هذه الأيام، أجرب مساحة جديدة من الوجود، كان البيت مجرد مكان أتواجد فيه ساعة النوم، الآن أصبحت أشعر بالإنتماء أكثر، تنمو الذكريات فيه كشجرة خضراء رقيقة وهشة، رغم غلاء المعيشة المتزايد يوماً بعد يوم في تونس تنمو.
كنت أسكن في وسط البلد، بجوار ميدان، أشعر بالتروما كلما مررت بجواره، لكن أمرّ في صمت كلّ مرة، أحمل خجلي الذي يتساقط كدمائهم التي سقطت هنا، أحمله و أتساقط في الشوارع الجانبية حتى أصل لباب عمارتنا، يخبرني البواب إن زجاج المدخل محطم منذ أيام الثورة، جدران البلكون المحترقة بفعل قنبلة ما، تطاردك الأشياء دائماً مهما حاولت أن تتجاهلها.
أنت تعرفين من يكرهك من نظرة عينيه، من ينوي لك الشر، من يحبك، عيونك مثلاً كانت تحبني بجنون، بإمكانك أن تعرفي كلّ ذلك...
"الصبُ تفضحه عيونه"، هكذا كان يكرر مدرس العربية كلما رآني في الثانوية.
تنتهي السنة، كعادة من قبلها، لكني هنا أكثر إحساساً بما مضى، أصبحت أدرك بشكلٍ أكبر المسافة التي هربت مني عندما كنت في الكهف، تنقشع الأشياء بشكل أكثر حدة مع الوقت، تدرك تفاهتك وغباءك، تدرك أشياء كثيرة مع الوقت، لكن بعد فواته أحياناً.
أتجرع البعد عن المنزل كإشراق عندما تتناول البيرة لأول مرة، لحسن الحظ كانت جائعة ولم تكن بطنها ممتلئة، لذا لم تتقيأ كثيراً، انا أيضاً جربت الخروج من المنزل مرة قبل ذلك، كانت تجربة أقل من هذه قليلاً، لكنها تجربة.
الموسيقى تفعل كل شيء، تقول لك كل الكلام، بدون كلام، تكتب، ترقص، تمارس الحب، برقة وعنف وعلى إستحياء.
ماذا أملك من أمنيات للقادم؟ ماذا أملك من خطط؟ لا شيء سوى السعادة، خطط السعادة يجب أن تتجاوز قليلاً حواجز سجائر المارلبورو وبرجر بافلو وبيتزا تحمل كل الصلصة والصوص الذي بإمكان عجينتها أن تتحملها، حتى شفتيها التي لا تكف عن تقبيلي، كل الأشياء التي يمكن تحقيقها بسهولة، أهمها الخروج من المكان الذي اعتدت البقاء فيه طويلاً.
أحاول الحديث عن شيء آخر بجانب الدراسة، لكنني أفشل في ذلك ذريعاً، أدرك أن رأسي غير منشغل بغير هذه الأشياء هذه الأيام وأن عليّ توسيع اهتماماتي، أركز إهتمامي مجدداً على شفتيها قائلةً: "سبوتنيك الحبيبة..."، فتضحك في خجل.
أحب الموسيقى الفرنسية، شيء ما في تلك الكلمات الشبه مفهومة، أهديها أغنية ومحاولة الحديث عن أشياء تهتم بها هي غالباً، لكنها تتجاهل كل ذلك وتحملق في كأنها تراني لأول مرة، عيونها كانت تتسلل إلى روحي برغم كل الحواجز، كلص يحمل مسدساً لا تستطيع مقاومته، كانت تحمل ضحكاتها الطفولية سارقة جنبات روحي.
تحب الموسيقى، الكلاسيكية تحديداً، تحفظ تاريخها عن ظهر قلب، من عزفها ومتى، أجمل المعزوفات، قد تقضي طوال الليل تستمع للواحدة تلو الأخرى دون كلل أو ملل، تطبخ لي أثناء ذلك شوربة لا أعلم عن مكوناتها شيئاً سوى لذتها، وعن كونها صنعت ببالغ الحب والموسيقى.
