خليل هنداوي - المقبرة البحرية للشاعر الفرنسي بول فاليرى

تلوت المقالة المنشورة بعنوان (حول قصيدة) للدكتور طه حسين فأعجبت به إعجابي بكل ما تسطره براعة أستاذنا المفكر، فثارت رغبة نفسي في الاطلاع على هذه القصيدة المحاطة بالأسرار والتي اختلف النقاد والأدباء في تفهمها. فرجعت إلى كتبي التي اعتدت أن أتزود بها في سفري، فلم اعثر على القصيد جميعها ولكنني وقعت على قسم منها لعله يكون (خيرها) لأنه أدنى إلى الإفهام ولعله (أسوأها) إن كانت روعة هذه القصيدة تتجلى في ألغازها وطلاسمها، ولكنني حتى في هذا القسم الواضح (لم أقع إلا على ما تتنازع في تفهمه الخواطر فقلت: أمر هذه القصيدة غريب عند أصحابها فكيف عند ما يريدون أن يقرءوها مترجمة وكل مترجم قد أنتحي ناحية قد لا تجمعه بالآخر إلا رموز! ولكن الروعة الغالبة في القصيدة لا ترجع إلى ألوانها القاتمة وصورها الغامضة وإنما تعود إلى فنها. وطريقتها التي جاءت بها.

في القصيدة غموض شامل! وهل كان الغموض سراً من أسرار البيان؟ وهل في استطاعتنا أن نجعل من الغموض مرادفا للبيان؟ ولكن هل كان البيان كله مستوعبا للفن كله ? أليس من الفن الشيء الغامض والشيء المعجب والشيء المثير؟ وهو بعد ذلك كله غامض جد الغموض لا ينفتح على النفوس إلا بقدر استقرائها واستجلائها للخطوط والألوان. . وهل كان اختلاف الناس في تفهم القصيدة الواحدة عيبا من عيوبها البيانية أم قيمة رائعة للقصيدة التي يتشعب من فنها فنون ومن سبيلها الواحد سبل متعددة.

أنا أحب الكتاب الذي يصرع قارئه طوراً وطوراً يصرعه قارئه كما يحبه أستاذنا الجليل. واحب القصيدة التي لا تتركنا إلا بعد أن تموج أنفسنا بشتى أهوائها وميولها، ولكني لا أحب (ولن أحب) أن يرجى الغموض في الفن لمجرد الغموض، لأن الآمر لا يؤول إلا إلى فوضى تعمل على تقويض الفن من حيث نحسب أننا عاملون عل رفعه.

هنالك آثار فنية واضحة كل الوضوح، ولكن المطلع عليها لا يلبث أن يرتد عنها ضيّق الصدر مظلم القلب، وهنالك آثار غامضة كل الغموض لا ينظر إليها الإنسان حتى تملأ نفسه روعة وجلالا. وتفتح أمامه من لانهاية الوجود. ما سر ذلك؟ العل في الفن شيئ غامضاً غموض النفس؟ أما تحديدي لهذا الغموض وهذا البيان فهو أمر لا أقدر على إبداءرأيي فيه بعد أن أثبتت الحياة أننا كلما زدنا قيودها اتسعت آماد حريتها. وكلما قبضنا عليها من مكان أفلتت من أماكن. . ومادام هذا شأن الحياة فليس غريبا أن يكون للفن أيضا مثل هذا الشأن، والفن أسمى ما في الحياة. وإنما روعة الفن في انطلاقه لا في قيوده.

وأخيراً أخذت هذا الجزء اليسير من القصيدة وآثرت ترجمته برغم غموض معانيه، مرتقبا من أحد شعرائنا الأفذاذ أن يؤدي نجوى أستاذنا الدكتور حق تأديتها، لأنها (في الحقيقة) كما فكر الدكتور، ستخلق نوعا جديدا في الشعر يأتي على هذه الألوان البالية الباهتة. ويخلق في الأدب العربي هذه المدارس الجديدة الشعرية التي تحمل طياتها البيان الرمزي وغير الرمزي. وهذه القصيدة نظمها (بول فاليرى) في مقبرة مشرفة على البحر، فكانت خطرة فلسفية تأميلة يصف بها حالة الكون وذاتية العالم المادي الذي يرجع إليه تراب الموتى، وراحة العالم الراقد في (اللاشعور) وحالة القلق النفسي الذي يعكر علينا صفاء هذا العالم. مريداً من وراء ذلك أن تأخذ النفس نصيبها من هذه اللحظات المتتالية الحينية.

ولا أدري أأحسنت العمل أم كنت سيئا؟ ولكنها جرأة أريد بها أن أستثير غيري ممن هم أمت مني صلة بالقصيدة وصاحب القصيدة.

القصيدة

. . إنها قدسية، مغلقة ... نارها توقد من غير غذاء
خيم الصمت على أرجائها ... وعلى صفحتها رف الضياء
سطعت أضواؤها وهاجة ... وأثارت فيّ أسباب الطرب
فظلال (كالدجى) ممدودة ... وقبور رصَّعوها بالذهب
أرأيت الظل في أكنافها ... حيث يرتج على الظل الرخام
وهناك البحر في غفوته ... قد ترامى قرب أجداثي ونام
هاهنا أمواتنا قد جثموا ... مدفئا أجسادهم هذا التراب
طاوياً أسرارهم في جوفه ... النشر ينطوي هذا الكتاب؟
الوجود ائتلفت أعيانه ... وتآخت فيه ألوان الصور
واستقرت لكمالٍ، وأنا ... قيد تبديل خفي مستمر
وحياة قد طواها ما طوى ... وزعوها في غيابات القبور
جسد يأكله هذا الثرى ... ودماء هي قوتٌ للزهور
أين ذاك الفن في روعته ... عند ناس غالهم صرف الزمان؟
أين أرواح لهم سامية ... أين ما أوتوه من سحر البيان ?
هل علا حيث علت أصواتهم=ومشت روعتهمإلا سكون؟
نثرت كف البلى أبدانهم ... وسطا الدود على تلك العيون
هل لنفس أمل في حلم ... ضاحك. صادقة ألوانه؟
لم يمثله لعيني خادع ... طال في تمثيله بهتانه
وغداً أن ذهبت هائمة ... أتراها تملأ الجو غناء؟
قدك! فالأكوان يطويها البلى ... ووجودي مسرع نحو الفناء
أيها الخلد المعزى للورى ... أنت جهم وجميل كالربيع
توَّجوه لعيون عشيت ... عن هداها، غرَّها التاج الشنيع
حيلة الله ما أجملها ... وأكاذيب ارتدت ثوب التقى
كان في الخلد عزائي فقضى ... وطوى اليأس رجائي في البقا
من درى الأمر ولا يمقته؟ ... يتجلى كله في جمجمة!
كيفما قّلبت أبصرتَ بها ... ضحكة دائمةً مرتسمه
وبقايا ببقايا بُدِّلت ... رب لحد فوق لحد يجثم
خجلت أقدامها من وطئها ... ما أديم الأرض إلا أنتم!
ليس للدود اتصال بكم ... يا جسوما أُدرجت في الكفن
هو بالأحياء يحيا أبدا ... هو يحيا فيّ لا يبرحني!

خليل هنداوي


مجلة الرسالة - العدد 22
بتاريخ: 04 - 12 - 1933

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى