أندريه أُركانيا كان أول من رسم ابن رشد "المحكوم بالهلاك الأبدي"، كما قال توما الأكويني، وحدّد بذلك البورتريه العام للشارح الكبير الذى احتفل به العرب، لكن نبذه فقهاء الإسلام، فارتحل ليرحّب به الأوروبيون، لكن نبذه الأكليروس المسيحي.
التصاوير الجهنّميّة احتلّت مكاناً عميقاً فى خيالات الأمم، فى هوّةٍ حالكة السواد وراء الكلام الذى يمكن سماعه، وراء الرغبات التى يشحذها الرجاء الحار، ووراء التجدّد بالاعتذار، وهى السمة التى تميّز أبناء الحياة.
فى زمن لم نعد نشعر به، يبدو كما لو لم يكن على الأرض، قبل انقضاء الربع الثانى من القرن الرابع عشر، كان الأهالى فى شوارع روما، وبيزا وفلورنسا وأسِّيز وأرفياتو وبولونى وفِرَّار وبادو، قد نظَموا الحكايات المتناثرة عن الحروب الصليبية فى ملحمة واحدة تُعرض على المسرح، وكانوا يروونها بأشكال مختلفة من مغامرات الإقدام وصور التضحية، وينشدون مقاطع منها فى الليالى المقمرة فى الحانات أو بالقرب من حدائق الاضطهادات العشرة فى الفاتيكان عندما كانت مشرعة أمام المارّة قبل أن يبنى بولس الثالث أسوارها المنيعة ليحصّن بها الدولة شبه الإهليلجية بعد الانتقال من قصر لاتران فى المدينة.
الملحمة المغنّاة لم تُكتب، نُزعت من اللغة، أحيلت إلى صور من خلال الكلام والتمثيل والإيماء. صور تناثرت ثم عادت لتجد طريقها إلى قصائد كثيرة، بعض الصور والاستعارات ما زالت حتى الآن تسكن ألسنة الإيطاليين، ماذا يمكن أن يحدث للغة الأسطورة أكثر من ذلك؟
الحروب الصليبية بدأت بصورة القيامة المسيحية، وهى تنتهى بصورة أرض المعاد اليهودية، هما طرفا عوْدٍ أبديّ، بينهما تاريخُ صُوَرٍ وأشكالٍ تُبتكَرُ للمزيد من التأجيج والتحريض، فللصُّور عملها فى القلوب، كما يقول شهاب الدين المقدسى فى «تاريخ الدولتين» وهو يصف كيف تأجّجت الحرب: «المركيس صاحِبُ صُور، وكان من أعظمهم حيلة، وأشدهم بأساً، هو الأصل فى تهييج الجموع، وذلك أنه صوَّر القدس فى ورقة عظيمة، وصوَّر فيه صورة القيامة التى يحجّون إليها ويعظّمون شأنها، وفيها قبر المسيح الذى دُفن فيه بعد صلبه بزعمهم، وذلك القبر هو أصل حجّهم، وهو الذى يعتقدون نزول النور عليه فى كل سنة فى عيد من أعيادهم، فصوّرَ القبر وصوّر عليه فرساً عليه فارس مسلم راكب وقد وطئ قبر المسيح، وقد بال الفرس على القبر، وأبدى هذه الصورة وراء البحر فى الأسواق والمجامع، والقسوس يحملونها، ورؤوسهم مكشّفة، وعليهم المسوح، وينادون بالويل والثبور، وللصّوَر عمل فى قلوبهم، فإنها أصل دينهم، فهاج بذلك خلائق لا يحصى عددهم إلا الله تعالى».(1)
انتهت الحروب الصليبية بانسحاب جند الرب(2) إلى الغرب، وذلك مع بدء الحروب المغوليّة وتقدّم جيوش التتر من الشرق. كانت الاتصالات والمراسلات التى تقضى بالإطباق على الأرض الوسطى قد تعثّرت بين أباقا خان، وهو ابن هولاكو كبير الخانات الذى دحر القبيلة الذهبية المسلمة، وبين بابا الكاثوليك كليمنت الرابع، وكان الراعى الحيوى لتوما الأكويني. لقد فكر الطوباوى غريغورى العاشر أن يستأنف التراسل مع مشارق الأرض الوسطى، دون جدوى.
