... إيلو، أو، إيلا، أو إيلي، أو إيلين، أو ما تشاء من أسماء التحبب والتدليل. ولكن (اليزا) هو اسمها الصحيح الذي سماها به أبواها وعمداها به في الكنيسة.
جميلة في غاية الجمال. وذكية جداً، ولبقة جداً.
لها عينان براقتان، وفم صغير رقيق الشفتين يلذ لك أن تتابع بعينك تثنيهما وتلويهما حين تتحدث إليك، وأن تراقب بأذنك تكسر الألفاظ عليهما في عذوبة ورشاقة ودلال. . . بارعة في تصريف الأحاديث بلباقة نادرة وظرف أخاذ. وهي إذا تحدثت إليك عبرت لك عن مرادها بكل جوارحها - بعذوبة صوتها، وإشارات يديها، وحركات رأسها، وتثني جسمها الغض ولحاظ عينيها اللامعتين. فجسمها كله يتكلم وكله يبتسم، حتى ليخيل إليك أن ثوبها وزينتها أيضاً وسيلة عندها من وسائل التعبير! فأنت لهذا مضطر إلى الإصغاء إليها بكل جوارحك أيضاً والافتتان بمحاسنها بكل قلبك وعقلك جميعا.
لعوب طروب لها مراح العصفور ونشاطه، وودود ظريفة تحملك على الإعجاب بها والهيام بكل وسيلة. فهي لذلك معتدة بنفسها، تعرف قيمة جمالها وسحرها، وهي لذلك أيضاً تعنى بأناقة ثوبها وزينتها ما وسعتها العناية.
لم أراها! ولكن أمها هي التي حدثتني عنها وسردت علي قصة مأساتها المحزنة وفاجعة موتها قبل أن تتم الخامسة من عمرها غما وكمدا. . . فهي طفلة صغيرة كما ترى! ولكن ذلك لم يمنعها أن تكون غاية في الجمال؛ ولا أن تكون ذكية جدا ولبقة جدا ولا أن تكون زينة البيت وريحانته، ومتعة الأهل والأصدقاء والزائرين، ولا أن تكون مدركة بذلك كله شاعرة بقيمتها، ومكانتها في كل قلب، معتدة بنفسها مزهوة بجمالها، معنية ما وسعتها العناية بأن تكون خليقة بكل هذا الإعجاب وكل هذا التقدير، طامعة في المزيد. فقد كانت أبداً تخلق حول نفسها جوا صافيا من المرح والسرور، ولا تطيق أن ترى عابساً أو حزيناً أو شخصاً منصرفاً عنها إلا بذلت جهدها لإخراجه من صمته وإدخال السرور إلى قلبه ولفت نظره إليها. فما يلبث، مهما كان مهموماً أو بليداً، أن يجاريها ما استطاع ويسر ما وسعه السرور ويضحك ما واتاه الضحك، ويتخفف من همومه ولو إلى حين.
على إنها لم تكن تدرك إنها طفلة! فكانت تحاكي الكبار وتقلدهم فيما يصدر عنهم من قول أو فعل أو إشارة. ومن بوادر ذلك مساعدة أمها في أعمال البيت والقيام على مراقبة نظافته والعناية بشؤونه! ومن ذلك أيضاً أنها ما كانت تبخل على أحد بالنصيحة وإمداده بالري الصائب في رفق العقلاء المجربين وتوددهم ودماثتهم.
وكان يشق عليها أن يوجه إليها انتقاد، فيحمر وجهها ثم تحتال على الاعتذار فتحسن الاحتيال، وتشفع عذرها بابتسامة خجول، وتعد بألا تعود.
ولعل سر هذه الفتنة التي اختصت بها إيلو أو إبلا أو إيلين هو هذا التعقل والتوقر المكتسبان بتقليد الكبار ومحاكاتهم وهي بعد في بكور هذه الطفولة البريئة الجميلة، المحبوبة بطبيعتها. فكان المزاج من الطفولة والنضوج، وفيه هذا التوافق المصنوع والتناقض المطبوع، سحراً خالباً غالباً تتفتح له القلوب بلا مقاومة ولا عناء.
كان حديث أمها في بدئه عاديا طبيعيا تتخلله الابتسامات، ثم اخذ صوتها يكتئب ويرتعش؛ ثم شرعت تنفس عن نفسها بالتنهد والتحسر بين حين وحين كلما اقترب الحديث من آخره، وكانت تزيدني رغبة في الإنصات إليها هذه اللكنة الأرمنية الحلوة التي لم تقو على مغالبتها عشرون سنة أقامتها في بغداد بين زوج عراقي وجيرة عراقيين.
قالت:
(. . . فلما بلغت إيلو عامها الرابع رزقت غلاما كان شؤماً على نفسه وشؤماً وعلى أخته وعلينا. فقد مات بعد موت إيلو بأسبوعين، بعد أن قضى عليها وأفسد صفو حياتنا. وكان أول عهدها به أنها رأت كتلة صارخة من اللحم تضطرب في المهد، فدنت منه بحذر وأنعمت نظرها فيه، وإذا طفل لم تره من قبل وصراخ لم تألفه في البيت. فرابها أمره وأوجست منه خيفة، والتفتت إلى تقول:
ماما. . . ما هذا؟! فقلت لها: أنه أخوك وديع. فقال: أخي! ولم يصيح هكذا؟ إني لا احبه!
إنها لا تحبه. . . كلمة سبقت منها كأنها ألهمتها إلهاماً قبل أن تعرف خطرها أو تدرك سببها أو تعلم ما سيكون لها في حياتها وموتها من شان. وقد زادتها الأيام بغضا له كلما رأت أن له عندنا أهمية أو قيمة، أو وجدتنا نكترث له أو نعنى بشؤونه. فهي يشق عليها أن تجدنا نصرف عنها ولو جزء من عنايتنا ورعايتنا إلى أخيها وديع أو أي مخلوق سواه، وهي تفهم من ذلك أننا نزدريها ونجدها غير خليقة بالاستئثار بكل حبنا وعنايتنا.
وعبثاً كنا نحاول - أبوها وأنا - إقناعها بأن لها المنزلة الأولى وأنها وحدها الأثيرة عندنا، وأننا لا نحفل وديعاً إلا رأفة به، وأننا سنتخلص منه يوماً ما ونريحها ونريح أنفسنا منه. وكنا نتظاهر معها باحتقاره ونجاريها في تعداد عيوبه ومثالبه. وكنت أتحاشى أنا إرضاعه أو مداعبته أمامها، ولكنها كانت تراقبني فتراني أحيانا متلبسة بتقبيله أو ملاعبته فتعاتبني بنظرة أبية وتنصرف، كأنها تقول: إنكم تخدعونني!
قالت لي يوما: ماما. . . ماذا تصنعون بهذه الخليقة الحقيرة؟ أنه مجنون يبكي ويصرخ بلا سبب! وقذر جداً. يحدث في ثيابه وفراشه ونفسي تشمئز منه! وليست فيه فائدة لنا. إني أحسن منه، وعاقلة ونظيفة! فلماذا لا تلقونه في الطريق؟. . .
فقلت لها: لا يا بنيتي، أنه صغير مسكين، ومريض. ولهذا ترينه يبكي.
فقالت: لا يا ماما. أنه يكذب! أنه لا يبكي بل يصرخ فقط، ولا تسيل من عينه دمعة واحدة! فلو ألقيته في الطريق للكلاب لاسترحت منه، فإنه يتعبك كثيراً وأخاف عليك أن تمرضي!
فأجابتها لو ألقيناه في الطريق يا إيلو لحق علينا غضب المسيح فلنشفق عليه إكراما للمسيح حتى يشفى من علته - فنتركه وشأنه. ما قولك في هذا يا إيلو؟
فقالت: ولماذا يغضب المسيح. . . أترينه يحب المجانين والقذرين. . .؟
فقلت: لا، ولكنه يحب الضعفاء والمرضى، ويوصينا بالعناية بهم والعطف على بؤسهم.
فقالت مغضبة: لماذا يا ماما لا يحب المسيح الأصحاء النظاف والعقلاء، ويؤثر عليهم الذين فراشهم منتن مثل وديع الكلب؟ أليس المسيح جميلا وطيباً كما تقولون. إني ابغضه!
ورأت بعد ذلك أن الجدال والمنطق وحدهما لا يعودان عليها بفائدة، فراحت تبرهن لنا ولمن يتصل بها وبنا عملياً على أنها كفء لكل تقدير وإكبار، وأنها وحدها الجديرة بكل الإعجاب والاهتمام. فصارت تستيقظ مبكرة مع العصافير، وتلقى بنظرة شاملة على البيت وتشرع بانتقاده وتصف فساد نظامه بخطاب موجز، ثم تأخذ بترتيبه على رأيها ووضع كل شيء في محله. وتغسل أواني الشاي وتنصب المائدة قبل أن اشرع أنا بإعداد الشاي نفسه. ثم تأخذ بالمكنسة لتنظف الدار! وتجشم نفسها من المشقة والنصب ما لا قبل لطفولتها به، فأمنعها سدى وترفض أحياناً حتى أن أساعدها. وأنا أعلم فيم تشق على نفسها كل هذه المشقة وفيم تتكلف كل هذا العناء، فتنفطر مرارتي من الحزن. . .
ثم تعمد إلى نفسها فتفيها حظها من التزيين والتجميل، وترتدي أنظف ثيابها وأجملها في عينيها، وتجلس إلى المرآة تصفف شعرها وتمشطه حتى ترضى عن نفسها. فإذا جاءنا زائر خفت وبشت في وجهه، وقد لحظت أنها ضعفت ثقتها بنا فصرفت عنايتها إلى الزائرين. . . تسعى بين أيديهم وتسائلهم إن كانوا عطاشاً لتأتيهم بالماء، وتقدم إليهم السكر لعل الشاي أقل سكرا مما يشتهون، وما تفتأ تتودد إليهم وتعرض عليهم محاسنها وتباسطهم وتغني لهم وتستميلهم بمرحها ورشاقتها وفكاهتها حتى يأخذونها في الأحضان ويوسعوها ضما وتقبيلا، ويؤدوا لها حقها من المديح والإعجاب. فتتنهد وتنفض إليهم جملة حالها. . . وتنكشف سريرتها فإذا كل هذا اللعب والمراح أشبه برقص الطائر الذبيح. . .
تأخذ بانتقاد عدوها وديع، وتنقص أمامهم منه. وأصل عيوبه ومخازيه عندها أنه بكّاء وقذر. وتشكو إليهم ظلامتها وبثها، وتشكو إليهم أننا مع كل هذا نحبه وندلله ولا نظن عليه بالعطف والإيثار. فتحكمهم بيننا وتطلب إليهم أن ينصفوها منا. فإذا حكموا لها، وهم دائما يفعلون ذلك، نظرت إليّ في عتب ورجاء. وإذا أكدت لها أننا لا نباليه ولا نقيم له وزنا أطرقت في يأس وهزت رأسها الصغير كأنها لا تريد أن تقول لي في صراحة: إنك تكذبين يا ماما!
ولكنها مع كل ما تضمره لوديع من بغض وموجدة لم تحاول يوما أن تؤذيه أو تمسه بسوء، فقد كنت أراقبها إذا اختلت به مخافة أن تمتد إليه يدها البريئة بشر، غير أنها لم تفعل من ذلك شيئاً، وإنما كانت تكتفي بأن تحدجه بنظرات ساخطة حزينة ثم تنصرف عنه.
وكانت لنا جارة صديقة لم ترزق ولداً، اسمها ماري، تصلنا بها قرابة بعيدة ومودة وثيقة. وكانت مشغوفة بحب اليزا حتى ما تكاد تنقطع عن زيارتنا وقضاء شطر من نهارها عندنا قرب حبيبتها إيلين كما كان يحلو لها أن تسميها، فقالت لها مرة:
انظري يا أختي ماري! أنهم لا يزالون يحبون هذا النجس وديعا، وقد رأيت ماما تقبله أمس! وهي تسهر الليالي عليه وتخف إليه كلما بكى لترضعه وتهز أرجوحته المنتنة! أنا أكنس البيت كل يوم وأطوي ثياب بابا وأعين ماما. . . ونظيفة وجميلة! وهذا المجنون وديع الذي لا يكف عن الصياح وقذر. . . ورأسه صلعاء!
فلاطفتها ماري وأكدت لها أنها واهمة، وأننا نحبها ونؤثرها ولا نقيس بها إنسانا. فقالت: لا يا أختي، أنهم يخدعونني ويكذبون عليّ. . . لو كنت مكانهم لأطعمته الكلاب أو أعطيته الشحاذين القذرين مثله.
فقالت لها ماري: اطمئني يا أختي إيلين. سنخلصك منه قريبا، أنه قبيح بكاء لا خير فيه.
وأسرت إلى ماري بعد ذلك أنها ستأخذ وديعاً عندها طيلة نهار الغد. ثم تزعم لإيلين أن كلب ماري، وكان لها كلب عظيم الحلقة، قد افترسه وأراحها منه لترى ما عساها تصنع أو تقول. وأخذته في اليوم التالي خلسة إلى دارها، فدهشت إيلو في ذلك النهار لم ترى وديعا ولم تسمع له نأمة. ومضت إلى فراشه مرات عدة فلم تجده. فراحت تطوف البيت وتتحرى الغرف صامتة متلصصة لترى ماذا حل به فلم تفز بطائل. فإذا فرغت من التفتيش عادت إليّ تدور حولي وتطيل النظر في وجهي لعلها تقرأ في أساريره ما يجلو لها الخبر اليقين. . . فلما ضاقت ذرعا بالصمت والكتمان، سألتني:
- ماما. . . أين وديع؟ فقلت لها:
- وديع القذر؟ ماذا تريدين منه يا إيلا؟. . . فقالت:
- أين هو؟ أنه ليس في البيت! فأجبتها:
- مسكين! لقد أكله كلب ماري.
- صحيح يا ماما؟ هل أكله كله؟!
- نعم. التهمه عن آخره!
فتورد خداها وبرقت عيناها، وصاحت:
- فلأقبلنك إذن! وألقت نفسها في حضني تغمر وجهي بقبلاتها، وأخذت تضمني بشدة غريبة وهي تدس رأسها في صدري كأنها تريد أن تدخل في أضلاعي. فسالت دموعي على هذه الصغيرة المعذبة اللعوب. وخشيت وخامة العاقبة متى اطلعت على جلية الأمر، فلم أك أقدر أن يصيبها كل هذا الفرح الجنوني البريء.
ثم تركتني وهرعت إلى الأرجوحة لناجذ منها الفراش، وبذلت جهدا عنيفا حتى أخرجته فأمسكت من أحد أطرافه كأنها تحاذر أن تتنجس يدها منه، وراحت تجره وراءها في صحن الدار. وصادف دخول أبيها في تلك اللحظة فأخذها بين ذراعيه وسألها ما تصنعين يا ايلي؟ فقالت له:
- بابا، لست تدري! إن كلب ماري قد أكل وديعا كله، ولم يترك منه ذرة واحدة! فلنرم فراشه في الطريق، وأرجوحته أيضاً وثيابه. كلها قذرة ورديئة.
وما كادت تفلت من بين يديه وتأخذ بالفراش من جديد حتى دخلت علينا ماري وعلى ذراعها وديع وهي تقول:
- أنه بكّاء مزعج حقاً فخلصوني منه!
ولا تسل عما أصاب إيلو. فقد بهتت ووجمت، واصفر وجهها، وافلت طرف الفراش من يدها. ولم تعد تقوى على الوقوف فقعدت من فورها على الأرض مستندة إلى الجدار. ثم انتبذت ناحية منزوية من تلك الغرفة (وأشارت بيدها إلى الغرفة التي عنتها) في ذلك الركن. وطفقت تبكي بكاءاً متصلا أبكانا نحن الكبار، إذ لم يستطع كل بغضها لوديع أن يسيل لها دمعة من قبل، ولم تعودنا يوما وهي الطروب اللعوب أن نراها تبكي أو تشكو من شيء، فقد كانت أبدا كما قلت لك لاعبة ضاحكة! لسن نشيطة خفيفة الظل والحركة - تكظم الغيظ وتداري أحزان قلبها الغض باللعب والمزاح. ولكنها شعرت هذه المرة أنها أهينت في صميم كبريائها. وقد قالت لنا ونحن نحاول عبثا أن نسترضيها ونمنيها الوعود: إنكم لم تعودوا تحبون إيلو. . . تزدرونها وتضحكون عليها.
وظلت تبكي بلا انقطاع رغم ما بذلنا من جهود، وظل جسدها يضطرب ويهتز بين أيدينا من الانتحاب والشهيق كالسعفة تعبث بها ريح هوجاء.
ولم تذق عشاء تلك الليلة، ولا أحسبها نامت فقد كانت تتململ في فراشها تململ السليم، فإذا ناديتها أو دنوت منها أغمضت جفنيها وتناومت. . . ولم تنهض على عادتها باكرة في الصباح، ولم أشأ أن أوقضها حتى علا النهار، فقامت مثاقلة مسترخية محمرة العينين منتفخة الأجفان من السهر والبكاء، ولم تعن بالبيت أو تلق بالا إلى نظامه أو نظافته، ولا جفلت زينتها، أو مرآتها، ولا غيرت ثوبا أو مشطت شعرا، ولا رحبت بزائر ولا صديق. وخلا المنزل من لعبها وقفزها وأوحش منذ ذلك اليوم. وكان كل ما تفعله أن تقابلني وتجلس أمامي في المطبخ أو في الصحن أو في الغرفة، خافضة الرأس ساكنة الأطراف مغرقة في الوجوم والتفكير مستسلمة إلى الحزن الصامت واليأس الأليم. وأخذ جسمها يذوى ويذوب كالشمعة المحترقة يوما بعد يوم، وغاضت ابتسامتها وخبا ضوءها وخفت صوتها. فراعنا الأمر وتحيرنا ماذا نفعل. ولم يكن في عزمنا أن نتخلى عن وديع أو نعهد به إلى مرضع أو مربيه فقد كان أثيراً عندنا حقا إذ لم يكن لنا ولد ذكر سواه، ولم يكن بيدنا مالا ننفق منه على المربيات والحواضن لو أردنا ذلك. وحار في أمرها الطبيب وكثر ما تناولته من الأدوية والعقاقير صابرة طيعة لا تتمرد ولا تقاوم، وقد ذقت مرة دواء كانت تشربه فوجدته مرا حادا كريها تعافه النفس؛ وعجبت كيف كانت تشربه في طوعية واستسلام فأرقته وأعفيتها من شربه، كأنها تنازلت عن إرادتها إذ لم تعد تنتفع بها، أو رفضتها ورمت بها في وجهنا. فلم تبد رغبة في شيء أو تتذمر من أمر. حتى أن ماري اقترحت عليها مرة أن تأخذها عندها لتعتني بها وتقوم على راحتها وتسليتها وتتبناها فقالت نعم. فسألتها أنا هل ترغبين حقا أن تمضي مع ماري إلى دارها؟ فقالت نعم. أم تؤثرين البقاء عندنا؟ فلم تزد على أن قالت نعم! فنظر بعضنا في وجوه بعض قانطين حائرين.
ولبثت عند ماري أياما لم تزد فيها حالها إلا سوءا على سوء، فلم نجد بدا من استرجاعها. وشرع أبوها يطوف بها المنتزهات ويقتني لها الملاهي والألاعيب والحلوى أصنافاً وضروباً، ولا يألو جهدا في تسليتها والترويح عنها، في غير جدوى.
ومالي أطيل عليك وأثقل على نفسي ونفسك. . . إن ذكرى أيامها الأخيرة لتحز في فؤادي كالمدية الكليل، وتشب في ضلوعي مثل النار. . . وجدناها ذات صباح مثل جثة هامدة في فراشها شاخصة إلى الأرجوحة ببصرها كما يشخص القتيل ببصره إلى القاتل. . .).
واختنق صوتها بالبكاء وانهمرت من عينيها الدموع. فلم أتمالك أن أخرج منديلي وأجفف به عيني الدامعتين.
هذه هي قصة إيلو أو إيلا أو إيلين أو ما تشاء. . . كما سمعتها من أمها. لقد كانت ذات نفس كبيرة وحس دقيق رهيف، جاوزت حدّ الطفولة في الشعور بالعظمة والكبرياء. . . غيورا يهمها أن تكون ملحوظة أبداً معنيا بها لا ينازعها في ذلك منازع ولا يزاحمها على منزلتها عند أبويها إنسان. فماتت شهيدة بطلة بعد أن ناضلت وجاهدت، وأبلت أحسن البلاء؛ وحيدة لا معين لها ولا نصير، شجاعة صابرة لا يعروها ضعف ولا جزع، ولا ينال من بشاشتها أو يخرجها عن سجيتها خور ولا قنوط. . . حتى خذلها الأهل وعز النصير، فأيقنت بالفشل وأدركت أن جهودها ضائعة لا محالة، وأنهم لم ينصفوها ويقدروها قدرها على حال. فألقت سلاحها وانسحبت من الميدان في إباء وحسرة وسكون، وأسلمت قلبها الغض إلى الأحزان، وفوضت أمرها إلى الله. وهكذا انتحرت تلك الكرامة البريئة المؤذاة!
ومع أنى لم أراها. . . ثم مع أنى قد مضى على سماعي نبأ مأساتها عام أو يزيد، فإني ما زلت تعودني ذكراها من آن لآن فأحزن عليها حزني على القريب والحبيب. لكأني رأيتها وعرفتها ولاعبتها وأحببتها كل الحب وكلفت بها أيما كلف، ثم. . . كأنني فقدتها الساعة.
مجلة الرسالة - العدد 679
بتاريخ: 08 - 07 - 1946
جميلة في غاية الجمال. وذكية جداً، ولبقة جداً.
لها عينان براقتان، وفم صغير رقيق الشفتين يلذ لك أن تتابع بعينك تثنيهما وتلويهما حين تتحدث إليك، وأن تراقب بأذنك تكسر الألفاظ عليهما في عذوبة ورشاقة ودلال. . . بارعة في تصريف الأحاديث بلباقة نادرة وظرف أخاذ. وهي إذا تحدثت إليك عبرت لك عن مرادها بكل جوارحها - بعذوبة صوتها، وإشارات يديها، وحركات رأسها، وتثني جسمها الغض ولحاظ عينيها اللامعتين. فجسمها كله يتكلم وكله يبتسم، حتى ليخيل إليك أن ثوبها وزينتها أيضاً وسيلة عندها من وسائل التعبير! فأنت لهذا مضطر إلى الإصغاء إليها بكل جوارحك أيضاً والافتتان بمحاسنها بكل قلبك وعقلك جميعا.
لعوب طروب لها مراح العصفور ونشاطه، وودود ظريفة تحملك على الإعجاب بها والهيام بكل وسيلة. فهي لذلك معتدة بنفسها، تعرف قيمة جمالها وسحرها، وهي لذلك أيضاً تعنى بأناقة ثوبها وزينتها ما وسعتها العناية.
لم أراها! ولكن أمها هي التي حدثتني عنها وسردت علي قصة مأساتها المحزنة وفاجعة موتها قبل أن تتم الخامسة من عمرها غما وكمدا. . . فهي طفلة صغيرة كما ترى! ولكن ذلك لم يمنعها أن تكون غاية في الجمال؛ ولا أن تكون ذكية جدا ولبقة جدا ولا أن تكون زينة البيت وريحانته، ومتعة الأهل والأصدقاء والزائرين، ولا أن تكون مدركة بذلك كله شاعرة بقيمتها، ومكانتها في كل قلب، معتدة بنفسها مزهوة بجمالها، معنية ما وسعتها العناية بأن تكون خليقة بكل هذا الإعجاب وكل هذا التقدير، طامعة في المزيد. فقد كانت أبداً تخلق حول نفسها جوا صافيا من المرح والسرور، ولا تطيق أن ترى عابساً أو حزيناً أو شخصاً منصرفاً عنها إلا بذلت جهدها لإخراجه من صمته وإدخال السرور إلى قلبه ولفت نظره إليها. فما يلبث، مهما كان مهموماً أو بليداً، أن يجاريها ما استطاع ويسر ما وسعه السرور ويضحك ما واتاه الضحك، ويتخفف من همومه ولو إلى حين.
على إنها لم تكن تدرك إنها طفلة! فكانت تحاكي الكبار وتقلدهم فيما يصدر عنهم من قول أو فعل أو إشارة. ومن بوادر ذلك مساعدة أمها في أعمال البيت والقيام على مراقبة نظافته والعناية بشؤونه! ومن ذلك أيضاً أنها ما كانت تبخل على أحد بالنصيحة وإمداده بالري الصائب في رفق العقلاء المجربين وتوددهم ودماثتهم.
وكان يشق عليها أن يوجه إليها انتقاد، فيحمر وجهها ثم تحتال على الاعتذار فتحسن الاحتيال، وتشفع عذرها بابتسامة خجول، وتعد بألا تعود.
ولعل سر هذه الفتنة التي اختصت بها إيلو أو إبلا أو إيلين هو هذا التعقل والتوقر المكتسبان بتقليد الكبار ومحاكاتهم وهي بعد في بكور هذه الطفولة البريئة الجميلة، المحبوبة بطبيعتها. فكان المزاج من الطفولة والنضوج، وفيه هذا التوافق المصنوع والتناقض المطبوع، سحراً خالباً غالباً تتفتح له القلوب بلا مقاومة ولا عناء.
كان حديث أمها في بدئه عاديا طبيعيا تتخلله الابتسامات، ثم اخذ صوتها يكتئب ويرتعش؛ ثم شرعت تنفس عن نفسها بالتنهد والتحسر بين حين وحين كلما اقترب الحديث من آخره، وكانت تزيدني رغبة في الإنصات إليها هذه اللكنة الأرمنية الحلوة التي لم تقو على مغالبتها عشرون سنة أقامتها في بغداد بين زوج عراقي وجيرة عراقيين.
قالت:
(. . . فلما بلغت إيلو عامها الرابع رزقت غلاما كان شؤماً على نفسه وشؤماً وعلى أخته وعلينا. فقد مات بعد موت إيلو بأسبوعين، بعد أن قضى عليها وأفسد صفو حياتنا. وكان أول عهدها به أنها رأت كتلة صارخة من اللحم تضطرب في المهد، فدنت منه بحذر وأنعمت نظرها فيه، وإذا طفل لم تره من قبل وصراخ لم تألفه في البيت. فرابها أمره وأوجست منه خيفة، والتفتت إلى تقول:
ماما. . . ما هذا؟! فقلت لها: أنه أخوك وديع. فقال: أخي! ولم يصيح هكذا؟ إني لا احبه!
إنها لا تحبه. . . كلمة سبقت منها كأنها ألهمتها إلهاماً قبل أن تعرف خطرها أو تدرك سببها أو تعلم ما سيكون لها في حياتها وموتها من شان. وقد زادتها الأيام بغضا له كلما رأت أن له عندنا أهمية أو قيمة، أو وجدتنا نكترث له أو نعنى بشؤونه. فهي يشق عليها أن تجدنا نصرف عنها ولو جزء من عنايتنا ورعايتنا إلى أخيها وديع أو أي مخلوق سواه، وهي تفهم من ذلك أننا نزدريها ونجدها غير خليقة بالاستئثار بكل حبنا وعنايتنا.
وعبثاً كنا نحاول - أبوها وأنا - إقناعها بأن لها المنزلة الأولى وأنها وحدها الأثيرة عندنا، وأننا لا نحفل وديعاً إلا رأفة به، وأننا سنتخلص منه يوماً ما ونريحها ونريح أنفسنا منه. وكنا نتظاهر معها باحتقاره ونجاريها في تعداد عيوبه ومثالبه. وكنت أتحاشى أنا إرضاعه أو مداعبته أمامها، ولكنها كانت تراقبني فتراني أحيانا متلبسة بتقبيله أو ملاعبته فتعاتبني بنظرة أبية وتنصرف، كأنها تقول: إنكم تخدعونني!
قالت لي يوما: ماما. . . ماذا تصنعون بهذه الخليقة الحقيرة؟ أنه مجنون يبكي ويصرخ بلا سبب! وقذر جداً. يحدث في ثيابه وفراشه ونفسي تشمئز منه! وليست فيه فائدة لنا. إني أحسن منه، وعاقلة ونظيفة! فلماذا لا تلقونه في الطريق؟. . .
فقلت لها: لا يا بنيتي، أنه صغير مسكين، ومريض. ولهذا ترينه يبكي.
فقالت: لا يا ماما. أنه يكذب! أنه لا يبكي بل يصرخ فقط، ولا تسيل من عينه دمعة واحدة! فلو ألقيته في الطريق للكلاب لاسترحت منه، فإنه يتعبك كثيراً وأخاف عليك أن تمرضي!
فأجابتها لو ألقيناه في الطريق يا إيلو لحق علينا غضب المسيح فلنشفق عليه إكراما للمسيح حتى يشفى من علته - فنتركه وشأنه. ما قولك في هذا يا إيلو؟
فقالت: ولماذا يغضب المسيح. . . أترينه يحب المجانين والقذرين. . .؟
فقلت: لا، ولكنه يحب الضعفاء والمرضى، ويوصينا بالعناية بهم والعطف على بؤسهم.
فقالت مغضبة: لماذا يا ماما لا يحب المسيح الأصحاء النظاف والعقلاء، ويؤثر عليهم الذين فراشهم منتن مثل وديع الكلب؟ أليس المسيح جميلا وطيباً كما تقولون. إني ابغضه!
ورأت بعد ذلك أن الجدال والمنطق وحدهما لا يعودان عليها بفائدة، فراحت تبرهن لنا ولمن يتصل بها وبنا عملياً على أنها كفء لكل تقدير وإكبار، وأنها وحدها الجديرة بكل الإعجاب والاهتمام. فصارت تستيقظ مبكرة مع العصافير، وتلقى بنظرة شاملة على البيت وتشرع بانتقاده وتصف فساد نظامه بخطاب موجز، ثم تأخذ بترتيبه على رأيها ووضع كل شيء في محله. وتغسل أواني الشاي وتنصب المائدة قبل أن اشرع أنا بإعداد الشاي نفسه. ثم تأخذ بالمكنسة لتنظف الدار! وتجشم نفسها من المشقة والنصب ما لا قبل لطفولتها به، فأمنعها سدى وترفض أحياناً حتى أن أساعدها. وأنا أعلم فيم تشق على نفسها كل هذه المشقة وفيم تتكلف كل هذا العناء، فتنفطر مرارتي من الحزن. . .
ثم تعمد إلى نفسها فتفيها حظها من التزيين والتجميل، وترتدي أنظف ثيابها وأجملها في عينيها، وتجلس إلى المرآة تصفف شعرها وتمشطه حتى ترضى عن نفسها. فإذا جاءنا زائر خفت وبشت في وجهه، وقد لحظت أنها ضعفت ثقتها بنا فصرفت عنايتها إلى الزائرين. . . تسعى بين أيديهم وتسائلهم إن كانوا عطاشاً لتأتيهم بالماء، وتقدم إليهم السكر لعل الشاي أقل سكرا مما يشتهون، وما تفتأ تتودد إليهم وتعرض عليهم محاسنها وتباسطهم وتغني لهم وتستميلهم بمرحها ورشاقتها وفكاهتها حتى يأخذونها في الأحضان ويوسعوها ضما وتقبيلا، ويؤدوا لها حقها من المديح والإعجاب. فتتنهد وتنفض إليهم جملة حالها. . . وتنكشف سريرتها فإذا كل هذا اللعب والمراح أشبه برقص الطائر الذبيح. . .
تأخذ بانتقاد عدوها وديع، وتنقص أمامهم منه. وأصل عيوبه ومخازيه عندها أنه بكّاء وقذر. وتشكو إليهم ظلامتها وبثها، وتشكو إليهم أننا مع كل هذا نحبه وندلله ولا نظن عليه بالعطف والإيثار. فتحكمهم بيننا وتطلب إليهم أن ينصفوها منا. فإذا حكموا لها، وهم دائما يفعلون ذلك، نظرت إليّ في عتب ورجاء. وإذا أكدت لها أننا لا نباليه ولا نقيم له وزنا أطرقت في يأس وهزت رأسها الصغير كأنها لا تريد أن تقول لي في صراحة: إنك تكذبين يا ماما!
