محمد قدري لطفي - على ذكر الشعر المرسل.. الشكل والموضوع حول قصيدة الآنسة سهير القلماوي

في الأدب كما في القانون شكل وموضوع، وكما يرفض القاضي الطعن في حكم ما شكلا ويقبله موضوعا، فقد يرفض القاريء قصيدة ما شكلا وان قبلها موضوعا، والشكل في الأدب لا يقل في خطره عن الموضوع، فكم من قطعة أدبية أفسد أسلوبها موضوعها، وكم من قصيدة ذهب قبح نظمها بجمال معناها، وكم من قصيدة رقيقة اللفظ جميلة الأداء، في كلماتها عذوبة وفي نظمها اتساق، غير أن المعنى الجليل فارق فيها اللفظ الجميل، والخيال السامي بعد فيها عن الأداء الحسن، وهي مع ذلك خالدة على الدهر سائرة كالمثل.

وقد قرأنا للآنسة الأديبة سهير القلماوي في عدد الرسالة الماضي قصيدة نظمتها، فراعت فيها كما قالت خاصتين من خواص الشعر العربي وهما الوزن وتمام المعنى في البيت الواحد، وأهملت الخاصة الثالثة وهي القافية، فعنيت بالموضوع وأهملت الشكل، وكان الأجدر بها وقد أرادت أن تتبع سنة التجديد في الشعر العربي ألا تجيء إلى ركن من أهم الأركان الفنية فيه فتمحوه وتهمله وتقرب الشعر بذلك إلى النثر، فلست أرى الشعر المرسل إلا نثرا موزونا نخشى أن تمتد إليه يد التجديد فتنتزع منه الوزن أيضا. ولو قد أنصفت لأهملت تمام المعنى في البيت الواحد وراعت القافية فهي التي تعد بحق وباطراد من خواص الشعر العربي البارزة التي تميزه من كل شعر سواه، والتي أكسبته روعة خاصة، وأشركت الحس مع العقل فيه، وهيأت له السمع والإدراك، وجمعت للقارئ بين لذة التوقيع ولذة الفكر والفهم، وربما قيل أن التوقيع إنما جاء من الوزن لا من القافية، ولكن اصطدام القارئ بحروف متغايرة في أواخر الأبيات يشعره بفقدان الوزن في ثناياها.

أما تمام المعنى في البيت الواحد فلم يكن من خصائص الشعر العربي، وإنما كان من خصائص الشعراء العرب، فليس يدخل إذن في أصول الفن الشعري التي لابد للشعر منها كالوزن القافية، فقد كان العرب أميل إلى الإيجاز والإلمام بالمعنى في غير توسع ولا إطناب، ومن هنا كان حرصهم على إتمام المعنى في البيت الواحد كبيرا، حتى جرى الكثير من أبياتهم مجرى الأمثال لاحتوائه على المعنى الجليل في اللفظ القليل، ومن هنا جاز لنا وقد تغير العصر وبعد الزمان وتغيرت الأذواق إلا نتبع سنة القوم في ضرورة إتمام المعن في البيت الواحد، على أن الشعر العربي لم يخل من قصائد لا يمكننا أن نقف فيها على كل بيت لعدم تمام المعنى فيه، ولكنه خلا تماما من قصيدة لم تنته بحرف واحد.

وقد يقال أيضا أن الشعر إذا أطلق من قيده وأعفى الشعراء من التزام القافية فيه أصبح الأمر مألوفا تقبله الأذواق وتعتاده الأسماع، ولكننا إذا عدنا إلى قراءة الشعر العربي القديم وما نظمه المحدثون من شعر مقفى، وهذا كله كثير ثمين فسنشعر بالفرق بين الشعرين وسنعود إلى القافية نستحسن مراعاتها والتزامها، ولا أحسب أحدا يدعونا إلى ترك الشعر القديم وإهماله لنفسح المجال للشعر المرسل في غير حاجة ملحة ولا ضرورة ملجئة، وإذن فالتجديد في الشعر بإرساله دعوة لا تقوم على أساس من الفن يصلح لأن يطغى على القافية فيمحوها من الشعر العربي

وتشعر الآنسة ان المعنى إذا تم في البيت الواحد لم نحس بإهمال القافية، وهذا صحيح إذا كان الشعر معنى فقط لا دخل للحس فيه، ألا ترى الآنسة أن بعض أبيات قصيدتها وقد راعت فيه القافية كان ألذ للسمع من البعض الآخر الذي أهملتها فيه. هذا قولها:

قد أوهنت عظامه السنين ... وغضنت جبينه العصور
وقسوة المسعى وراء العيش ... قد أفقدته جزءه الإنساني

ألا ترى أن إهمال القافية في البيت الثاني قد جعله نابيا غريبا على السمع، فقبله الإدراك لحسن معناه، ورفضه السمع لاختلافه مع سابقه في مبناه؟ وهذا قولها:

يا سادة العبيد والأراضي ... كيف لقاء الرب يوم الدين؟
يوم مثوله أمام الله ... بعد سكون الساع والسنين

ألا ترى أن مراعاة القافية فيه قد كسبه جمالا وتهيأت له الإسماع والافهام؟ أؤكد للآنسة أن إهمال القافية لا يغني عنه تمام المعنى في البيت الواحد، وان شعور الكاتب نفسه لا يكفي دائما للحكم على آثاره الأدبية.

محمد قدري لطفي
ليسانسييه في الآداب

مجلة الرسالة - العدد 15
بتاريخ: 15 - 08 - 1933

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى