عبير سلامة - ما ينحته الحلم من صخرة الروح عن نص قصر النملة لهالة البدري

بدأت هالة البدري النشر في أواخر السبعينات، سنة 1976 تحديداً، بكتاب (حكايات من الخالصة) التي هي اسم قرية فلسطينية دمرها الاحتلال الصهيوني، وأعاد فلاحون مصريون بناءها في العراق، بتجربة فريدة لا أظنها تكررت كثيراً، سواء في التاريخ العربي الحديث أو في السرد العربي، حكايات مكان متراكب الهوية يبدو الآن وكأنه تجسيد لحلم دائم بإزالة الحدود الجغرافية والثقافية .

تابعت هالة البدري هذه التجربة بعد سنوات بكتاب (فلاح مصري في أرض العراق، 1980) والكتابان معاً يشكلان المنبع الصافي في تجربتها الإبداعية، والمهجور أيضاً، ربما بسبب الطابع الصحفي الذي اعتدنا- أدبياً ونقدياً- أن ننظر إليه من أعلي، بالرغم من أن مقالة بين يدي موهبة أصيلة لا تقل إبداعا عن قصة أو قصيدة.

من تأثير هذين الكتابين أتصور أن هالة البدري بدأت تجربتها الروائية، وهي منتبهة لتيمة امتداد الجذور العائلية وما تشكله من بنية حكائية تصلح أساساً قوياً لأية رواية، فجاءت روايتها (منتهى) ثم أتبعتها الجزء الثاني (ليس الآن) في طموح واضح لكتابة رواية أجيال، وهو طموح يستحق التقدير بالنظر إلي ما تم إنجازه من هذا المشروع.

ليس هنا مجال الجديث عن روايات هالة البدري، بل قصصها، بخاصة مجموعة (قصر النملة) وهي الثالثة بعد مجموعتيّ (رقصة الشمس والغيم-1989) و (أجنحة الحصان- 1992)، ما يعني مرور خمس عشرة سنة بين المجموعة الأحدث والسابقة عليها، وهي فترة زمنية طويلة تفرض التساؤل عما أضافته الكاتبة لخبرتها بكتابة القصة.

لم يختلف العالم الذي تصوره هالة البدري في (قصر النملة) عن المجموعتين السابقتين، إلا قليلا، ما تغير هو طبيعة الصراع في ذلك العالم. في مجموعة (رقصة الشمس والغيم) غلب أن يكون الصراع بين حلم وحلم، حلم مرحلي تحققت ملامحه جزئيا، ثم شاب التحققَ قصور ما جعل الشخصية تلجأ إلى حلم آخر، يبدو غامضا في الغالب، لكن يمكن إدرك أنه يدور حول شكل من أشكال الحرية.

يمكن التمثيل بقصة (وجه منحوت في الزمن)، وفيها تصل الساردة إلى حافة اليأس من عدم فهمها ارتباكات التواصل بينها وآخر، في علاقة تختزل معنى الحياة بالنسبة لها. لقد تحولت حياتها إلى مجرد محاولات لمقاومة التشكيل القسري لكيانها من قبل الآخر، الذي يريدها صورة/ نسخة من امرأة أخرى هي أمه..

\'خيوط الشرنقة تنمو وتكبر معها صورته، إنها تبتلع كل الخيوط.. مَنْ تريد؟ أتريدني أنا كما أنا أم تريد ظل امرأة تصنعها وتقتطع منها ما شئت حتى تكون الصورة كما أردت لها أن تكون\'.

سوف تتفتح الشرنقة- الغلاف المجازي لأكثر قصص المجموعة الأولى- عن فراشة الحلم في المجموعة التالية، ليصبح الصراع بين واقع وحلم، ولعل أفضل تعبير عن هذا الصراع نجده في قصة (أجنحة الحصان)، وفيها يحاول فلاح أن يتخذ مع زوجته قرارا بشأن ما سيفعله بحصيلة سنوات الغربة، هو يريد حصانا، وهي تريد بقرة، الفرق بين الرغبتين هو نفسه الفرق بين حلم وواقع، بين شخصية حالمة ترهن مستقبلها بماضيها متجاهلة ظروف الحاضر، وشخصية عملية ترهن مستقبلها بحاضرها ولا تتوقع إلا ما تستطيع إنجازه بإمكاناتها.

تعود الفراشة مع الحصان المجنح للتحليق في مجموعة (قصر النملة)، حيث يصبح الصراع بين واقع وذكرى (كانت حلما)، وحيث تواصل هالة البدري ما اعتادت عليه من رصد مساحات تغير في وعي الشخصيات، مساحات ممتدة في لحظات غير متعينة الطول، نظرا لميل الشخصيات الواضح إلى الانفصال سريعا عن واقعها الخارجي وإكمال الحدث في داخل وعيها.

ليس الحدث في المجموعة حدثا بالمفهوم المعتاد، ليس فعلا مسببا أو سلسلة أفعال تربطها علاقة ما، فأحيانا لا يعدو أن يكون \'جملة\' قيلت في سياق آخر، صورة، ذكرى، إلخ. ولأن الحدث يكتمل في الداخل- تختلط على الناظر من الخارج سمات الشخصية وحدود وعيها، \'الأنا\' و\'الهو\' يتبادلان المواقع بسرعة، الساردة موجودة داخل المشهد وخارجه، أحيانا في الوقت نفسه، ما يعني أن فعاليتها فيما يقع منقوصة وكذلك وعيها به.

تنحاز لغة هالة البدري عموما إلى الخيال والتصوير البلاغي، ليست لغة إخبارية تتحرى حياد التعبير، بل هي تصوير غنائي متورط بوضوح فيما ينقله، من ذلك مثلا صورة الفراشة، التي تنتشر في المجموعات الثلاث بدرجات متفاوتة، وتبدو تمثيلا لذات الساردة، الذات الطامحة للحرية، المؤمنة بالجمال، والمعتصمة بالكبرياء.

تلتقي في قصة (قصر النملة) جماعة من المثقفين الأدباء في مقهى، ليس اللقاء هو الحدث، بل ظهور \'الفراشة\' والمعاني التي تمثلها للساردة..\'لمحت عن بُعد طيفا ناعما لفتاة جميلة تتحدث بيديها، تقتطف أصابعها الوهج من اللمس، وتكمل المعنى بالمواء الصاخب، تتمايل مع الموائد كأنها في أتون رقصة باليه، تلعب فيها دور البطولة، تدور وتدور، كفراشة ملونة حول الجالسين\'.

تجاوزت الساردة سريعا التوصيف الأخلاقي لمهنة الفتاة، بائعة الهوى، وحولتها تلقائيا إلى صورة جميلة مشمولة بالضعف والكبرياء. تجاوزت أيضا واقع الفتاة بالرغم من شعورها القوي بأزمتها، وتعاطفها الذي دفعها إلى اقتراح أن يجمعوا لها مبلغا يعوضها عن الوقت الذي ستقضيه معهم، قال لها أحدهم \'لن تكوني هنا في الغد لكي تحلي المشكلة\'، فعبر بذلك- إضافة إلى حوارهم المفارق- عن مدى انفصالهم عن عالم هذه الفتاة، وبالتالي عن عدم تأثير ما ينشغلون به عليها، على الرغم من استعدادها لتقبل أي تأثير كما يبدو من تشبثها المؤلم بالذهاب معهم.

تعود الإشارة إلى الحصان في نص (المدينة) الذي يتشكل من أربعة مشاهد توازن الساردة فيها بين زمنين يركض في الجديد منهما..\'حصان ليس مجنحا يمحو بذيله الماضي الذي كان لنا\'. وتدعم هذه الصورة الإحساس العام في المجموعة بأن ما تملكه الذات حقا هو الماضي وحده، ومن هنا جاء صراع الذكرى التي كانت في زمنها حلما مع الواقع الذي اختلفت قوانينه فلم يعد فيه موقع للذات ومَنْ يشبهها، الذات التي استغرقت في الحلم إلى حد عدم ملاحظة ما ينحته الحلم من صخرة روحها الأسيرة في شرنقة الوقت، على النحو الذي نجده في قصة (نخيل الخمر الصحراوي)، وهي أجمل قصص المجموعة وتعبر برقة شعرية عن عالمها وسمات شخصياتها.

الشخصية في القصة شاعرة، تقبل دعوة صديق مصور إلى رحلة للصحراء الغربية، على أن تكون الرحلة تمهيدا لمشروع معرض فني أدبي لهما معا. تبدأ الرحلة في فضاء يستعصي على الترويض، وتواجهنا فورا علاقة تحدِِ بدائي بين الصخور والريح. تتوقف الشاعرة أمام واحدة من الصخور التي تدعوها \'بيضات الزمن\'..

\'كانت الصخرة تشبه فراشة تهم بالطيران، نحتت الطبيعة أحد أجنحتها على شكل بروفيل لوجه امرأة\'.

ترى الشاعرة جرارا مربوطة بأعناق النخيل، تشعر بانقباض ويُخيل إليها أنها تسمع أنينا وحوار مسكونا بالخوف، وتعرف في النهاية السبب.. \'يصوبون سكينا إلى قلب النخلة، ويرشقون أنبوبا يمتص رحيقها قطرة قطرة\'، من أجل خمر النخيل الذي يستنزف حياة فراشة أخرى لا تختلف هي والصخور عن رمال لا تقاوم الريح، بل تفرد جناحيها \'وتتصالح مع القدر الذي كتب لها هجرة أبدية\'، بدون أن تتخلى عن كبريائها الحالم.

نجد هذا التفاني المتصالح برغم الألم في قصة (فطام)، وتصف لحظة قاسية تتكرر في حياة الأم، لحظة فطام ابنها الصبي عن رعايتها اليومية اللصيقة بكل تفاصيل حياته، نتيجة سفره إلى أسيوط للدراسة بكلية الطب. المشاعر الطبيعية التي رصدت لن تختلف لو كان الابن متوجها إلى أي مكان آخر، لكن اختيار مدينة أسيوط- في ظل الأزمات الطائفية المفتعلة والمشاكل الأمنية المستمرة في أوساط الطلبة- له دلالة مهمة على فعالية الساردة في المجموعة كلها.

تقول الساردة..\'وضعتنا المعلومات فجأة وسط أحداث نعرفها، لكنها لا تؤثر على حركتنا بالقدر الذي تستحق حتى وجدنا أنفسنا فجأة في أتون الحدث. اتخذنا القرار، حين التقت عيوننا عمدا، وسرت بيننا فكرة واحدة، كم كنا بعيدين في القاهرة عن أحداث تجري على بُعد بسيط عنا، احتوانا شعور ما بالذنب\'.

الساردة في قصص هالة البدري تدرك الأشياء والمعاني \'عن بُعد\'، تجد التشجيع على أن تكون نفسها، لكنها لا تعرف كيف، حلمت بالخروج من شرنقة ما يعوقها ولم تملك القدرة على اتخاذ قرار الخروج، فبقيت لها ذكرى الحلم في واقع متغير يزداد عدوانية.

قصة (خيتنيا) هي الأخيرة في مجموعة (قصر النملة)، وتحمل ما يشبه التبرير لمراوحة الوعي في تلك المسافة بين الذكرى والواقع. في القصة زوجان يتجهان إلى الإسكندرية في الخريف، فيخيب توقعهما خلوها من المصطافين وأملهما في خصوصية تنعش ذكرياتهما على شاطيء ميامي. يبدأ الهجوم على الذكرى بنظرات الفضول التي تحاصرهما عندما تظهر الزوجة بمايوه برتقالي في مشهد يحتله ملتحون ومحجبات ينزلون البحر بملابسهم الكاملة.

يسبح الزوجان بعيدا، ويستمتعان بلحظات من النشوة النادرة، كندرة قواقع الخيتنيا، ذلك الكائن الرقيق الذي يحتمي بخشونة الصدفة ويمنحها الدفء والجمال. لقد احترما بابتعادهما اختيار الآخرين، لكن أفق الآخرين أضيق من أن يسع غيرهم، وهكذا يتجه بعض الرجال نحوهما، يشعران بالخطر ويحاولان الابتعاد، لكنهما يدركان أخيرا أن لا مكان لهما، وأنهما لم يلاحظا من قبل إلى أي حد نمت قدرات الشر، وماداما هالكان لا محالة، يقرران اختيار النهاية بإرادتهما، فيستسلمان للبحر الذي يستوعب خوفهما وضعفهما، وينفتح أمامهما \'مبشرا بعالم غير مستحيل\'.

هل تحدد هذه الدرجة من فعالية الشخصيات، في عالم تثبت انشغالاته ويتغير شكل الصراع، مدى إضافة (قصر النملة) لخبرة المؤلفة بكتابة القصة؟ هل تصلح اللغة الشعرية، أو البناء المتحرر، محددا؟ يمكن الاختلاف في ذلك، غير أن ما يمكن الاتفاق عليه هو خصوصية صوت هالة البدري وجاذبية سردها للقراءة في أي شكل أدبي.

د. عبير سلامة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى