعرف جهلكم .. وحتى الآن يطلبون الفتوى في إتيان المرأة من دبرها .. أو أذنها اليمنى .. إذ لا يستأخرون إن فاضت تلك القارورة بالدم الشهري !. وقد وصل الإنسان في هيامه بالثقوب مرحلة مَرَضية .. فلم تسلم منه ثقبة في جدار .. ولا دابة ولا حمار!
- هذه نظرة سوداوية وقذف عشوائي لم يسلمْ منه أحد؟.. إنها تشويه وثقبٌ للحقائق وصولاً إلى تفريغها من محتواها .. وقد نتفهّم منك فكرة الثقب بمعانيها الهجومية .. لكنّ سؤالي يبقى ملحّاً.. لمَ كلّ هذا الغضب بعد انفتاح البئر.. وبعد أن تؤتي جهودنا أكلها ؟.. نحن نزغرد ونهلل وأنت تنهرنا .. ثم تمسك مطرقتك وتدق الصخور حول البئر حتى تفتتها ... لم كلّ هذا الغضب الدفين ؟.. كأنك تنتقم أو تثأر من الأرض.
قال المهندس وكانت عيونه ساهمة في الأفق:
- عندما نجحت للمرة الأولى في كشف بئرٍ للنفط وخرج زيته الأسود .. رقصت حوله ومرّغت ثيابي ووجهي به .. وكدت أن أشربه وأكتحل به ... ولكن خبرتي علمتني أن هذا الفتح ستتلوه الهزائم المنكرة.
إنه شعور مؤلم أن تفتح بئر النفط ويستبيحه غيرك .. تثقب الجوهرة ويمتلكها غيرك .. أنا فالحٌ في ثقب الثغور وفاشلٌ في امتلاكها.. ولن أفلح أبداً في امتلاك ثغوري والسيطرة عليها .. ولذلك تراني غاضباً أو نادماً
الأرض تخونني عندما تفتح ذراعيها للاستثمار .. والجوهرة تخون من غاص لينتشلها .. ومن بذل الجهد ليثقبها .. فتستحلي من يستحليها ويتحلى بها..
ولذلك أغضب الآن على الأرض الخوّان وأدوسها وأقلّب صخورها وقد أردم آبارها لو قدرت ...
وأغضب على كل اللآلئ المعلقة وأحاول قطع سلاسلها .. وقد أعيدها إلى القاع..
وأغضب على كل امرأة فكت ضفائرها بأن أجزَّ شعرها .. وكل امرأة انشق إزارها بأن أغطي عوراتها .. أو أدفنها في بيتها .
أجاب صديقه :
- ويلي من هذا الغضب ... ألم تحلّ عليكَ السّكينة بعدَ زواجكَ الثاني؟
وجهُه المتجهّم .. وعيونُه المكتحلة بالاحمرار .. تنمّ عن إجهاده وسهره .. قد يكون السبب وهجُ الصحراء ... لكنّ نظراته المشتتة تلخّص أشتاتَ أفكاره و شكوكه وارتياباته .. ثبّت قدمه على إحدى الصخور ثم قلب الصخرة رأساً على عقِبْ .. فخرجت من تحتها حيّة صغيرة .. انسحبت وتسللت إلى جُحرٍ قريب .. قال:
- أرأيت ماذا يخبّئ الوجه الآخر لتلك الصخرة البيضاء؟.. حيّاتٌ وعقارب .. هذه هي المرأة .. لا تأمَن جانِبَها .. اضربْها بمطرقتك فتكشف لكَ ما تُخفيه قبل أن تستسلمَ لها وتُسنِدَ ظهركَ إليها .. في المرة القادمة سأضرب الأرض قبل فتحها .. وأضرب النساء جميعاً لمجرّد مرورهن بجانبي.. (وَأدُهُنّ ) حلالٌ يوم ولادتهن.
إن (امتلاك الجوهرة لا يتم بثقبها فقط ، بل يجب أن تحارب للحفاظ عليها ) .. وهذا ما ينسحب على المرأة .. هات مثقبك الصغير واثقب هذه الصخرة .. اتركْها أياماً وليالٍ في الصحراء.. وعندما تعود سترى ذلك الثقب أصبح وَكراً ومَرتعاً للحيّات...
زوجتي تخونني ياهذا ... هل فهِمتَ ما أقصد ؟... أنا أغيبُ عنها طويلاً في هذه الفيافي ... وهي تستغيبني في غيبتي وغيابي ..
- لكنك غيرَ متأكّد ...أليس كذلك؟... وطلّقتَ زوجتكَ الأولى لمجرّدِ الشكّ بها فقط.
- الشّكوك والهواجس تسيطر عليّ في هذه الصحراء ... ولا أرى أمامي إلا تلك الصخور الصّامتة كصمتِ القبور.. أفرّغ شحنات غضبي فيها حتى يتطاير شرارها .. فتكشف ما خفي من أسرارها الدفينة ... لا أثق بأيّ امرأةٍ .. كلَهنّ سواء.
يبتسم صديقه للتّخفيف عنه.. ويقول :
-عندما نضع رايتنا عند فوهة بئر النفط يعني أننا امتلكناه .. ولن يستطيعَ أحدٌ استثماره دون علمنا ... تعالَ نضعُ رايةً عند مدخل بيوتنا كعلامةٍ على امتلاكنا لزوجاتنا ... فلا يستطيع أحدٌ الولوج إلى تلك المَحْميّة...
- إنه امتلاكٌ مؤقت للأسف .. بل قد يكون إعلاناً للبغي ... هل تعلم أنّ البغايا أيام الجاهلية كنّ يرفعنَ رايةً حمراء عند بيت الشَّعر الذي ينصبنَه في الأسواق الموسميّة كسوق عكاظ وذي المجاز ودومة الجندل .. وكان السُّعاة ينزعون الراية عند الدّخول .. ويرفعونها بعد الخروج لتدلَّ على أنّ العرضَ مازال قائماً .. فالراية المرفوعة عند باب البيت تطلب المزيد .. والغمد الذي يقبل أكثر من سيف لا خيرَ فيه .. وليس أهلاً لكي تتقلّد به ليركبَ حزامَه كتفيك ويتدلّى فوق جنبيك.
- أشمُّ في كلامكَ رائحة الطلاق ..واستكشافٌ جديدٌ للأرض .. والبحث عن بئرٍ آخرَ للنفط .. عُد إلى بيتكَ يا أخي ... واستثمرْ الثروة التي تختبئ في حناياه .. في جباله وسهوله ووديانه ... في أوكاره وثغوره..
نظرية الثَّقبة العوراء التي طرحتها ليست ثاقبة بل مليئة بالثقوب والفجوات
فالأرض واللؤلؤة فتَحْتَهما عنوةً ولذلك كنتَ لهما مالكاً .. أما من رَضِيَتْ وقبِلَت بك فاتحاً عن طيبِ خاطر.. ستفرضُ عليكَ شرعاً أن تملكك كما ملكتها .. أنت لها كما هي لك .. فهل تدعي العفاف يا مَن تطالب بالعفة؟
المرأة تشبه الأرض .. ونساؤنا (حرث لنا).. بل هي أرضٌ جديدة كلّ يوم .. إن أحسنتَ حراستها وحراثتها فاضت عليكَ بالخير والحبّ والحنان .. في المرأة ينابيع تفيض ولو أجدَبَتْ سماؤك .. وموارد دفء متجدّدة ولو حلّ عليك البرد .. في المرأة دورات من الحب والخصب المتجدد تعجز عن الإتيانِ بها أرضكَ وجواهرك .. الأرض المعطاء تعطي ثمراً وثروات دفينة .. والمرأة المعطاء تعطي أبناءً وذرارٍ صالحات .. الجوهرة جميلة ولكن جمالها محدود ببريق ولمعان..
أما المرأة فجمالها متجدد ..
ففيها عيونٌ .. تأسركَ بلحاظها فتصبحَ أرضاً لها .. وتسيل منها دموعٌ كالجواهر غالية الثمن .. إن تحدّرت فوق الخدود أطفأت ظمأك ونزلت عليك برداً وسلاماً..ولها ثغرٌ إن أطبقَ جذبك إليه .. وإن افترّ تلألأ .. وإن تكلّم نضح بالحب ..فأين ثغور الأرض من ذلك؟..
قاطعه المهندس بعد أن ضرب كفّاَ بكفّ :
- لا أختلف معك في شاعرية الوصف .. لشاب عازب نفسه عطشى ويجري وراء السراب .. ولكن دعني أسألك .. هل تخيلت نفسك يوماً وأنت تشهر مسدساً وتقتل زوجتك المستقبلية وحبيبة قلبك بدم بارد ؟.. هل تتوقع يوماً أن تدوس جسدها بالنعال ؟.. ذلك الجسد الذي تتغنى الآن به ؟.. ليس هذا فحسب بل ستخرج إلى الملأ وتصيح أنا الفاعل وتعتقد بأنك بطل ... ستقتلها ستثقب جسدها بطلقاتك .. فيكون الثقب هنا علاجاً للخيانة.
أعطني قربة الماء التي تتمنطق بها وتعلّقها في حزامك..
أخذ المهندسُ القربة المعدنية باستخفاف .. أزال غطاءَها القماشيّ ومزّقه بعنف .. قلّبها بين يديه وطبطب على مؤخّرتها .. فتح غطاءها المعدني بعصبية ورماه أرضاً ... أمام ذهول صاحبها .. مرّغ شاربيه بفوهتها .. شرب قليلاً .. وفرّغ محتواها العذب على حذائه وفوق رمل الصحراء .. بصق على فوهتها .. ثم واراها بعيداً.. قال:
- ما فعلته الآن هو نسخة عن الخيانة الزوجية ... لأنني أخذت قربتك وسفحت ماءها وبصقت في فوهتها قد تقتلَني .. أليس كذلك؟.. لن ترتضي أن تشرب منها ثانية ولو اغتسلَت بالصابون .. وقربتكَ هذه لا حول لها ولاقوة..
أما أنا .. فماذا سأفعل بقارورتي التي ارتضتِ الخيانة ؟... وماذا سأفعل بمن يشرب من فوهتها في غيابي.. ويمرّغ شاربيه فيها ؟.. لن تعودَ طاهرةً ولو اغتسلت بالماء أو الدموع .. أو الدم!!!...
نظريتي عن الثقبة العوراء ثاقبة وهي الغالبة .. وعليكَ أن تؤمنَ بخِبْرتي في مجاهلِ الأرض وتجربتي في بواطنِ النّساء..
د. جورج سلوم
**************************************
خبرتُه العتيقة جعلته يعرف التربةَ من رائحتها .. من لونِها .. يستعملُ أوصافاً تليقُ بالنساء..هذه التربة سمراء غنية .. وتلك شقراء شاحبة ... احذروا الأديمَ الأحمر شيمتهُ الغدرُ ولو كان غنياً بالحديد .. بين تضاريسهِ أوكارُ الأفاعي شديدة السّمية .. لذلك أحَبَّ الرّفاق أحاديثه .. فالمرأة هي الحاضرة الغائبة في مجتمع الرجال.
حفنةٌ من التراب يَقبِضُ عليها .. يفركها بأصابعه .. يشمّها .. يقرأ بين ذرّاتها فحواها ..يرسم إشاراتٍ على مفاصلها وصخورها .. يحلّلها .. يحرّمها .. يضع أجهزته فوق الصوتية كالطبيب عندما يفحص حاملاً في شهرها التاسع .. يعرف أنّ في رحمِ هذه البُقعة مُبتغاه من الثروات الباطنية .. يثقب طبقات الأرض فيُخْرِجُ منها عبقَ التاريخ غازاً أو زيتاً صخرياً .. يزدرعُ علماً على فوهة البئر إثباتاً لامتلاكه .. هذا البئر النفطيُّ لنا وحرامٌ على غيرنا.
قال:
-أحبُّ الأرضَ كالمرأةِ بكراً .. مجهولةَ الأعماق .. خجلةً من وقع خطواتنا ومن (وطئنا ) لها ... إذ خلف خَفَرها وحيائِها كنوزٌ وثروات .. وعندما تدقّها حفّاراتنا ..أراها ثيباً ومثقوبة .. مهتوكة الحرمات .. مسبورة الأغوار.. مكشوفة التاريخ وسيعيثون فيها فساداً من بعدي..
