شادية شقروش - أزمة الجيل العربي في رواية ” شبابيك منتصف الليل “ لإبراهيم درغوثي

تطرح رواية شبابيك منتصف الليل فكرة المثقف الواعي بالوضع و العاجز عن تجاوزه، لأنه خليط من تركيبة يكتنفها العجز، و بالتالي فكيف يتخلق الكامل من العاجز.

تختزن الشبابيك هرم ثلاثي القطب يدور في فضاء مشكلات فكرية قائمة في المجتمع العربي الإسلامي متأثرة بالتعارض بين منهجية الفكر العلمي الغربي و التصورات الدينية المطروحة منذ أربعة عشر قرنا.

و لا شك أن الكاتب و هو يحلق بأجنحته الثلاثة (الجنس، الدين، العرف) لم يستطع تجاوز الحقبة المظلمة لذلك نجده يفتح شبابيكه في منتصف الليل، قمة الظلمة و لكن شبابيكه تنفتح نحو الداخل و كأنها دعوة من الكاتب إلى الرؤية الإستبطانية، و هي رحلة قام بها سارد عاجز استطاع أن يرى – رغم الظلمة – العيوب و يشخصها من أجل تفاديها.

ثلاثة وجوه في وجه واحد هو وجه السارد / نصف رجل تسبب الجهل في فقدان رجولته :

أبو الشامات ـــــــــــــــــــ والد السارد
أبو اللعنات ـــــــــــــــــــ عمـــــــــــه الســــــــــــارد
أبو البراكات ـــــــــــــــــــــــــــــــــ عمــــــــــــه

” فتحت شباكا يطل على قلبي
فماذا رأيت ؟
ليــــلا
و ماذا رأيت؟
ليــــلا
و ماذا رأيت؟
رأيت ليــلا أيضا“(1)

ينفتح فضاء الشبابيك على الليل / الظلمة لتتجلى لنا ثلاث طبقات من الظلام تحيل إلى ثلاث شخصيات داخل الفضاء السردي، نهلوا من نبع واحد الدين ، الدنيا (حفظ القرآن الكريم في بيوت الله العامرة ، و تفقهوا في علوم الدنيا و الدين ) الرواية ص 6 .
وأصبحوا يفرقون بين الحق والباطل ، وانطلقوا في طرق شتى .
(1) إبراهيم الدرغوثي: شبابيك منتصف الليل دار المعارف للطباعة و النشر ط2 تونس 2004 ص(5)

خليفـة الأول ــــ والد السارد ــــ أبو الشامات ـــــ التحايل
خليفة الثاني ــــــ عم السارد ــــــــــ أبو الباركات ـــ التطرف الديني
خليفة الثالث ـــــــ عم السارد ــــــــ أبو اللعنات ـــ الإفراط في الجنس

وينفتح السرد على عالم الحيوانات ( الكلاب ) عالم يبين فيه السارد كيف ينتقم من الكلاب ، و قد يحتار القارئ و هو يدخل هذا الفضاء و يتساءل لماذا ؟

ينتقم السارد من كلب أسود و هو الشيطان (في العرف) ، ثم بطريقة تقنية يتحول الكلب إلى آدمي (أبو الهول) ليقوم السارد بذبحه و رميه في النار “كدت أعود و أسكب ماء باردا على نار جهنم إلا أنني تذكرت الكلب الأسود و هو رابض فوق القبر قرب الشاهدة كما يربض أبو الهول …. ألتفت إلى نار الله الموقدة و قلت : لأشوينك فيها يا ابن الفاعلة (…)، ستموت موتة الكلاب أيها الرجل الذي جعل العالم يضحك على ذقوننا دهرا كاملا” الرواية ص22 ص23.

يتبين من خلال هذه الإشارات الأسلوبية أن السارد لا ينتقم من من الكلاب المحمومة بل من رجل (شيطان) نعته بكلب أسود رابض فوق قبر، جعل العالم يضحك على ذقوننا دهرا كلب = رجل = أبو الهول = شيطان أضحك العالم علينا . فمن عساه يكون؟ فالشيطان في المرجعية الدينية يحيل إلى التمرد و هو من ضحك على آدم بعد أن أخرجه مما كان فيه الشيطان في المرجعيات الراهنة يحيل إلى الحضارة الغربية بكل بريقها التي أخرجت الإنسان العربي مما كان فيه من الانضباط.

