دائما كنَتَ تصل الأوّل، ودائما تكون آخر المغادرين حتّى أنّ الكلّ كان يظنّ أنك تسكن في المحطّة ولا تغادرها أبدا في الصّحو وفي المنام.
وكان كلبك قد اعتاد الانزواء في ركن قصيّ من هذا المكان طوال اليوم حتّى لا يزعج المسافرين، ولكنّه كان يسبقك بخطوات قليلة عندما تهمّ بالغدوّ أو عندما تهمّ بالرّواح فقد تعلّم من غضبك عليه عندما كان جروا أن لا مكان له بين أقدام هذه الجمهرة من البشر التي كانت تتهافت على سيّارات الأجرة تهافت الجوعى على خبز صاحب الدّابة.
- هل ذكرتُ صاحب الدابة؟
- نعم! ذكرتَ الأعور الدّجّال أيّها السّارد المهووس بتراث
الكتب الصّفراء!
لهذا ما أن انتهيتَ من قولك حتّى اشتمّ كلبُ حارس المحطّة رائحة خبزه الخارج لتوّه من فرن القيامة فقام يتتبّع الرّائحة وهو يتشمّمها بخياشيمه حتى وصل قرب سيّارة الأجرة التي وصلت البارحة من مدينة تونس العاصمة، فتذكرتَ في الحين الشّيخ الأعور الذي أثار حضوره نباح كلبك ما أن حطّت قدميه على الأرض واستوى واقفا بجانب السّيّارة كنخلة باسقة .
كان نباح الكلب هستيريّا وقد تحوّل بعد مدّة قصيرة إلى عواء، فنواح كنواح العجائز في الجنائز، ثمّ همد ما أن لوّح له الشّيخ بطرف برنسه بعدما رماه بسلة ملآى بالخبز.
( سنفتح قوسا لنحكي قليلا عن الشّيخ الأعور صاحب البرنس الذي رمى الكلب بسلّة الخبز، فقد تركه يأكل من السّلّة مُبصبصا بذَنبه وجاءك مُسلِّما كأنّه يعرفك من قديم الزّمان وسالف العصر والأوان ، فمدّ لك يده وشدّ على يدك بلطف وسألك إن كنتَ تعرف نُزلا قريبا يقضي فيه ليلته، فدللته على واحد غير بعيد عن المحطّة وأنت تتوجّس خيفة منه فقد كان يشعّ من عينه الوحيدة نور كاد يعشي بصرك فاتّقيته بيديك الاثنتين وأنت تتعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم .
وذهب الشّيخ وغاب عن الأنظار، فعاد كلبك إلى العواء ) .
أمّا نحن فقد أغلقنا القوس إلى حين.
*****
من الغد، تغيّرت أشياء كثيرة في المحطّة. غاب الكلب عن ركنه القصيّ الذي اعتاد المكوث فيه طوال الوقت. وما عاد الحارس يقضًا كعادته وهو يتابع الصّغيرة والكبيرة في هذا المكان الضّاجّ بالحياة:نداءات السّوّاق عن وجهات مركباتهم، وضجيج محرّكات السّيّارات التي امتلأت بالمسافرين وهي تهمّ بمغادرة المحطّة، وأصوات الباعة المتجوّلين، وهمس العشّاق ساعة وداع الأحبّة وخشخشة مكبّر صوت يدعو راكبا قد تأخّر عن موعد السّفر، وتأوّهات فنّانة يصدح من هاتف جوّال...
لكن سأغلق هذا القوس أيضا حتى لا تضيع القصّة مع تبعات واو العطف.
*****
هل ندمتَ لأنكَ، وأنتَ عائد إلى بيتك بعد وصول آخر سياّرة أجرة إلى المحطّة، مررت على صديقك عامل الاستقبال بالنّزل الذي أشرت به على شيخ البرنس فأصابك ذهول جعلك تبدأ بالصّراخ عندما رأيت شيخك وقد لبس بذلة عصريّة بربطة عنق على شكل فراشة وفرد على طاولة أنواعا شتّى من الخبز الأبيض والأسمر والأسود،ولم تسكت إلّا بعدما وخزتك إبرة الممرّض في قاعة الحالات الاستعجاليّة في المستشفى الحكومي.
فقلت بعدما استعدت وعيك وأنت تشير بإصبعك إلى الفراغ:
- لا تأكلوا من خبز صاحب البرنس الذي تحوّل إلى لباس الفرنجة!
وزدت بعدما هدّأ الممرّض من روعك وهو يضرب على كتفك بلطف:
- كلبي الذي اعتاد المشي بين قدمي ومن أمامي ومن خلفي اختفى بغتة كمن تخطّفته الجنّ بعدما لحس سلّة الخبز التي رماه بها ذاك الرّجل قبل أن يغادر المحطّة وهو يلوّح بطرف برنسه على كتفيه.
فقال لك الممرّض وهو يبتسم:
- رأيت كلبا رابضا أمام باب القسم الاستعجالي بالمستشفى!
ومشى معك حتّى أوصلك أمام الباب وأشار إلى كلب من فصيلة الرّاعي الألماني وهمس في أذنك:
- أوليس هذا كلبك؟
فأجبْته وأنت تتشبّث بميدعته البيضاء بعدما تفرّست مليّا في وجه الكلب:
- هذا هو الأعور الدّجاّل يا صاحبي، وقد تركته في القاعة الكبرى يعرض على النّزلاء خبزه، فماذا جاء به إلى هنا؟
فعاد بك الممرّض إلى القاعة البيضاء ومدّدك على السّرير وأغلق القوس إلى حين.
*****
أصبحت سيّارات الأجرة تدخل إلى المحطّة وتخرج منها بدون حسيب ولا رقيب. وفاجأ السّوّاق أوّل الأمر صمت الحارس الذي ما عاد يهتمّ لمرور السّيّارات من أمامه ولا يردّ على تحيّاتهم الصّباحيّة والمسائيّة ولا على نكاتهم التي طالما كان يردّ عليها بأحسن منها ثم اعتادوا على صمته ردحا من الزّمن فكانوا يمرّون من أمامه وهو في همهمة دائمة لا تهدأ ولا تفتر، فيأسفون لحاله، ولكن الحياة لم تتوقّف، فقد كانت تمرّ في عدوّها اليوميّ دون أن تأبه بأحد، ثم لاحظوا بعد مدّة أنّ الحارس ما عاد يهتمّ بهندامه الذي طالما تأنّق فيه بشكل كان يثير غيرتهم وحسدهم . وكبرت الحالة أكثر عندما صار يعترض طريقهم عند الوصول إلى المحطّة ليقوم بعمليّة تفتيش بين الرّكاب عن الأعور الدّجّال مرّة وعن صاحب الدّابة مرّة أخرى ولا يستثني في فورة بحثه لا الرّضيع ولا النّساء مهمهما كعادته:
- قد يتلبّس ذاك الأعور هذا الصّبيّ أو هذه المرأة!
وتقبّل السّواق في البداية جنونه ثم بدأوا يملّون جرأته عليهم وعلى ركّاب سيّاراتهم فاشتكوه لشرطة حماية المحطّة خفية ثمّ جهارا، فأذن رئيس المركز لأعوانه بدعوته إلى التزام الهدوء والسّهر على راحة المسافرين وإلّا فإنّه سيقوم بالإجراءات التي تحجّر عليه دخول المحطّة ويغلق القوس نهائيا.
*****
أغلق رئيس مركز شرطة المحطّة القوس نهائيّا بعدما صار الحارس يرفع صوته بالنّداء كلّما امتلأ المكان بالخلق العظيم :
- أيّها النّاس!
اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا!
لا تأكلوا من خبز الأعور الدّجّال!
لا تأكلوا من خبز الأعور الدّجّال!
لا تأكلوا من خبز الأعور الدّجّال!
فيرتفع نباح الكلب من ركن قصي في المحطّة.
نباح أجش.
نباح كلب من فصيلة الرّاعي الألماني.