بكت بجواري ونحن نشاهد الفيلم، لم نشاهد فيلماً عندما كنا سوياً على الإطلاق، الان هي متزوجة من رجل آخر، وتجلس بجواري لنشاهد فيلماً يتحدث أيضاً عن حبيبين، تزوج كل منهما شخصاً آخر، تلتقي الحقيقة بالخيال، أدرك أنها تبكي وأنظر إليها لتحاول الضحك في وجهي، هل كانت تحبني حقاً؟ أم انها مجرد لحظات ندم عابرة؟
قالت لي يوم خطوبتها في سكرة أنها لا تعرف ماذا تفعل هنا، وأنه كان من الأولى أن تتزوجني، ضحكت بغصة في الصدر يومها، كان من الأولى أن تحدث أشياء كثيرة.
"أنت الآن أصبحت تحبين كثيراً من الفتيات و الفتيان يا ميساء... غيّرتك نحو الأسوأ..." تضحك وهي تقول لي ذلك، تخبرني بأنها تغار منهم أحياناً، لم تحكي لي عن غيرتها تلك كثيراً عندما كنا سوياً، لكنها تقول لي بأنني طيبة القلب، أتذكر الأشياء الجيدة فقط، مع الوقت ننسى الذكريات السيئة، ليست حالة دائمة، لكننا ننسى.
تجف أحزاني مع شرابات قدمي المنثورة تحت الشمس، بجانب كل شراب تركت حزنا يثبته، كيلا يأخذه الهواء بعيداً، لم أجد أثقل من حزني ليحرسه، جف هو أيضاً، لكنه ظلّ ثقيلاً.
أترك الفكة مع الفاتورة وأبتسم قائلة: "سأراك قريباً أليس كذلك؟"
"بالطبع." تجيب وتبتسم بلباقة.
تلك الإبتسامات التي ترسم حدود كل الأشياء، السفن لا تعبر الصحراء.
لا توجد موسيقى حزينة في النوادي الليلية، أنت هنا تدفعين لتحصلي على السعادة، أو ما يبدو لك كأشياء سعيدة، بإمكانك أن تسمعي موسيقاك الحزينة في مكبر صوت سيارتك، هاتفك، أو مسرح الموسيقى غالي الثمن الذي إمتلكته في غرفتك مؤخرا.
ميساء العامري
كنت أسكن في وسط البلد، بجوار ميدان، أشعر بالتروما كلما مررت بجواره، لكن أمرّ في صمت كلّ مرة، أحمل خجلي الذي يتساقط كدمائهم التي سقطت هنا، أحمله و أتساقط في الشوارع الجانبية حتى أصل لباب عمارتنا، يخبرني البواب إن زجاج المدخل محطم منذ أيام الثورة، جدران البلكون المحترقة بفعل قنبلة ما، تطاردك الأشياء دائماً مهما حاولت أن تتجاهلها.
أنت تعرفين من يكرهك من نظرة عينيه، من ينوي لك الشر، من يحبك، عيونك مثلاً كانت تحبني بجنون، بإمكانك أن تعرفي كلّ ذلك...
"الصبُ تفضحه عيونه"، هكذا كان يكرر مدرس العربية كلما رآني في الثانوية.
تنتهي السنة، كعادة من قبلها، لكني هنا أكثر إحساساً بما مضى، أصبحت أدرك بشكلٍ أكبر المسافة التي هربت مني عندما كنت في الكهف، تنقشع الأشياء بشكل أكثر حدة مع الوقت، تدرك تفاهتك وغباءك، تدرك أشياء كثيرة مع الوقت، لكن بعد فواته أحياناً.
أتجرع البعد عن المنزل كإشراق عندما تتناول البيرة لأول مرة، لحسن الحظ كانت جائعة ولم تكن بطنها ممتلئة، لذا لم تتقيأ كثيراً، انا أيضاً جربت الخروج من المنزل مرة قبل ذلك، كانت تجربة أقل من هذه قليلاً، لكنها تجربة.
الموسيقى تفعل كل شيء، تقول لك كل الكلام، بدون كلام، تكتب، ترقص، تمارس الحب، برقة وعنف وعلى إستحياء.
ماذا أملك من أمنيات للقادم؟ ماذا أملك من خطط؟ لا شيء سوى السعادة، خطط السعادة يجب أن تتجاوز قليلاً حواجز سجائر المارلبورو وبرجر بافلو وبيتزا تحمل كل الصلصة والصوص الذي بإمكان عجينتها أن تتحملها، حتى شفتيها التي لا تكف عن تقبيلي، كل الأشياء التي يمكن تحقيقها بسهولة، أهمها الخروج من المكان الذي اعتدت البقاء فيه طويلاً.
أحاول الحديث عن شيء آخر بجانب الدراسة، لكنني أفشل في ذلك ذريعاً، أدرك أن رأسي غير منشغل بغير هذه الأشياء هذه الأيام وأن عليّ توسيع اهتماماتي، أركز إهتمامي مجدداً على شفتيها قائلةً: "سبوتنيك الحبيبة..."، فتضحك في خجل.
أحب الموسيقى الفرنسية، شيء ما في تلك الكلمات الشبه مفهومة، أهديها أغنية ومحاولة الحديث عن أشياء تهتم بها هي غالباً، لكنها تتجاهل كل ذلك وتحملق في كأنها تراني لأول مرة، عيونها كانت تتسلل إلى روحي برغم كل الحواجز، كلص يحمل مسدساً لا تستطيع مقاومته، كانت تحمل ضحكاتها الطفولية سارقة جنبات روحي.
تحب الموسيقى، الكلاسيكية تحديداً، تحفظ تاريخها عن ظهر قلب، من عزفها ومتى، أجمل المعزوفات، قد تقضي طوال الليل تستمع للواحدة تلو الأخرى دون كلل أو ملل، تطبخ لي أثناء ذلك شوربة لا أعلم عن مكوناتها شيئاً سوى لذتها، وعن كونها صنعت ببالغ الحب والموسيقى.
بكت بجواري ونحن نشاهد الفيلم، لم نشاهد فيلماً عندما كنا سوياً على الإطلاق، الان هي متزوجة من رجل آخر، وتجلس بجواري لنشاهد فيلماً يتحدث أيضاً عن حبيبين، تزوج كل منهما شخصاً آخر، تلتقي الحقيقة بالخيال، أدرك أنها تبكي وأنظر إليها لتحاول الضحك في وجهي، هل كانت تحبني حقاً؟ أم انها مجرد لحظات ندم عابرة؟
قالت لي يوم خطوبتها في سكرة أنها لا تعرف ماذا تفعل هنا، وأنه كان من الأولى أن تتزوجني، ضحكت بغصة في الصدر يومها، كان من الأولى أن تحدث أشياء كثيرة.
"أنت الآن أصبحت تحبين كثيراً من الفتيات و الفتيان يا ميساء... غيّرتك نحو الأسوأ..." تضحك وهي تقول لي ذلك، تخبرني بأنها تغار منهم أحياناً، لم تحكي لي عن غيرتها تلك كثيراً عندما كنا سوياً، لكنها تقول لي بأنني طيبة القلب، أتذكر الأشياء الجيدة فقط، مع الوقت ننسى الذكريات السيئة، ليست حالة دائمة، لكننا ننسى.
تجف أحزاني مع شرابات قدمي المنثورة تحت الشمس، بجانب كل شراب تركت حزنا يثبته، كيلا يأخذه الهواء بعيداً، لم أجد أثقل من حزني ليحرسه، جف هو أيضاً، لكنه ظلّ ثقيلاً.
أترك الفكة مع الفاتورة وأبتسم قائلة: "سأراك قريباً أليس كذلك؟"
"بالطبع." تجيب وتبتسم بلباقة.
تلك الإبتسامات التي ترسم حدود كل الأشياء، السفن لا تعبر الصحراء.
لا توجد موسيقى حزينة في النوادي الليلية، أنت هنا تدفعين لتحصلي على السعادة، أو ما يبدو لك كأشياء سعيدة، بإمكانك أن تسمعي موسيقاك الحزينة في مكبر صوت سيارتك، هاتفك، أو مسرح الموسيقى غالي الثمن الذي إمتلكته في غرفتك مؤخرا.
ميساء العامري