والقبر فيه إحالة إلى الموت ، و المسكوت عنه في السرد هو الحضارة العربية الإسلامية التي كانت تقود العالم.

فالفكرة إذن فكرة انتقام على مستوى السرد من حضارة الغرب المتغلبة على الحضارة العربية العريقة

فالسارد - يحيل إلى حضارة العالمية الأولى العربية
(أبو الهول) الشيطان - يحيل إلى حضارة الآخر (العالمية) الآن

و لكن السارد انتقم من الكلبة أيضا وهي تحيل إلى السياسات العربية المتعفنة المقترنة بالحضارة الغربية فالمقترن بالعدو يستحق الموت ، ولا شك في أن اقتران هذه السياسات هو اقتران الراغب و الخائف في آن واحد “مثلما هو مبين على مستوى السرد” .

“و لا يقبل هذا الهزء فيعوي عواء حادا فيه تهديد و وعيد ، و تخاف الكلبة فتعود إليه ذليلة ” الرواية ص21

فالحضارة العربية المقبورة والتي ربض فوقها أبو الهول كما نعته السارد من المتسبب في دفنها ؟ ؟ ؟

لعل المتسبب في دفنها هو الفكر المبتور، العاجز الذي طبقه الأسلاف الممثلين في القطب الثلاثي ( أبو الشامات، أبو اللعنات ، أبو البركات) و الذين ورثو السارد عجزا لا يمكن تصليحه و المتمثل في العاهة المستديمة التي لحقت بالسارد في رجولته نتيجة جهل والده (أبو الشامات ) و تمسكه بالأعراف و التقاليد و رفضه للعلم “كيف أترك كافرا نصرانيا يطهر ولدي و إن كان طبيبا. و ركب حصانه الذي سار به خببا و ذهب يبحث عن الشيخ عبد المؤمن الطهار” . الرواية ص17

يبدو أن الكاتب يحمل هما كبيرا جاثما على قلبه مما جعله يتجرأ على الدنيا و ما فيها(*)

حفظ القرآن

أبو الشامات ــــ عالم بالدين و الدنيا وتعلم علوم الفقه والدنيا
يرفض العلم العصري ــــ جاهـــل
يسلم مصير ابنه إلى شيخ ضرير ــــت النتيجـــة
يفقد السارد نصف رجولته

أبو الشامات ـــ متمسك بالأعراف ـــ يفهم الدين بطريقته الخاصة و يغلب العرف عن الدين

العرف أكبر من الدين = جهـــــــل

أبو الشامات عقليته متحجرة ، لماذا ؟ لقن علوم الدنيا و الدين و لعل إشارة السارد فيها نوع من التهكم عندما أشار في بداية السرد: بقوله :” أنجب جدي ثلاثة أولاد (…) رباهم فأحسن تربيتهم، حفظوا القرآن الكريم في بيوت الله العامرة ، و تفقهوا في علوم الدنيا و الدين ، و لم يترك لهم عنان أنفسهم إلى أن شبوا و صاروا يفرقون بين الحق و الباطل ، فأطلقهم في الأرض و قال لهم : هي الدنيا أمامكم فاختاروا من الطرق الأقرب إلى قلويكم و لا تتحسروا على ما فات. الرواية ص6

لكن هؤلاء الأبناء لم يفلحوا في نهاية المطاف لأن الدين الذي تعلموه كان عادة فقط ، وعملية الفهم تختلف من شخص إلى آخر .

فالأول أفرط في العادات و التقاليد و تحايل على السياسة و الدين. و كانت نهايته في قبر بجانب المجنونة التي أحبها في صباه. فهو مزواج مطلاق .

“كان أبي يردد في كل المناسبات : الرب من فوق سماواته السبع مكنني من أربعة و ما ملكت يميني أنكحهن أني شئت فكيف يحرمني العبد من ذلك؟ و دخل السجن أكثر من مرة “. (الرواية ص26)

و لأن القرار البورقيبي حرم تعدد الزوجات. “كان يتحايل على القانون و على الشرع . كأن يطلق الواحدة و يبعث لها بوثيقة الطلاق الممهورة بختم المحكمة الشرعية ثم يرجعها سرا على أيدي جماعة من المؤمنين. كما في عهد الصحافة”. الرواية ص26

لكن عل الرغم من ذلك كان عاشقا لمجنونة.

عالم بالدين و الدنيا
جاهل بالعلم (رافض له)
متحايل على الشرع و القانون
أبو الشامات ـــ متمسك بالعرف
باحث عن نزواته (المجنونة)
متزوج من أكثر من أربعة
زير نساء
يحن إلى الأول ــ المجنونة ــ النبش في الماضي

فهو شخصية متناقضة يعيش الحاضر و متعلق بالماضي و لكنه في الأخير يدفن في مقبرة الماضي مع المجنونة فهو حارس للماضي أبو الشامات يمثل حراس الترات بكل تناقضاته و يرفض الحاضر لذلك قبر نفسه مع القديم و بقى حارس عليه الإنسان العادي المتدين عرفا المتحايل على القانون و الشرع و العرف (متمرد) .

*أبو اللعنات (أبو الشهوات) –يتزوج أربع و يطلق أربع منذ البداية منفتح على الجنس، هدفه المال ، الجنس، الخمر باع كل الممتلكات و رحل يبحث عن عمل في مناجم الفوسفات لكنه وجد مغامرة الجنس مع الروميات. فبقي فيها ردحا من الزمن إلى أن أكتشف أمره و الغريب في الأمر أن أبا اللعنات هذا الشيطان البدوي اختراق كل المحظورات الجنسية و لكنه في الأخير شنق نفسه. و المسكوت عنه هو أن الأخر (الغرب) أمريكا المتمثلة في نسائها و سواحها جعلوا منه فرجة، فكأن رجولة العربي أصبحت فرجة للجميع في الفنادق / تارة يبيع رجولته ليأخد مقابلا ماديا يصرفه في الحانات، و في الفترة الأخيرة بقى يقوم نفس الوظيفة بعد أن أصبح شيخا أصبحت رجولته للعرض و تجد الأجنبيات متعة في ذلك نظير مقابلا ماديا الذي أصبح يصدقه على الفقراء و المساكين (كزكاة) ثم يشنق نفسه في آخر المطاف. و يسرق سائح أمريكي رجولة العم أبي اللعنات ليضعها في متحف أمريكي.

و المسكوت عنه هو أن يضيع العربي الإرث الحقيقي و ينغمس في اللذات و تصبح رجولته تعرض كلوحة زيتية للسواح.

هذا ما ألت إليه الرجولة العربية بعد انهيار الحضارة الإسلامية الشامخة ، فالتباهي بالرجولة ولت ليس مفخرة، و لكن المفخرة الحقيقة هو استعادة تلك الرجولة و التي سرح بها السارد المفجوع في رجولته أيضا ” يا أهل الله ردوا رجولة عمي” و ذلك في الفصل20 من هذه الرواية ص 95.

مزواج مطلاق
يحفظ كتاب الله
عالم بأمور الدنيا
أبو اللعنات - باع إرثه و إرث أخوته و هام في الأرض الإفراط في الجنس
يعمل في الفنادق الفاخرة
يعرض رجولته
يسكر من أموال بيع الرجولة
بعد ثلاثين سنة أصبح يزكي من أموال عرض الرجولة
الجد الأكبر
قتل التيفوس بهراوته - قام بواجبه و تفرغ للعبادة
الوالد صام الدهر - و بموت الوالد غابت شمس الحضارة
يدرس في جامع الزيتونة
يقوم في الليل

“ارتدى الجد الكفن و دخل القبر عندما وصل أجله و “حين جاء المصلون لصلاة الصبح (…) رأوا قبرا داخله ميت. نزعوا الغطاء من وجه الميت فرأوا و كأن شمسا أشرقت داخل القبر، فأعادوا الغطاء إلى مكانه و واروا الشمس التراب” الرواية ص117. لذلك يعنون الكاتب الفصل 24 ب “الشمس التي طلعت من القبر”

يبدو أن هذا القبر هو الذي أشار إليه السارد في بداية السرد و الذي كان الكلب (الشيطان) أبو الهول رابض فوقه فكأن الكاتب يحيل إلى الحضارة المقبورة و التي يحرسها الغرب. و كأنهم يخشون شروقها من جديد.

*أبو البركات: لم ينفصل عن والده تربى في كنف المسجد ولم ينغمس في الدنيا، لذلك عندما باشر الحياة رفضها. و عندما بويع من طرف القبائل حاول أن يكون عادلا فأرض الجميع بأن يتزوج من كل قبيلة بإمرأة “تباروا في من يزوجه ابنته حتى كادت الدماء تسيل

أنهارا (…) إلى أن حل « أبو البركات» المشكلة بأن دخل بأربع بنات أبكارا في ليلته تلك، قال لهم : لم أغضب واحد منكم ستكون زوجاتي كل واحدة من قبيلة و سأكون صهركم ص121.

لكنه بعد أن جمع شمل القبائل أراد أن يفرض عليهم أشياء لا تطاق بعد أن بدأ بنفسه، ” الآن جاء دوري فاستمعوا لحديثي، لن آكل بعد اليوم لحما، و لن ألبس الحرير و طلب منهم أن يوقدوا نارا عظيمة رمى ثيابه و ثياب نسائه في النار، و لبس جبة صوف و ألبس نساءه الصوف”

الروايةص123 و دعا الناس إلى العمل الصالح فقالوا السمع و الطاعة يا مولانا ص 124 و الغريب في الأمر أن الناس دائما يتراءى لها أن من يفعل هذه الأمور يصبح من صنف الملائكة .

فانبهار الخلق بأبي البركات و قدومهم إليه من كل مكان يوحي بالعقلية المتحجرة التي مازال معظم الناس يؤمنون بها لأن فعل الخرق/ رفض الدنيا يؤدي إلى الانبهار فالبشر مخلوقون من اجل العيش في هذه الدنيا، و من يرفض هذه النعمة لا يصنف في زمرة البشر.

وهو لا محالة طرح تهكمي من الكاتب من أجل كشف الأمراض النفسية التي تعاني منها ثلة من الشعوب العربية التي مازالت متمسكة بخرافة البركات .

شدد أبو البركات على نفسه و على الناس و أقنعهم ببيع أجهزة التلفزة التي في بيوتهم بحجة أنها عين من عيون الشيطان ثم هجر زوجاته في الفراش و تفرغ للعبادة، كل هذه الأمور بطبيعة الحال آدت إلى التمرد و العصيان لأن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده .

أكل اللحم و لبس الحرير حرام
أبو البركات - التلفزيون حرام (عيون الشيطان)
الحمام حرام (سوق الشيطان)
تمرد زوجاته - واحدة ماتت،
النتيجة - تمرد أهل القرية - واحدة هجرته
ورجوعهم إلى الدنيا - واحدة هربت مع رجل
و بقيت واحدة معه
التزمت تؤدي إلى الانحلال
و نهايته أن الأرض ابتلعته / الموت
الخاتمـــــة
الحضارة العربية الإسلامية
مـــات
القبــر
الكلب الأسود (أبو الهول ) رابض فوق القب
الحفيــــد
رعايــة

فكان الأديب يدعو إلى الوسطية بصوت مبحوح، لكنه وظف ساردا عاجزا، فكأني به يريد أن يقول أن العربي الآن ورث العجز من آبائه فكيف له أن ينخرط في العالم الجديد، فهل ينخرط بالانتقام والتشفي من الآخر عن طريق القتل والحرق، أم بالطريقة التي فعلها السارد الفاقد لرجولته مع الأمريكي في زاوية النفزاوي.

لعل الكاتب يقف وقفة الحائر الحيران من العربي العاجز وسط معترك الحياة، والسارد الذي احتضنه ورعاه أبو البركات والذي أخذ حضه من الدين، تمرد ليأخذ حضه من العلوم العصرية، فيه إحالة إلى ما يمكن أن يكون أو ما يمكن أن يقوم به الإنسان لكي يواجه الحياة العصرية.

ليس من عادة إبراهيم درغوثي أن يعطي إجابات عن القضايا المطروحة بقدر ما يعري الواقع ويكشف عن المخبوء بلغة قد يقال عنها شبقية، وقد يقال عنها خالية من الحياء، وقد يقال عنها أيضا وقحة، لأن درغوثي ذكر في الشبابيك كلاما لا يستطيع الإنسان الحييي أن يقرأه، لكن هذه العبارات كأنها صفعات للقارىء العربي الذي ربما يعتبر هذه الرواية رواية الوقاحة والجنس ص 371 372 لكن من يقرأ ألف ليلة وليلة والحيوان للجاحظ وكتاب الأغاني للأصفهاني وكتاب الروض العاطر في نزهة الخاطر، سيجد فيها الكثير مما سرده الكاتب في رواية شبابيك منتصف الليل.

تحمل هذه الرواية نقدا للتراث ونقد للعادات والتقاليد الرجعية ونقدا للغرب ونقدا للتزمت الديني والتحريم المطلق من ملذات الدنيا، ونقدا للإباحية المطلقة للجنس، ونقدا للواقع الاجتماعي المعيش، إذ يروي الكاتب على لسان السارد عملية التحايل على القانون والشرع في أمر الزواج، فالواقع الاجتماعي في تونس يحرم التعدد لكن الناس يتحايلون على القانون باسم الشرع والدين، وما هذا إلا كشف للواقع الاجتماعي، وكذلك الأمر بالنسبة لما وقع للسارد مع الحيوانات، فيه كشف قد يمجه الذوق العام، لكن العين السحرية التي ينقل بها الدرغوثي هذه الوقائع على شكل كون تخييلي قد يحيل إلى أن هذه الحوادث وقعت فعلا أو ممكنة الوقوع على الساحة الاجتماعية طالما هذه القنوات الفضائية تكشف هذه الوقائع علنا، ولعل الدرغوثي اختلط لديه الحلم بالحقيقة والواقع المعيش بما يراه على شاشات التلفزيون.

يتوازى طرح الدرغوثي في رواية الشبابيك مع طرح كولون ولسن في كتابه اللامنتمي وإن كانت النتيجة مغايرة لكن المسار واحد هو البحث عن ارضية صلبة وسط مجتمع يعبق عفنا ويحمل في جوفه ذبذبة روحية وأخرى مادية.

ففكرة اللامنتمي العربي جعلت السارد يقف إلى جانب أبطاله في معركتهم ضد القدر المظلم وضد الأعراف وضد القوانين، وبما أن الأبطال الثلاثة أورثوه العجز الفكري والعقلي والجنسي فإن الهزيمة أصبحت مصيرية والمأساة شرطا للحياة، فالنهاية التراجيدية لأبطاله الثلاثة تنبئ بالرفض لكل ما ورثه منهم والعجز في مواجهة الحياة ( ثلاثة وجوه في وجه واحد، هو وجهي أنا، وجهك أنت، وجه رجل مازلت لا أعرفه بعد …) . ص7

فالتدين من دون عقل يؤدي إلى الانتحار، والإغراق في الشهوة دون تحكيم العقل يؤدي إلى الانتحار، ومسايرة الأعراف والتقاليد ونبذ العلم ورفض المنطق يؤدي إلى الموت أيضا فيكون مصير الأبطال الثلاثة الموت بإرادتهم لأنهم فشلوا في الحصول على مبتغاهم.

فتحت شباكا يطل على قلبي

فماذا رأيت؟

– ليلا - أبو الشامات (العرف + الجهل) = دفن نفسه مع عشيقته المجنونة.

ماذا رأيت؟
– ليلا - أبو اللعنات (أنو الشهوات) = الإغراق في الجنس = الانتحار شنقا
وماذا رأيت؟
– رأيت ليلا أيضا - أبو البركات (التطرف في الدين+التصوف) = الانتحار في سبخة الجريد.
ليلا + ليلا + ليلا = شبابيك منتصف الليل = وريث عاجز.