مات أباغا خان وبعده بسنوات مات كليمنت الرابع، وشهدت الأرض الوسطى، وهى لا شرقية ولا غربية، اختلاط الأديان وانتشار الإحساس بقرابتها، وأنها من لحم ودم واحد، ولكن شهوة السلطة منعت اتحادها.
فى زمن يوحنا الثانى والعشرين، الذى تولّى بعد شغور الكرسى الرسولى لسنتين، وكان مقيماً فى أفينيون الفرنسية، بدأ أندريه أُركانيا رسم لوحته الشهيرة «الجحيم». أُركانيا نقل الخيال الجهنّمى إلى لوحته مما كان يسمعه كل يوم عن ملحمة التضحيات المقدّسة، وهكذا أنزل رموز الأرض الوسطى إلى درك سوداوى يملؤه العفن والوحل الأسود الذى لا تطهّره النار المستعرة. هكذا كان الأهالى فى روما والمدن القريبة منها يفكّرون فى الأرض الوسطى التى انسحب منها جند الرب ليتركوا المجال شاغراً أمام جيش البابا من كرادلة وأساقفة وقساوسة وشمامسة وكهنة. جميع مدبّرى الرعيّة فى مملكة الرب المحاصرة، وكذلك الفنّانون.
سارداً فى خياله اللامحدود كان أندريه أُركانيا يتنفّس ظلاماً بارداً ويرسم. لا بد أنه أحسّ بالمرض والقرف. لم يرسم فناً خالصاً، رسم رغبةً بابوية عن عذابات النفس البشرية واستخلاص خبائثها يوم العقاب الذى لم يعد يوماً للدينونة، لا غفران بعدُ، من أجل هذا تُرسم جغرافيا الموت بأقوى ما يستطيع الرسّام استدعاءه من حقد مقدّس.
حُفرٌ تتصل بعمق الأرض، ظهر فى أولها آريوس الليبي، وأنصاره من الملحدين، ثم إريغون وأنصاره من السّحرة والعرّافين، ثم يظهر، يقول رينان: «بائعو الأشياء الروحيّة بثمن زمني»، ويأتى المحكومون بالهلاك الأبدى «محمد هو أول من يأتى مقطّعاً إرْباً إرْباً من قبل الشياطين الذين يلتهمون قطع أعضائه على مرأى منه، ثم يأتى الدجّال مسلوخاً وهو حيّ، ثم يظهر الشخص الثالث ملقًى على الأرض ومضغوطاً بمطاوى حيّة ومميّزاً بعمامته ولحيته الطويلة، وهو ابن رشد».(3)
كتب على اللوحة أن هذا الجحيم دربٌ للحقل المقدّس(4)، وحُفظت فى الجزء الثانى من «بيزا المصوَّرة»(5) لألسندرو الموروناوي.
كان ذلك فى زمن تحبو فيه الطباعة الأولى، قبل أن تنتشر، مع يوهان غوتنبرغ، الحروف البارزة والمتنقلة فى أوروبا، وقبل أن يظهر للعالم كتاب «الكاهنات العرافات»(6) فى شكله التعليمي، متبوعاً بخطاب غفران أصدره البابا نقولا الخامس.
هوامش
1- كتاب الروضتين فى أخبار الدولتين، شهاب الدين المقدسى الدمشقي، تحقيق: إبراهيم الزيبق، مؤسسة الرسالة، ط1، 1997. ج1، ص151.
2- جند الرب أو جيش المسيح Milites Christi هو الاسم الذى عُرفت به الجيوش الصليبية.
3- إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب، القاهرة 1957. ص312.
4- Questo a l'inferno del Campo Santo di Pista
5- Pisa Illustrate.
6- Sibylles.
بوابة الحضارات | جحيم ابن رشد.. 1- حدائق الاضطهادات العشر
التصاوير الجهنّميّة احتلّت مكاناً عميقاً فى خيالات الأمم، فى هوّةٍ حالكة السواد وراء الكلام الذى يمكن سماعه، وراء الرغبات التى يشحذها الرجاء الحار، ووراء التجدّد بالاعتذار، وهى السمة التى تميّز أبناء الحياة.
فى زمن لم نعد نشعر به، يبدو كما لو لم يكن على الأرض، قبل انقضاء الربع الثانى من القرن الرابع عشر، كان الأهالى فى شوارع روما، وبيزا وفلورنسا وأسِّيز وأرفياتو وبولونى وفِرَّار وبادو، قد نظَموا الحكايات المتناثرة عن الحروب الصليبية فى ملحمة واحدة تُعرض على المسرح، وكانوا يروونها بأشكال مختلفة من مغامرات الإقدام وصور التضحية، وينشدون مقاطع منها فى الليالى المقمرة فى الحانات أو بالقرب من حدائق الاضطهادات العشرة فى الفاتيكان عندما كانت مشرعة أمام المارّة قبل أن يبنى بولس الثالث أسوارها المنيعة ليحصّن بها الدولة شبه الإهليلجية بعد الانتقال من قصر لاتران فى المدينة.
الملحمة المغنّاة لم تُكتب، نُزعت من اللغة، أحيلت إلى صور من خلال الكلام والتمثيل والإيماء. صور تناثرت ثم عادت لتجد طريقها إلى قصائد كثيرة، بعض الصور والاستعارات ما زالت حتى الآن تسكن ألسنة الإيطاليين، ماذا يمكن أن يحدث للغة الأسطورة أكثر من ذلك؟
الحروب الصليبية بدأت بصورة القيامة المسيحية، وهى تنتهى بصورة أرض المعاد اليهودية، هما طرفا عوْدٍ أبديّ، بينهما تاريخُ صُوَرٍ وأشكالٍ تُبتكَرُ للمزيد من التأجيج والتحريض، فللصُّور عملها فى القلوب، كما يقول شهاب الدين المقدسى فى «تاريخ الدولتين» وهو يصف كيف تأجّجت الحرب: «المركيس صاحِبُ صُور، وكان من أعظمهم حيلة، وأشدهم بأساً، هو الأصل فى تهييج الجموع، وذلك أنه صوَّر القدس فى ورقة عظيمة، وصوَّر فيه صورة القيامة التى يحجّون إليها ويعظّمون شأنها، وفيها قبر المسيح الذى دُفن فيه بعد صلبه بزعمهم، وذلك القبر هو أصل حجّهم، وهو الذى يعتقدون نزول النور عليه فى كل سنة فى عيد من أعيادهم، فصوّرَ القبر وصوّر عليه فرساً عليه فارس مسلم راكب وقد وطئ قبر المسيح، وقد بال الفرس على القبر، وأبدى هذه الصورة وراء البحر فى الأسواق والمجامع، والقسوس يحملونها، ورؤوسهم مكشّفة، وعليهم المسوح، وينادون بالويل والثبور، وللصّوَر عمل فى قلوبهم، فإنها أصل دينهم، فهاج بذلك خلائق لا يحصى عددهم إلا الله تعالى».(1)
انتهت الحروب الصليبية بانسحاب جند الرب(2) إلى الغرب، وذلك مع بدء الحروب المغوليّة وتقدّم جيوش التتر من الشرق. كانت الاتصالات والمراسلات التى تقضى بالإطباق على الأرض الوسطى قد تعثّرت بين أباقا خان، وهو ابن هولاكو كبير الخانات الذى دحر القبيلة الذهبية المسلمة، وبين بابا الكاثوليك كليمنت الرابع، وكان الراعى الحيوى لتوما الأكويني. لقد فكر الطوباوى غريغورى العاشر أن يستأنف التراسل مع مشارق الأرض الوسطى، دون جدوى.
مات أباغا خان وبعده بسنوات مات كليمنت الرابع، وشهدت الأرض الوسطى، وهى لا شرقية ولا غربية، اختلاط الأديان وانتشار الإحساس بقرابتها، وأنها من لحم ودم واحد، ولكن شهوة السلطة منعت اتحادها.
فى زمن يوحنا الثانى والعشرين، الذى تولّى بعد شغور الكرسى الرسولى لسنتين، وكان مقيماً فى أفينيون الفرنسية، بدأ أندريه أُركانيا رسم لوحته الشهيرة «الجحيم». أُركانيا نقل الخيال الجهنّمى إلى لوحته مما كان يسمعه كل يوم عن ملحمة التضحيات المقدّسة، وهكذا أنزل رموز الأرض الوسطى إلى درك سوداوى يملؤه العفن والوحل الأسود الذى لا تطهّره النار المستعرة. هكذا كان الأهالى فى روما والمدن القريبة منها يفكّرون فى الأرض الوسطى التى انسحب منها جند الرب ليتركوا المجال شاغراً أمام جيش البابا من كرادلة وأساقفة وقساوسة وشمامسة وكهنة. جميع مدبّرى الرعيّة فى مملكة الرب المحاصرة، وكذلك الفنّانون.
سارداً فى خياله اللامحدود كان أندريه أُركانيا يتنفّس ظلاماً بارداً ويرسم. لا بد أنه أحسّ بالمرض والقرف. لم يرسم فناً خالصاً، رسم رغبةً بابوية عن عذابات النفس البشرية واستخلاص خبائثها يوم العقاب الذى لم يعد يوماً للدينونة، لا غفران بعدُ، من أجل هذا تُرسم جغرافيا الموت بأقوى ما يستطيع الرسّام استدعاءه من حقد مقدّس.
حُفرٌ تتصل بعمق الأرض، ظهر فى أولها آريوس الليبي، وأنصاره من الملحدين، ثم إريغون وأنصاره من السّحرة والعرّافين، ثم يظهر، يقول رينان: «بائعو الأشياء الروحيّة بثمن زمني»، ويأتى المحكومون بالهلاك الأبدى «محمد هو أول من يأتى مقطّعاً إرْباً إرْباً من قبل الشياطين الذين يلتهمون قطع أعضائه على مرأى منه، ثم يأتى الدجّال مسلوخاً وهو حيّ، ثم يظهر الشخص الثالث ملقًى على الأرض ومضغوطاً بمطاوى حيّة ومميّزاً بعمامته ولحيته الطويلة، وهو ابن رشد».(3)
كتب على اللوحة أن هذا الجحيم دربٌ للحقل المقدّس(4)، وحُفظت فى الجزء الثانى من «بيزا المصوَّرة»(5) لألسندرو الموروناوي.
كان ذلك فى زمن تحبو فيه الطباعة الأولى، قبل أن تنتشر، مع يوهان غوتنبرغ، الحروف البارزة والمتنقلة فى أوروبا، وقبل أن يظهر للعالم كتاب «الكاهنات العرافات»(6) فى شكله التعليمي، متبوعاً بخطاب غفران أصدره البابا نقولا الخامس.
هوامش
1- كتاب الروضتين فى أخبار الدولتين، شهاب الدين المقدسى الدمشقي، تحقيق: إبراهيم الزيبق، مؤسسة الرسالة، ط1، 1997. ج1، ص151.
2- جند الرب أو جيش المسيح Milites Christi هو الاسم الذى عُرفت به الجيوش الصليبية.
3- إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب، القاهرة 1957. ص312.
4- Questo a l'inferno del Campo Santo di Pista
5- Pisa Illustrate.
6- Sibylles.
بوابة الحضارات | جحيم ابن رشد.. 1- حدائق الاضطهادات العشر