ولكنها مع كل ما تضمره لوديع من بغض وموجدة لم تحاول يوما أن تؤذيه أو تمسه بسوء، فقد كنت أراقبها إذا اختلت به مخافة أن تمتد إليه يدها البريئة بشر، غير أنها لم تفعل من ذلك شيئاً، وإنما كانت تكتفي بأن تحدجه بنظرات ساخطة حزينة ثم تنصرف عنه.
وكانت لنا جارة صديقة لم ترزق ولداً، اسمها ماري، تصلنا بها قرابة بعيدة ومودة وثيقة. وكانت مشغوفة بحب اليزا حتى ما تكاد تنقطع عن زيارتنا وقضاء شطر من نهارها عندنا قرب حبيبتها إيلين كما كان يحلو لها أن تسميها، فقالت لها مرة:
انظري يا أختي ماري! أنهم لا يزالون يحبون هذا النجس وديعا، وقد رأيت ماما تقبله أمس! وهي تسهر الليالي عليه وتخف إليه كلما بكى لترضعه وتهز أرجوحته المنتنة! أنا أكنس البيت كل يوم وأطوي ثياب بابا وأعين ماما. . . ونظيفة وجميلة! وهذا المجنون وديع الذي لا يكف عن الصياح وقذر. . . ورأسه صلعاء!
فلاطفتها ماري وأكدت لها أنها واهمة، وأننا نحبها ونؤثرها ولا نقيس بها إنسانا. فقالت: لا يا أختي، أنهم يخدعونني ويكذبون عليّ. . . لو كنت مكانهم لأطعمته الكلاب أو أعطيته الشحاذين القذرين مثله.
فقالت لها ماري: اطمئني يا أختي إيلين. سنخلصك منه قريبا، أنه قبيح بكاء لا خير فيه.
وأسرت إلى ماري بعد ذلك أنها ستأخذ وديعاً عندها طيلة نهار الغد. ثم تزعم لإيلين أن كلب ماري، وكان لها كلب عظيم الحلقة، قد افترسه وأراحها منه لترى ما عساها تصنع أو تقول. وأخذته في اليوم التالي خلسة إلى دارها، فدهشت إيلو في ذلك النهار لم ترى وديعا ولم تسمع له نأمة. ومضت إلى فراشه مرات عدة فلم تجده. فراحت تطوف البيت وتتحرى الغرف صامتة متلصصة لترى ماذا حل به فلم تفز بطائل. فإذا فرغت من التفتيش عادت إليّ تدور حولي وتطيل النظر في وجهي لعلها تقرأ في أساريره ما يجلو لها الخبر اليقين. . . فلما ضاقت ذرعا بالصمت والكتمان، سألتني:
- ماما. . . أين وديع؟ فقلت لها:
- وديع القذر؟ ماذا تريدين منه يا إيلا؟. . . فقالت:
- أين هو؟ أنه ليس في البيت! فأجبتها:
- مسكين! لقد أكله كلب ماري.
- صحيح يا ماما؟ هل أكله كله؟!
- نعم. التهمه عن آخره!
فتورد خداها وبرقت عيناها، وصاحت:
- فلأقبلنك إذن! وألقت نفسها في حضني تغمر وجهي بقبلاتها، وأخذت تضمني بشدة غريبة وهي تدس رأسها في صدري كأنها تريد أن تدخل في أضلاعي. فسالت دموعي على هذه الصغيرة المعذبة اللعوب. وخشيت وخامة العاقبة متى اطلعت على جلية الأمر، فلم أك أقدر أن يصيبها كل هذا الفرح الجنوني البريء.
ثم تركتني وهرعت إلى الأرجوحة لناجذ منها الفراش، وبذلت جهدا عنيفا حتى أخرجته فأمسكت من أحد أطرافه كأنها تحاذر أن تتنجس يدها منه، وراحت تجره وراءها في صحن الدار. وصادف دخول أبيها في تلك اللحظة فأخذها بين ذراعيه وسألها ما تصنعين يا ايلي؟ فقالت له:
- بابا، لست تدري! إن كلب ماري قد أكل وديعا كله، ولم يترك منه ذرة واحدة! فلنرم فراشه في الطريق، وأرجوحته أيضاً وثيابه. كلها قذرة ورديئة.
وما كادت تفلت من بين يديه وتأخذ بالفراش من جديد حتى دخلت علينا ماري وعلى ذراعها وديع وهي تقول:
- أنه بكّاء مزعج حقاً فخلصوني منه!
ولا تسل عما أصاب إيلو. فقد بهتت ووجمت، واصفر وجهها، وافلت طرف الفراش من يدها. ولم تعد تقوى على الوقوف فقعدت من فورها على الأرض مستندة إلى الجدار. ثم انتبذت ناحية منزوية من تلك الغرفة (وأشارت بيدها إلى الغرفة التي عنتها) في ذلك الركن. وطفقت تبكي بكاءاً متصلا أبكانا نحن الكبار، إذ لم يستطع كل بغضها لوديع أن يسيل لها دمعة من قبل، ولم تعودنا يوما وهي الطروب اللعوب أن نراها تبكي أو تشكو من شيء، فقد كانت أبدا كما قلت لك لاعبة ضاحكة! لسن نشيطة خفيفة الظل والحركة - تكظم الغيظ وتداري أحزان قلبها الغض باللعب والمزاح. ولكنها شعرت هذه المرة أنها أهينت في صميم كبريائها. وقد قالت لنا ونحن نحاول عبثا أن نسترضيها ونمنيها الوعود: إنكم لم تعودوا تحبون إيلو. . . تزدرونها وتضحكون عليها.
وظلت تبكي بلا انقطاع رغم ما بذلنا من جهود، وظل جسدها يضطرب ويهتز بين أيدينا من الانتحاب والشهيق كالسعفة تعبث بها ريح هوجاء.
ولم تذق عشاء تلك الليلة، ولا أحسبها نامت فقد كانت تتململ في فراشها تململ السليم، فإذا ناديتها أو دنوت منها أغمضت جفنيها وتناومت. . . ولم تنهض على عادتها باكرة في الصباح، ولم أشأ أن أوقضها حتى علا النهار، فقامت مثاقلة مسترخية محمرة العينين منتفخة الأجفان من السهر والبكاء، ولم تعن بالبيت أو تلق بالا إلى نظامه أو نظافته، ولا جفلت زينتها، أو مرآتها، ولا غيرت ثوبا أو مشطت شعرا، ولا رحبت بزائر ولا صديق. وخلا المنزل من لعبها وقفزها وأوحش منذ ذلك اليوم. وكان كل ما تفعله أن تقابلني وتجلس أمامي في المطبخ أو في الصحن أو في الغرفة، خافضة الرأس ساكنة الأطراف مغرقة في الوجوم والتفكير مستسلمة إلى الحزن الصامت واليأس الأليم. وأخذ جسمها يذوى ويذوب كالشمعة المحترقة يوما بعد يوم، وغاضت ابتسامتها وخبا ضوءها وخفت صوتها. فراعنا الأمر وتحيرنا ماذا نفعل. ولم يكن في عزمنا أن نتخلى عن وديع أو نعهد به إلى مرضع أو مربيه فقد كان أثيراً عندنا حقا إذ لم يكن لنا ولد ذكر سواه، ولم يكن بيدنا مالا ننفق منه على المربيات والحواضن لو أردنا ذلك. وحار في أمرها الطبيب وكثر ما تناولته من الأدوية والعقاقير صابرة طيعة لا تتمرد ولا تقاوم، وقد ذقت مرة دواء كانت تشربه فوجدته مرا حادا كريها تعافه النفس؛ وعجبت كيف كانت تشربه في طوعية واستسلام فأرقته وأعفيتها من شربه، كأنها تنازلت عن إرادتها إذ لم تعد تنتفع بها، أو رفضتها ورمت بها في وجهنا. فلم تبد رغبة في شيء أو تتذمر من أمر. حتى أن ماري اقترحت عليها مرة أن تأخذها عندها لتعتني بها وتقوم على راحتها وتسليتها وتتبناها فقالت نعم. فسألتها أنا هل ترغبين حقا أن تمضي مع ماري إلى دارها؟ فقالت نعم. أم تؤثرين البقاء عندنا؟ فلم تزد على أن قالت نعم! فنظر بعضنا في وجوه بعض قانطين حائرين.
ولبثت عند ماري أياما لم تزد فيها حالها إلا سوءا على سوء، فلم نجد بدا من استرجاعها. وشرع أبوها يطوف بها المنتزهات ويقتني لها الملاهي والألاعيب والحلوى أصنافاً وضروباً، ولا يألو جهدا في تسليتها والترويح عنها، في غير جدوى.
ومالي أطيل عليك وأثقل على نفسي ونفسك. . . إن ذكرى أيامها الأخيرة لتحز في فؤادي كالمدية الكليل، وتشب في ضلوعي مثل النار. . . وجدناها ذات صباح مثل جثة هامدة في فراشها شاخصة إلى الأرجوحة ببصرها كما يشخص القتيل ببصره إلى القاتل. . .).
واختنق صوتها بالبكاء وانهمرت من عينيها الدموع. فلم أتمالك أن أخرج منديلي وأجفف به عيني الدامعتين.
هذه هي قصة إيلو أو إيلا أو إيلين أو ما تشاء. . . كما سمعتها من أمها. لقد كانت ذات نفس كبيرة وحس دقيق رهيف، جاوزت حدّ الطفولة في الشعور بالعظمة والكبرياء. . . غيورا يهمها أن تكون ملحوظة أبداً معنيا بها لا ينازعها في ذلك منازع ولا يزاحمها على منزلتها عند أبويها إنسان. فماتت شهيدة بطلة بعد أن ناضلت وجاهدت، وأبلت أحسن البلاء؛ وحيدة لا معين لها ولا نصير، شجاعة صابرة لا يعروها ضعف ولا جزع، ولا ينال من بشاشتها أو يخرجها عن سجيتها خور ولا قنوط. . . حتى خذلها الأهل وعز النصير، فأيقنت بالفشل وأدركت أن جهودها ضائعة لا محالة، وأنهم لم ينصفوها ويقدروها قدرها على حال. فألقت سلاحها وانسحبت من الميدان في إباء وحسرة وسكون، وأسلمت قلبها الغض إلى الأحزان، وفوضت أمرها إلى الله. وهكذا انتحرت تلك الكرامة البريئة المؤذاة!
ومع أنى لم أراها. . . ثم مع أنى قد مضى على سماعي نبأ مأساتها عام أو يزيد، فإني ما زلت تعودني ذكراها من آن لآن فأحزن عليها حزني على القريب والحبيب. لكأني رأيتها وعرفتها ولاعبتها وأحببتها كل الحب وكلفت بها أيما كلف، ثم. . . كأنني فقدتها الساعة.
مجلة الرسالة - العدد 679
بتاريخ: 08 - 07 - 1946