لعلها إشارة من الكاتب إلى أن الجزء الأول من الظلام قد ولى وسينقشع هذا الظلام لأن الليل في منتصفه ومآله إلى انبلاج الفجر.

لذلك نجد أن السارد أو الوريث العاجز عن استعادة رجولته الحقيقية يحمل في طياته بذور الخير، لأنه هرب من حصير الجامع إلى مقاعد الدراسة في المعهد الصادقي (لأتعلم الجبر والفلسفة وعلم الحيل واللغة الفرنسية…) ص13

هكذا يريد السارد أن يجمع الدنيا والدين دون إفراط ولا تفريط.

لأن التفكير و العيش بمنطق الأجداد سيورثنا لا محالة العجز، فينبغي أن ينخرط الإنسان في هذه الحياة بعقل واع و أن يعيش الوسطية ، فلا إفراط و لا تفريط ، و من شدد على نفسه شدد الله عليه.

يطرق الكاتب في جل أعماله القصصية قضايا الألفية الثالثة، التي تحمل في طياتها هم المثقف في إيجاد حل لهذه الأزمة ، و بخاصة و نحن في رحاب العولمة ، فهل نطير في فضائها تاركين جذورنا، أم ننغمس فيها بغثها و سمينها تاركين وراءنا أصالتنا.

وفي الأخير الشبابيك هي رحلة الإنسان، القابع في الذات المنكسرة ، رحلة سندبادية تتضارب فيها الأنا و الأنا الأعلى و الهو، يمثل أبو الشامات الاعتدال المنحرف، و يمثل أبو اللعنات الجنس المطلق المنحرف، و يمثل أبو البركات التزمت الديني المنحرف . كل هذه الانحرفات أدت إلى خلق وجه رابع هو وجه السارد . ثلاثة وجوه في وجه واحد .

عودنا الكاتب في منطق السرد بفتح بوابة على كل ما هو مقزز فتتلاحم الشخصية الساردة مع المجنون كما في القيامة الآن لترحل إلى عوالم الكشف و تعرية الواقع السياسي العالمي، أو ترحل الشخصية الساردة إلى الماضي لتعري من خلاله الواقع الإجتماعي كما في الشبابيك.

أو ترحل إلى الكهوف و المغارات كما في وراء السرب قليلا لتكشف عن الواقع العربي الراهن.

لئن كانت الرواية الواقعية تكشف الوقائع من خلال الواقع اليومي المعيش. فإن روايات الدرغوثي تتجاوز الواقع إلى اللاواقع لتعري الواقع اليومي و تستشرف المستقبل، يمزج فيها القاص بين الزمان و اللازمان و المكان و اللامكان و التاريخ و اللاتاريخ لتصبح الرواية كائنا لغويا عجائبيا يضع القارئ في حيرة السؤال المستمر.

تتراءى المعاني خلف قضبان اللغة المتحررة من الأخلاق فلا معنى للأخلاق في قاموس القاص، و لا معنى للجنس، و لا معنى للتاريخ و لا معنى للدين، طالما يسير هذه الطابوهات أناس ليسوا أهلا لتسييرها .

لذلك يحس القارئ و هو يمارس لعبة القراءة في قصص الدرغوثي أن اللغة تحمل في تلوينها نوعا من روح الأديب ، تخفي في طياتها الانضباط و الاعتدال. و تصرخ رغم تكتمها. بأنه لا مناص من الوسطية.

فالتلاعب بالقيم الدينية في تلابيب اللغة هو البحث عن روح الدين الضائعة و التلاعب بالأخلاق و الجنس هو البحث عن روح الجنس الضائع.

والتلاعب بالتاريخ و السياسة هو البحث عن التاريخ النقي و السياسة النقية، هو البحث إذن عن المدينة الفاضلة التي تحمل في تلاوينها الاعتدال.

الدين
الجنس
الإعتــدال - لأنهم روح الحياة بهذه المعالم
يعم الأمن و السلام والحب.
الأخلاق
السياسة





د / شادية شقروش
جامعة العربي التبسي / تبسة الجزائر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى