هشام ناجح - السر

قد تحاكم العالم وأنت في عقر دارك ،
فتسافر إلى حيث تلفحك شرارات الاتصال
والاحتكاك والاستعارة الثقافية.
هشام ناجح .
"ستكون أول من يطلع على السر إذا وصلت باكر إلى جزيرة خوان فرنانديز . عند بداية الغابة يوجد الباب الخلفي على يمينك يسطع بتوهج العلامة النحاسية الكبيرة . لاتطرق الباب بقوة لكي لاينزعج السكان ".
هكذا يوصي الجد حفيده مانديز ليكتشف السر ويعيش الحلم . الزورق الصغير يحتاج إلى الصيانة بعد راحة طويلة في العراء .قد يتطلب الأمر عدة أيام على الساحل المشمس ... يرغمه الجد بالاستيقاظ باكرا بلكزة من منسأته :
" كفى من النوم أيها الكسول أمامنا نوم كثير تحت التراب ".
يفتح مانديز عينا واحدة بصعوبة بالغة محاولا استعطاف الجد بحركة من يده . السهر على الكورنيش يسعف بتكرار النوبات دائما .
يتثاءب ويضع رأسه من جديد على الوسادة الخضراء جارا الغطاء الخفيف على وجهه ليحجب أشعة الشمس المتسللة من الشقوق .
الجد كعادته يجلس لتناول فطوره على كرسيه الأزرق المصنوع من خشب غابات أتاكاما الشحيحة في الشمال . استوعب صنعه جذع شجرة بأكمله . يومها كان فرغاس نجار الضاحية الوحيد . لم يتعلم الحرفة في ورشات أو محترفات . قلما يصنعون أشياءهم من دونه فيقول :
" انها هبة من الله ".
ـ ألم أقل لك ابتعد عن بيض دجاجتي ياجدي ؟ إنك تحاول أن تلملم قواك على حساب دجاجتي المسكينة .
ـ انها تقتات من حفنات القمح التي أقطع مسافات طوال لإحضارها ، انها تشاركني خبزي سأشاركها بيضها حتما .
اللون الأخضر هو المفضل عند مانديز . صورة مبهمة تذكى بروحه . لايستطيع أن يدرك سر هذا الإعجاب . الزورق الأخضر يتلامع باستثناء العبارة التي على جانبه باللون الأبيض "قد نموت أحيانا من شدة الفرح ".
يشير الجد إلى العبارة بمنسأته بعد أن أزال قبعته التي صنعها بنفسه من الدوم الذي يغطي سفوح الأنديز ، وهو يتمرغ من الضحك :
" تبا لك أيها الحفيد الشقي ، إنه اللهيب نفسه الذي يتوقد في الانسان ، فيسمو به إلى إدراك حقيقته ومع الموت ينطفئ هذا اللهيب".
الحر اللافح يرغم الجد على المشي بمحاذاة الموج . فقاعات تطوف بين براجم أصابعه ، وأسماك صغيرة تمور في عفوية بالغة . لم تدرك بعد رشدها :
"إنها مثل حفيدي هذا . لاشيء يسمو بنا سوى آلامنا ".
لازال مانديز يتمم ما تبقى من عبارته المفضلةبالخط الأبيض العريض .
البدر يتوسط السماء في ليلته الرابع عشرة . يتسلل مانديز دون أن يخبر جده . لاشك تناسى أن الجد هو من أخبره بتقويم الساعة الفلكية التي ستجود عليه بمعرفة السر .
البحر مثل سجاد يغري بمتابعة المسير . يدندن بكل أغاني الهنود الحمر التي يحفظها عن ظهر قلب مبجلا الاله "إيها مهي ".
بدأت تباشير الفجر تلوح في الأفق. الزورق على مشارف الموعد :
" ما الجدوى من ربط الزورق . قد لاأعود ثانية ولكن إذا ما عدت ستكون الجدوى . إن غريمي في الداخل . اللعنة عليك ياجدي تريدني أن أدرك السر".
يتمشى في احتراس بالغ . أجنحة الطيور مرعبة للغاية عندما تداهمك بإقلاعها :
" الباب نفسه على اليمين والعلامة النحاسية تتوسطه . يالها من صدفة رائعة ياجدي ".
طرقات خفيفة على الباب تعد بالشيء الكثير . ينفتح الباب لوحده . يدخل مانديز بحركات متأنية . حينها سيدرك لماذا يعيش الجد سعيدا على الدوام ، فيقول بخليط من الدهشة والإعجاب :
" السر يرى ولا يحكى ".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى