9/12/1987.
الحديقة يكسوها الثلج وبقايا صمت متناثر. العشاق يلتصقون ببعضهم بحثا عن الدفء الهارب من شوارع "صوفيا".. محطة الباص خالية إلا من العشاق والسكارى والتائهين مثلي.. قبل قليل كانت هنا.. تلبس معطفا عادياً يخلو من ذوق الأنثى. لكنه دافئ ومزدحم ببصمات أصابعنا العشرين.. شعرها مبعثراً كان. ومندى ببقايا ثلج وعطر خفيف.. كانت هنا للمرة الأخيرة.. وجهها كان مليئا بخزن غامض وبعض قسوة غير معلنة.. قالت لي "أنت غير جاد.. سأعاني من ماض معك.. ليست مشكلة، لم تترك لي مجالا للتعليق، أخذت حقيبتها الأفريقية وهرولت حتى غابت بين أشجار "مدينة الحرية".. وكانت تمارس بوجع هوايتها المفضلة "البكاء" لم أكن حزينا، لكنني سرت صامتا .. وخلافا لعادتي القديمة، لم أغن على الطريق إلى محطة الباص.
10/12/1987م.
صحوت من النوم متأخراً.. تحسست سريري المترجرج، تذكرتها بعمق وشهوة.. أخرجني من ذلك العمق الجميل صوت زميلي في الغرفة مصيحا على، وداعيا إلى شرب كأس من الشاي.. شكرته معتذرا بأنني لم أنظف فمي جيداً من قبلات قديمة.. بتعجل شديد ارتديت ملابسي، وقذفت بنفسي في الطريق.. شعرت بآلام حادة في كل أجزاء جسمي مع قلق لطيف.. دخلت المطعم الطلابي، وخرجت منه مثقلا برائحة الخس والتفاح.. عددت "الفكة" التي في جيبي، فاكتشفت إنها لن تسمح لي باحتساء كوب من القهوة، والتمتع بمنظر النساء الجالسات، -وأيضا- النساء الواقفات في الصف.. أدرت النظر بحثا عن السودانيين، فلم أجد أحداً، فانحشرت في أول باص.
مزدحما بالارتباك دخلت مبنى الكلية، ألغيت المحاضرة، فجلست على مقعد في الحديقة المجاورة.. منذ عام كان هذا هو اليوم الوحيد الذي لم تحضر فيه خفية مندسة من عيون الفضوليين، بي اشتياق لسماع جملها المرتبكة.. كان يزعجني عدم قدرتها في اختيار المفردات.. قلت لها ذات صفاء (ولماذا لم يسموك "ارتباك"؟).. بكت..
17/11/1986.
كنت أقيم في السكن الطلابي المجاور لسكنها.. ولهذا السبب – فقط – كان على تدريسها اللغة البلغارية ضمن مجموعة طلاب جدد.. منذ خمس سنوات أقوم بهذا العمل.. لا أنكر إنني أجد متعة في ذلك العمل رغم التكرار والرتابة، ففي هؤلاء العصافير تحس طعم البكارة، وتشم رائحة السودان الذي لم أطأ ثرائه منذ ست سنوات.. بدأت بالحديث عن قواعد اللغة البلغارية.. شارك كل الحاضرين بالنقاش والأسئلة والتعليقات المرحة.. كانت صامتة، بين الحين والآخر كانت تلتفت ناحيتي.. لم تجذب انتباهي، عادية الجمال كانت، ومن وجهها يطفح نشيد حزين وأليف.. ترتدي بنطلون جينز قديم، وبلوزة اجتهدت – إلى حد كبير – أن تبدو أنيقة.. رغم ذلك كانت تذكرني بالمقدمين على الجنون.. لم أعرها انتباها، وواصلت الشرح بين أكواب الشاي والعصير ورائحة السجائر.. انتقلت إلى الحديث عن المذكر والمؤنث والمحايد..