قد تكون أنت الأول .. المستكشف والفاتح .. ثم يستبيحون البئر!!
وللأسف .. كلّ ما يحيط بكم أصبح مثقوباً.. مخروماً.. مخروقاً .. ومخترقاً ..نحن نعيش بين الثقوب السوداء وخيالاتنا تجنح نحو الثقوب الحمراء..
هاجسنا نحن البشر البحث عن الثقوب والدخول بها أو الخروج منها .. يقضي الجنين تسعة أشهر في رحم أمه بنعيمٍ تام .. فلا بردَ ولا جوع ولا عمل .. ثم يجاهد في مخاضٍ رهيب للخروج من ثقب صغير .. وعندما يدرج في الحياة يجهد ويجاهد أيضاً بحثاً عن طرقٍ شتى لمعاودة الدخول إلى ثقب مشابه!
يحاول الإنسان ثقب كل شيء .. ثم امتلاك ثقوبه وفوهاته .
هكذا يسيطرون على البحر الواسع بامتلاك مضائقه .. ويسيطرون على البلاد بفتحها أولاً ثم يضبطون مداخلها ومخارجها .. مطاراتها وموانئها.. فيمتلكونها.
والمرأة أيضاً .. ماهي إلا قارورة مبهمة عذراء .. حُرمة تفتَحُها .. وإذا سيطرْتَ على ثغورها .. كانت لك وحدك وحرامٌ على غيرك.!
وكلّ الحروب قائمة على ضفاف الثغور لامتلاكها .. ومن ثم رفع الرايات على الموانئ والمضائق والمناجم .. وينابيع النهر وآبار النفط..
إنها نظرية الثّقبْ بفتح الثاء عنوة وبالتشديد.. وإبقاء القاف والباء ساكنتين خاشعتين!
كان المهندس يتكلّم بعصبيّة ظاهرة .. ويطلق زفراتٍ مسموعة بين جُمله غيرَ مُبالٍ باستغراب الصديق .. لم ينظر في عينيه ولم ينتظر منه جواباً كأستاذٍ يُملي محاضرة في الفقه .. أفكاراً ينبغي التسليمُ بها .. بل وحفظها منزّلة ً هكذا.. والإيمانُ بها..
لذلك تابع شرْحَ نظريته :
-هل تعلم متى ينضُج المرء ويصبح عاقلاً؟.. نظريتي تقول عندما يسيطر على ثقوبه ويمتلك زمامها .. فثقوب الإنسان تعمل بالغريزة كالحيوان منذ ولادته .. يتبوّل ويتغوّط ويتعرّق ويطلق أصواتاً لا معنى لها .. بشكلٍ انعكاسي لا إرادي .. وعندما يضبط مصرّاته وثقوبه يصبح واعياً.. تلك هي البداية
ثم يضبط فمه ومخارج حروفه بما يتناسب مع مجتمعه .. فيصبح ناطقاً
ويرقى عندما يقفل فمه ويفتح أذنيه .. فيصبح متكلماً
ويمتلك الصحة عندما يسيطر على فمه بما يأكل أو يشرب .. فيغدو سليماً..
أو يُغفِل ذلك الثغر فيدخّن ويعربد .. فيصبح مريضاً
ويسود عندما يبدأ بالسيطرة على ثغور الآخرين فيكمّ الأفواه ويسدّ الآذان ويعمي العيون .. أو يتحكم بما يدخل أو يخرج من ثقوبهم الخلقية.. فيمتلكهم .. فيسمى سيداً.. أو مالكاً أو ملِكاً .
أحسّ الصديق بالملل من سرد نظريةٍ قائمةٍ على الإملاء .. وكأنها فتوى حول المحرّمات .. فحاول ترطيب الموقف :
- رويدك .. أنت تحاول السيطرة على ثقوبنا أيضاً بدءاً من ثقوب مسامعنا
-دعني أكمِل .. ولا تستخفّ بما قد يكون خافياً عليك .. نظرية الثقب تتطور بإبداع الإنسان .. فتطور الطب مثلاً قائم على استكشاف البدن ظاهرياً ثم الدخول إليه من ثقوبه بالمناظير عبر كل الثغور .. ثم قرروا ثقبه بالجراحات التنظيرية وثقب شرايينه بالقثطرة وصولاً إلى قلبه .. وهذا ما نفعله نحن بالأرض.
قال الصديق وقد بلغ الملل منه مبلغاً:
-أظن أن الأطباء يتعلمون منا وليس العكس .. نحن سبقناهم باستعمال الأمواج فوق الصوتية لاستكشاف طبقات الأرض وأعماق البحر ومن ثم سبر أغوارها ... دعنا من العلم وحدثنا عن النساء ليحلو الكلام ونخفّف من غربتنا في هذه الصحراء ..
ضحك المهندس وقال:
-المرأة ..والمرأة مجدداً!! .. سأحدّثك عن المرأة وفق نظريتي
تنهّد واحتبس نفساً طويلاً .. ثم تابع :
- شبهوها بالقارورة وشرفها تختصره فوهتها فقط .. وفي الحقيقة هي ليست أكثر من ثقبة عوراء يقدّسون عذريتها .. ويرقصون بمنديلها المبلل بدمها عندما يثقبونها .. والرجل الذي خرج من ذلك الثقب المقدس كما قلت سابقاً .. يفني عمره وماله ساعياً وراء ثقب مشابه للذي خرج منه..
هذا هو هاجسك ..ثقوب المرأة .. أليس كذلك ؟.. لذلك جاءت الآية الكريمة (وآتوا حرثكم أنى شئتم) .. لأن القدير يعرف جهلكم .. وحتى الآن يطلبون الفتوى في إتيان المرأة من دبرها .. أو أذنها اليمنى .. إذ لا يستأخرون إن فاضت تلك القارورة بالدم الشهري !. وقد وصل الإنسان في هيامه بالثقوب مرحلة مَرَضية .. فلم تسلم منه ثقبة في جدار .. ولا دابة ولا حمار!
- هذه نظرة سوداوية وقذف عشوائي لم يسلمْ منه أحد؟.. إنها تشويه وثقبٌ للحقائق وصولاً إلى تفريغها من محتواها .. وقد نتفهّم منك فكرة الثقب بمعانيها الهجومية .. لكنّ سؤالي يبقى ملحّاً.. لمَ كلّ هذا الغضب بعد انفتاح البئر.. وبعد أن تؤتي جهودنا أكلها ؟.. نحن نزغرد ونهلل وأنت تنهرنا .. ثم تمسك مطرقتك وتدق الصخور حول البئر حتى تفتتها ... لم كلّ هذا الغضب الدفين ؟.. كأنك تنتقم أو تثأر من الأرض.
قال المهندس وكانت عيونه ساهمة في الأفق:
- عندما نجحت للمرة الأولى في كشف بئرٍ للنفط وخرج زيته الأسود .. رقصت حوله ومرّغت ثيابي ووجهي به .. وكدت أن أشربه وأكتحل به ... ولكن خبرتي علمتني أن هذا الفتح ستتلوه الهزائم المنكرة.
إنه شعور مؤلم أن تفتح بئر النفط ويستبيحه غيرك .. تثقب الجوهرة ويمتلكها غيرك .. أنا فالحٌ في ثقب الثغور وفاشلٌ في امتلاكها.. ولن أفلح أبداً في امتلاك ثغوري والسيطرة عليها .. ولذلك تراني غاضباً أو نادماً
الأرض تخونني عندما تفتح ذراعيها للاستثمار .. والجوهرة تخون من غاص لينتشلها .. ومن بذل الجهد ليثقبها .. فتستحلي من يستحليها ويتحلى بها..
ولذلك أغضب الآن على الأرض الخوّان وأدوسها وأقلّب صخورها وقد أردم آبارها لو قدرت ...
وأغضب على كل اللآلئ المعلقة وأحاول قطع سلاسلها .. وقد أعيدها إلى القاع..
وأغضب على كل امرأة فكت ضفائرها بأن أجزَّ شعرها .. وكل امرأة انشق إزارها بأن أغطي عوراتها .. أو أدفنها في بيتها .
أجاب صديقه :
- ويلي من هذا الغضب ... ألم تحلّ عليكَ السّكينة بعدَ زواجكَ الثاني؟
وجهُه المتجهّم .. وعيونُه المكتحلة بالاحمرار .. تنمّ عن إجهاده وسهره .. قد يكون السبب وهجُ الصحراء ... لكنّ نظراته المشتتة تلخّص أشتاتَ أفكاره و شكوكه وارتياباته .. ثبّت قدمه على إحدى الصخور ثم قلب الصخرة رأساً على عقِبْ .. فخرجت من تحتها حيّة صغيرة .. انسحبت وتسللت إلى جُحرٍ قريب .. قال:
- أرأيت ماذا يخبّئ الوجه الآخر لتلك الصخرة البيضاء؟.. حيّاتٌ وعقارب .. هذه هي المرأة .. لا تأمَن جانِبَها .. اضربْها بمطرقتك فتكشف لكَ ما تُخفيه قبل أن تستسلمَ لها وتُسنِدَ ظهركَ إليها .. في المرة القادمة سأضرب الأرض قبل فتحها .. وأضرب النساء جميعاً لمجرّد مرورهن بجانبي.. (وَأدُهُنّ ) حلالٌ يوم ولادتهن.
إن (امتلاك الجوهرة لا يتم بثقبها فقط ، بل يجب أن تحارب للحفاظ عليها ) .. وهذا ما ينسحب على المرأة .. هات مثقبك الصغير واثقب هذه الصخرة .. اتركْها أياماً وليالٍ في الصحراء.. وعندما تعود سترى ذلك الثقب أصبح وَكراً ومَرتعاً للحيّات...
زوجتي تخونني ياهذا ... هل فهِمتَ ما أقصد ؟... أنا أغيبُ عنها طويلاً في هذه الفيافي ... وهي تستغيبني في غيبتي وغيابي ..
- لكنك غيرَ متأكّد ...أليس كذلك؟... وطلّقتَ زوجتكَ الأولى لمجرّدِ الشكّ بها فقط.
- الشّكوك والهواجس تسيطر عليّ في هذه الصحراء ... ولا أرى أمامي إلا تلك الصخور الصّامتة كصمتِ القبور.. أفرّغ شحنات غضبي فيها حتى يتطاير شرارها .. فتكشف ما خفي من أسرارها الدفينة ... لا أثق بأيّ امرأةٍ .. كلَهنّ سواء.
يبتسم صديقه للتّخفيف عنه.. ويقول :
-عندما نضع رايتنا عند فوهة بئر النفط يعني أننا امتلكناه .. ولن يستطيعَ أحدٌ استثماره دون علمنا ... تعالَ نضعُ رايةً عند مدخل بيوتنا كعلامةٍ على امتلاكنا لزوجاتنا ... فلا يستطيع أحدٌ الولوج إلى تلك المَحْميّة...
- إنه امتلاكٌ مؤقت للأسف .. بل قد يكون إعلاناً للبغي ... هل تعلم أنّ البغايا أيام الجاهلية كنّ يرفعنَ رايةً حمراء عند بيت الشَّعر الذي ينصبنَه في الأسواق الموسميّة كسوق عكاظ وذي المجاز ودومة الجندل .. وكان السُّعاة ينزعون الراية عند الدّخول .. ويرفعونها بعد الخروج لتدلَّ على أنّ العرضَ مازال قائماً .. فالراية المرفوعة عند باب البيت تطلب المزيد .. والغمد الذي يقبل أكثر من سيف لا خيرَ فيه .. وليس أهلاً لكي تتقلّد به ليركبَ حزامَه كتفيك ويتدلّى فوق جنبيك.
- أشمُّ في كلامكَ رائحة الطلاق ..واستكشافٌ جديدٌ للأرض .. والبحث عن بئرٍ آخرَ للنفط .. عُد إلى بيتكَ يا أخي ... واستثمرْ الثروة التي تختبئ في حناياه .. في جباله وسهوله ووديانه ... في أوكاره وثغوره..