ويصبح لون الشّمس أسود.
شمس تطلع من مغربها.
إبراهيم درغوثي/تونس
وكان كلبك قد اعتاد الانزواء في ركن قصيّ من هذا المكان طوال اليوم حتّى لا يزعج المسافرين، ولكنّه كان يسبقك بخطوات قليلة عندما تهمّ بالغدوّ أو عندما تهمّ بالرّواح فقد تعلّم من غضبك عليه عندما كان جروا أن لا مكان له بين أقدام هذه الجمهرة من البشر التي كانت تتهافت على سيّارات الأجرة تهافت الجوعى على خبز صاحب الدّابة.
- هل ذكرتُ صاحب الدابة؟
- نعم! ذكرتَ الأعور الدّجّال أيّها السّارد المهووس بتراث
الكتب الصّفراء!
لهذا ما أن انتهيتَ من قولك حتّى اشتمّ كلبُ حارس المحطّة رائحة خبزه الخارج لتوّه من فرن القيامة فقام يتتبّع الرّائحة وهو يتشمّمها بخياشيمه حتى وصل قرب سيّارة الأجرة التي وصلت البارحة من مدينة تونس العاصمة، فتذكرتَ في الحين الشّيخ الأعور الذي أثار حضوره نباح كلبك ما أن حطّت قدميه على الأرض واستوى واقفا بجانب السّيّارة كنخلة باسقة .
كان نباح الكلب هستيريّا وقد تحوّل بعد مدّة قصيرة إلى عواء، فنواح كنواح العجائز في الجنائز، ثمّ همد ما أن لوّح له الشّيخ بطرف برنسه بعدما رماه بسلة ملآى بالخبز.
( سنفتح قوسا لنحكي قليلا عن الشّيخ الأعور صاحب البرنس الذي رمى الكلب بسلّة الخبز، فقد تركه يأكل من السّلّة مُبصبصا بذَنبه وجاءك مُسلِّما كأنّه يعرفك من قديم الزّمان وسالف العصر والأوان ، فمدّ لك يده وشدّ على يدك بلطف وسألك إن كنتَ تعرف نُزلا قريبا يقضي فيه ليلته، فدللته على واحد غير بعيد عن المحطّة وأنت تتوجّس خيفة منه فقد كان يشعّ من عينه الوحيدة نور كاد يعشي بصرك فاتّقيته بيديك الاثنتين وأنت تتعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم .
وذهب الشّيخ وغاب عن الأنظار، فعاد كلبك إلى العواء ) .
أمّا نحن فقد أغلقنا القوس إلى حين.
*****
من الغد، تغيّرت أشياء كثيرة في المحطّة. غاب الكلب عن ركنه القصيّ الذي اعتاد المكوث فيه طوال الوقت. وما عاد الحارس يقضًا كعادته وهو يتابع الصّغيرة والكبيرة في هذا المكان الضّاجّ بالحياة:نداءات السّوّاق عن وجهات مركباتهم، وضجيج محرّكات السّيّارات التي امتلأت بالمسافرين وهي تهمّ بمغادرة المحطّة، وأصوات الباعة المتجوّلين، وهمس العشّاق ساعة وداع الأحبّة وخشخشة مكبّر صوت يدعو راكبا قد تأخّر عن موعد السّفر، وتأوّهات فنّانة يصدح من هاتف جوّال...
لكن سأغلق هذا القوس أيضا حتى لا تضيع القصّة مع تبعات واو العطف.
*****
هل ندمتَ لأنكَ، وأنتَ عائد إلى بيتك بعد وصول آخر سياّرة أجرة إلى المحطّة، مررت على صديقك عامل الاستقبال بالنّزل الذي أشرت به على شيخ البرنس فأصابك ذهول جعلك تبدأ بالصّراخ عندما رأيت شيخك وقد لبس بذلة عصريّة بربطة عنق على شكل فراشة وفرد على طاولة أنواعا شتّى من الخبز الأبيض والأسمر والأسود،ولم تسكت إلّا بعدما وخزتك إبرة الممرّض في قاعة الحالات الاستعجاليّة في المستشفى الحكومي.