فجأة انفجرت محتجة على ما أسمته التقسيم العشوائي (العلم مذكر أو مؤنث.. المحايد كذبة في ثوب اللغة) حاولت إقناعها بكل ما أعرف عن اللغات التي أجيدها.. وتلك التي لا أجيدها.. احتد النقاش بيننا، ففضل البقية فض الجلسة إلى موعد آخر هرول البقية إلى مساكنهم، وبقينا "أنا وهي" كان الثلج قد بدأ في السقوط خفيفا واعتدل الطقس قليلا.. كان الطريق فارغا إلا من مظلات تهرول في اتزان لزج.. قلت لها (لماذا خرجت في هذه الساعة؟).. لم تعر سؤالي اهتماما.. وبعد صمت قصير، حدقت في وجهي طويلا وعميقا. طأطأت رأسها، ثم نظرت إلى في تودد مشوب بالصرامة الأنثوية، وقال (هل لديك رغبة في مواصلة النقاش,) لم تنتظر إجابتي.. فردت مظلتها، وأشارت إلى بعينيها، فدخلت تحت المظلة.. كنا نسير صامتين وراء السكن الطلابي.. سألتني فجأة "أنت مذكر؟" وأردفت: وأنا مؤنث؟.. هل يعقل أن تكون هذه المظلة محايدة؟.. هبت الريح عاصفة.. أمسكنا بعود المظلة صرنا نغالب الريح، كنت صامتا، وعادتها كانت تثرثر عن أشياء كثيرة في ترابط غير منطقي.. وبعد قليل أفلتت المظلة من أيدينا، وسقطنا على الأرض.. من غصن عال في شجرة كمثرى كانت المظلة ترقب كائنين يتحدثان بلغة المتاهات..
22/12/1987.
بعد انتظار طويل في صفوف بقالات صوفيا. نجحت في الحصول على زجاجة كونياك، ودجاجة ورغيف.. دلفت إلى السكن الطلابي رقم 100 حيث يسكن صديقي بارودي.. كانت صوفيا تعبق برائحة البيروسترويكا، وبعض ارتباك يلف شوارعها وأحياءها، وأنا أعبق ببقايا كمثرى.. شاردا كنت.. في منتصف القعدة قال لي "بارودي" (أفهم أنها قد حركت في نفسك شيئا لا أستطيع فهمه.. ولكن حسنا فعلت، في لا تليق بك).. صمت، وواصلت الشرب في نهم وسرحان.. صرت أعب الكؤوس عبا حتى ثملت.. لم أتناول عشائي.. نزقا هرولت في الممر.. حطمت كل المرايا وزجاج النوافذ والأبواب.. غازلت العابرات في وقاحة.. حضرت الشرطة واقتادتني.. أمام مركز الشرطة، طلبت تدخين سيجارة.. أطلق سراحي لبعض الوقت.. لم أضع الفرصة، قمت بالتبول في حوض للزهور.. قام الشرطي بضربي من الأمام حتى سقطت مغمى على.. صبوا على ماء بارداً.. وحينما أفقت، سألوني "لماذا خرقت القانون؟".. فرأوا على مسمعي كمية من المواد التي تدينني، وسألوني (هل ترغب في قول كلمة أخيرة؟).. قلت لهم: اكتبوا.. أجنبي يبحث عن كمثرى في سماء صوفيا.. اتهمني الشرطي بالثمالة والبله، وقام بضربي.
23/12/1987.
في العاشرة صباحا، قام الشرطي بإطلاق سراحي بعد تغريمي خمس ليفا عقابا على تبولي على الزهور، ووعد بإبلاغ الأمر إلى المسئولين عن السكن الطلابي ليقوموا بمعاقبتي مرة أخرى.. خرجت مرتبكا أفكر.. لما كان ما كان؟.. دلفت إلى حانة مهملة، وطلبت زجاجة بيرة.. أشعلت سيجارة "بالتأكيد سيقوم مسؤول السكن الطلابي بتعليق صورتي في مدخل السكن متهما أياي بسوء السلوك، لن يدور بخلده كيف عشت هنا ست سنوات، قضيت ثلاثة منها بدون إمرأة.. بعد ذلك عثرت على غجرية تائهة قمت بتنظيفها قبل التهامها.. طلبت زجاجة أخرى وصحنا من الكباب والبطاطس. من الحانة تنبعث موسيقى شعبية ذكرتني بالقرويات اللواتي كنت اصطادهن من الشوارع الصامتة.. كن يعانين من أزواجهن المدمنين ووطأة الطلاق.. كن يفهمن إننى عابر.. كما كنت - في الجانب الآخر – متأكدا من هذا جيدا.. رغم ذلك، كان هنالك شيء يروقني جدا في علاقتي بهن.. كن يستقبلن بترحيب رائع طريقتي الخاصة في التعبير عن شعوري نحوهن.. كنت أفكر مع النساء بصوت عال.. سببت لي هذه الطريقة متاعب كثيرة مع النسا"ء المهذبات" قالت لي أحداهن يوما "أنت مهذب وطيب، وتبدو مثقفا.. معظم النساء يعجبن بك من البداية، ولكن ينقصك شيء واحد".. قاطعتها "أفهم ذلك.." ولكن هؤلاء العابرات يفهمن إنني أفهم ذلك، ولذلك لبرهة من الزمان يطرن من الابتهاج على إيقاع طريقتي المبتكرة، ربما لأننا جميعا غرباء نبحث عن دور خاص يليق بحالتنا.. ورغم ذلك لم تكسر تلك العلاقات روتين حياتي.. كبقية الطلاب السودانيين الضائعين مثلي. كنت أدخل زجاجة خمر لأخرج منها إلى أخرى أكثر قوة وأعنف سريانا.. بصوت عال ونشاز نغني أغانينا المكررة، نتشاجر، نشتم بعضنا البعض ثم ننام بالعشرات في غرفة واحدة.. نصحو لننتعش، نضحك، ننسى شجارات البارحة، نخرج، نفترق لنلتقي بدون سابق إنذار في غرفة أخرى.. نطرق أبواب الطلاب الذين يبيعون الخمر سرا. نهرق أموالنا ونحن جياع. قال صديقي "عبد الصمد" (نحن كالغجر).. "نعم" أم "لا" لا أدري.. لكنني أعرف جيداً شكل هذا الفضاء السلافي.. ست سنوات عصافير وعصافير عبرت، وشهادات هرولت، وجنازات هاجرت، والرتابة سيدة هذا الفضاء.. ولذلك نفرح بالطلاب الجدد لأنهم يكشفون لنا خواء هذا العالم، ويغيرون شكل القعدات (النقاش) الأغاني – طريقة إدارة الشجارات الليلية – و.. إلى أن يدخلوا الحلقة الجهنمية، فيكشفون لنا ضرورة هذا الخواء.
1/1/1988.
ممرات السكن الطلابي ممتلئة احتفال رأس السنة. وان محنط في سريري أشم رائحة كمثرى.. كيف تسلقتني هذه الكمثرى؟ ربما لسذاجتها الطفولية.. كانت صرامتي تجاه الأشياء والحوادث تزعجها، وأيضا تعجبها هي الشاردة في ثلج الغربة.. كعادة البنات القادمات من السودان ممتلئة – كانت – بالوحشة، ومن حديثها يفوح إحساس قاتل بالوحدة والعزلة.. كانت تبكي من سخريتي على العالم، وكانت تبكي – كذلك – من النشوة على سرير مترجرج تفوح منه رائحة السجائر و "الصعوط" والكتب القديمة وبقايا الخمر والقيء والبول.. لما تسلقتني؟ سرب أسئلة يحلق في فضاء غرفتي.. أسئلة هنا، وأخرى هناك.. مرة سألتني: ما هو شعورك حين خرجنا متعانقين ذلك المساء؟.. في ذلك الزمان صمت، وبكت هي بحرقة لم أفهم معناها، ولكنني – الآن – أذكر بلذة ووجع خفيف كيف خرجنا – تلك الليلة – متعانقين متشابكي الأيدي في صمت واطمئنان ووجل.. كنا نسقط على الثلج وننهض متعانقين مرة أخرى دون أن ننفض عن ملابسنا بقايا الثلج والطين وأوراق الشجر المتساقطة في مفترق الطرق بين سكنينا ، افترقنا كل إلى طريقه دون أن ننطق بحرف أو نلتفت إلى بعضنا.. إلى الآن لم أسألها عن شعورها ذلك المساء.. كنت لا أعطيها الفرصة كي تعبر عن نفسها.. ربما لاستيائي من طريقتها في التعبير عن ذلك، وربما لأنني كنت اعتقد أن ذلك غير مجد لإنسان مثلي يعتبر نفسه عابرا دوما في هذا العالم.. ولكن هل كانت عابرة؟ ربما من نوع خاص – كما فهمت الآن – كانت تعبر أسلاك الخوف وتندس – كلما هزمها الحنين في انكسارات عقلانيتي وشراهتي للنساء الخائفات.. مرة قالت لي (أخاف عقلانيتك مثلما أخاف حاجبيك الجميلين).. كنت – أيضا – أخافها، ولكن بدرجة أقل.. أخافني سريان الحنين الخفي الذي بدأ يتملكني أن الذي اعتقدت أنني قد تخلصت من العاطفة الهشة.. ست سنوات تعلمت أن أهزم مثل هذه المشاعر، أنا "منصور السنا ري" المعزول عن هواء وطنه ورائحته.. انقطعت عني الخطابات، وساهمت في ذلك بكسلي. سرت إشاعة عن زواجي بأجنبية، فقاطعني أهلي.. لم أكترث، وعودت نفسي على هذا.. لكني أشك - الآن – في كل ذلك.. فمع هذه النقطة الساذجة بدأت أكترث.. شيئا فشيئا صارت تمتلكني طريقتها الفريدة في نطق الكلمات "أجي ، بري ، كُر عليّ" بحس استشراقي، أعجبت برد فعلها تجاه ما يدور حولها.. تعبر عن شعورها وانفعالها بكل جسدها و..دموعها.. لكم امتلأت قمصاني وملاءات ووسائد سريري بفيضان بكائها.. كنت أرقب هذا الكائن العجيب بلذة بدأت باردة، ثم اشتعلت كما أنا مشتعل الآن.. فهمت – الآن – لما لم استطع أن أرد على سؤال مدير السكن الطلابي عقب تلك العاصفة. قال لي (لقد سكنت معنا هنا ست سنوات.. وكنت شابا وديعا ولطيفا.. ما الذي حولك هكذا؟ هل تعاني من مشاكل أسرية؟ هل في حياتك امرأة؟ هل.. هل".. في هذه اللحظة فقط، أدرك أن في حياتي عبرت امرأة ذات طعم خاص، أشعلت حياتي الخابية. واختفت ليظهر لي سؤال غريب "كيف سأرجع إلى وطني"؟
15/12/1988.
مطار صوفيا مزدحم بالمودعين.. أصدقائي يحشون حقائبي بالخطابات والهدايا، ويحشون ذاكرتي بالوصايا للأهل والعشاق. حانت ساعة الدخول إلى صالة المطار وودعتهم واحدا واحدا في شرود أصيل وأسى مصطنع.. شعرت بوخز عميق في قلبي.. كيف سأواجه وطني؟ كانت هي تقف منزوية، لم تودعني، وكانت ترمقني بطرف عينها الثالثة.. كانت حزينة في إباء أنثوي مهزوم، وكنت مرتبكا قليلا.. رمقتها باشتهاء كسير.. "ماذا في حياتي"؟.. داهمني هذا السؤال عند بوابة الدخول.. كنت أفكر فيه وأنا أتابع إجراءات السفر في تبلد.. فاحت رائحة كمثرى فسعلت.. تذكرت قولا لصاحبي بارودي "ليس من الضرورة أن تؤكل الكمثرى، ولكن لها وظيفة أخرى.." الطائرة المغادرة إلى الخرطوم ستحلق بعد خمس دقائق.. حملت حقائبي وهرولت تجاه لغز قادم وسؤال يطاردني "ماذا ستكون في حياتي"؟
صوفيا 17/11/1989.