نظرية الثَّقبة العوراء التي طرحتها ليست ثاقبة بل مليئة بالثقوب والفجوات
فالأرض واللؤلؤة فتَحْتَهما عنوةً ولذلك كنتَ لهما مالكاً .. أما من رَضِيَتْ وقبِلَت بك فاتحاً عن طيبِ خاطر.. ستفرضُ عليكَ شرعاً أن تملكك كما ملكتها .. أنت لها كما هي لك .. فهل تدعي العفاف يا مَن تطالب بالعفة؟
المرأة تشبه الأرض .. ونساؤنا (حرث لنا).. بل هي أرضٌ جديدة كلّ يوم .. إن أحسنتَ حراستها وحراثتها فاضت عليكَ بالخير والحبّ والحنان .. في المرأة ينابيع تفيض ولو أجدَبَتْ سماؤك .. وموارد دفء متجدّدة ولو حلّ عليك البرد .. في المرأة دورات من الحب والخصب المتجدد تعجز عن الإتيانِ بها أرضكَ وجواهرك .. الأرض المعطاء تعطي ثمراً وثروات دفينة .. والمرأة المعطاء تعطي أبناءً وذرارٍ صالحات .. الجوهرة جميلة ولكن جمالها محدود ببريق ولمعان..
أما المرأة فجمالها متجدد ..
ففيها عيونٌ .. تأسركَ بلحاظها فتصبحَ أرضاً لها .. وتسيل منها دموعٌ كالجواهر غالية الثمن .. إن تحدّرت فوق الخدود أطفأت ظمأك ونزلت عليك برداً وسلاماً..ولها ثغرٌ إن أطبقَ جذبك إليه .. وإن افترّ تلألأ .. وإن تكلّم نضح بالحب ..فأين ثغور الأرض من ذلك؟..
قاطعه المهندس بعد أن ضرب كفّاَ بكفّ :
- لا أختلف معك في شاعرية الوصف .. لشاب عازب نفسه عطشى ويجري وراء السراب .. ولكن دعني أسألك .. هل تخيلت نفسك يوماً وأنت تشهر مسدساً وتقتل زوجتك المستقبلية وحبيبة قلبك بدم بارد ؟.. هل تتوقع يوماً أن تدوس جسدها بالنعال ؟.. ذلك الجسد الذي تتغنى الآن به ؟.. ليس هذا فحسب بل ستخرج إلى الملأ وتصيح أنا الفاعل وتعتقد بأنك بطل ... ستقتلها ستثقب جسدها بطلقاتك .. فيكون الثقب هنا علاجاً للخيانة.
أعطني قربة الماء التي تتمنطق بها وتعلّقها في حزامك..
أخذ المهندسُ القربة المعدنية باستخفاف .. أزال غطاءَها القماشيّ ومزّقه بعنف .. قلّبها بين يديه وطبطب على مؤخّرتها .. فتح غطاءها المعدني بعصبية ورماه أرضاً ... أمام ذهول صاحبها .. مرّغ شاربيه بفوهتها .. شرب قليلاً .. وفرّغ محتواها العذب على حذائه وفوق رمل الصحراء .. بصق على فوهتها .. ثم واراها بعيداً.. قال:
- ما فعلته الآن هو نسخة عن الخيانة الزوجية ... لأنني أخذت قربتك وسفحت ماءها وبصقت في فوهتها قد تقتلَني .. أليس كذلك؟.. لن ترتضي أن تشرب منها ثانية ولو اغتسلَت بالصابون .. وقربتكَ هذه لا حول لها ولاقوة..
أما أنا .. فماذا سأفعل بقارورتي التي ارتضتِ الخيانة ؟... وماذا سأفعل بمن يشرب من فوهتها في غيابي.. ويمرّغ شاربيه فيها ؟.. لن تعودَ طاهرةً ولو اغتسلت بالماء أو الدموع .. أو الدم!!!...
نظريتي عن الثقبة العوراء ثاقبة وهي الغالبة .. وعليكَ أن تؤمنَ بخِبْرتي في مجاهلِ الأرض وتجربتي في بواطنِ النّساء..
د. جورج سلوم
**************************************