فقلت بعدما استعدت وعيك وأنت تشير بإصبعك إلى الفراغ:
- لا تأكلوا من خبز صاحب البرنس الذي تحوّل إلى لباس الفرنجة!
وزدت بعدما هدّأ الممرّض من روعك وهو يضرب على كتفك بلطف:
- كلبي الذي اعتاد المشي بين قدمي ومن أمامي ومن خلفي اختفى بغتة كمن تخطّفته الجنّ بعدما لحس سلّة الخبز التي رماه بها ذاك الرّجل قبل أن يغادر المحطّة وهو يلوّح بطرف برنسه على كتفيه.
فقال لك الممرّض وهو يبتسم:
- رأيت كلبا رابضا أمام باب القسم الاستعجالي بالمستشفى!
ومشى معك حتّى أوصلك أمام الباب وأشار إلى كلب من فصيلة الرّاعي الألماني وهمس في أذنك:
- أوليس هذا كلبك؟
فأجبْته وأنت تتشبّث بميدعته البيضاء بعدما تفرّست مليّا في وجه الكلب:
- هذا هو الأعور الدّجاّل يا صاحبي، وقد تركته في القاعة الكبرى يعرض على النّزلاء خبزه، فماذا جاء به إلى هنا؟
فعاد بك الممرّض إلى القاعة البيضاء ومدّدك على السّرير وأغلق القوس إلى حين.
*****
أصبحت سيّارات الأجرة تدخل إلى المحطّة وتخرج منها بدون حسيب ولا رقيب. وفاجأ السّوّاق أوّل الأمر صمت الحارس الذي ما عاد يهتمّ لمرور السّيّارات من أمامه ولا يردّ على تحيّاتهم الصّباحيّة والمسائيّة ولا على نكاتهم التي طالما كان يردّ عليها بأحسن منها ثم اعتادوا على صمته ردحا من الزّمن فكانوا يمرّون من أمامه وهو في همهمة دائمة لا تهدأ ولا تفتر، فيأسفون لحاله، ولكن الحياة لم تتوقّف، فقد كانت تمرّ في عدوّها اليوميّ دون أن تأبه بأحد، ثم لاحظوا بعد مدّة أنّ الحارس ما عاد يهتمّ بهندامه الذي طالما تأنّق فيه بشكل كان يثير غيرتهم وحسدهم . وكبرت الحالة أكثر عندما صار يعترض طريقهم عند الوصول إلى المحطّة ليقوم بعمليّة تفتيش بين الرّكاب عن الأعور الدّجّال مرّة وعن صاحب الدّابة مرّة أخرى ولا يستثني في فورة بحثه لا الرّضيع ولا النّساء مهمهما كعادته:
- قد يتلبّس ذاك الأعور هذا الصّبيّ أو هذه المرأة!
وتقبّل السّواق في البداية جنونه ثم بدأوا يملّون جرأته عليهم وعلى ركّاب سيّاراتهم فاشتكوه لشرطة حماية المحطّة خفية ثمّ جهارا، فأذن رئيس المركز لأعوانه بدعوته إلى التزام الهدوء والسّهر على راحة المسافرين وإلّا فإنّه سيقوم بالإجراءات التي تحجّر عليه دخول المحطّة ويغلق القوس نهائيا.
*****
أغلق رئيس مركز شرطة المحطّة القوس نهائيّا بعدما صار الحارس يرفع صوته بالنّداء كلّما امتلأ المكان بالخلق العظيم :
- أيّها النّاس!
اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا!
لا تأكلوا من خبز الأعور الدّجّال!
لا تأكلوا من خبز الأعور الدّجّال!
لا تأكلوا من خبز الأعور الدّجّال!
فيرتفع نباح الكلب من ركن قصي في المحطّة.
نباح أجش.
نباح كلب من فصيلة الرّاعي الألماني.
ويصبح لون الشّمس أسود.
شمس تطلع من مغربها.
إبراهيم درغوثي/تونس