ابراهيم درغوثي - المجنون.. قصة قصيرة

باكرا، قبل طلوع الشّمس ينهض من فراشه. ينفض عنه بقايا النّّوم ويقصد الحنفيّة العموميّة المنتصبة أمام المنزل. يتأمّل برهة الأواني المصفوفة على طول مائة متر أمام الحنفيّة ثمّ يتخطّى السّطول الكبيرة والصّغيرة ويقف بطوله الفارع ولحيته الكثّة في رأس الطّابور. يتخلّى له الجميع كعادتهم كلّ صباح عن المكان. البنات يهربن في كلّ الاتجاهات. والنّساء يتوارين وراء خجلهنّ.والرّجال يبسملون ويحوقلون ويلعنون الشيطان الرّجيم. والرّجل يتفل ذات اليمين وذات الشّمال ثمّ ينـزع قميصه وسرواله الطّويل ولا يبقي إلاّ على تبّان يغطّي سوْأته ويبدأ في طقوس الغسْل الصّباحي. يتناول الأواني القريبة فيملأها ماء. ويرفع السّطل عاليا بيده اليمنى. ويسكب الماء على أمّ رأسه .
فيغمر كامل بدنه. يتصبّب على كتفيْه وصدره واليتيه ورجْليه. فيمدّ يده اليسْرى يفرك بها وجهه وبطنه وما بين فخذيْه ثمّ يغادر المكان.
هكذا حاله في كلّ الفصول. لا يرهبه برد الشّتاء ولا يزعزعه عصف الرّياح الثلجيّة.
بعد هذا الغسْل يدخل داره. فليبس ثيابه. ويفطر. ويقصد إدارة شركة فسفاط قفصة. يمشي مسرعا يحثّ الخطى حتّى لا يفوته وقت الدّوام، فيصل دائما قبل الجميع. يقف لاهثا أمام البوّابة الكبيرة. يفتح الباب لسيّارات المهندسين والموظّفين ودرّاجات العملة والزّوار .
ويُرابط أمام البوّابة كامل وقت الدّوام .
يمرّ من أمامه المدراء فيحيّيهم بانحناءات من رأسه . ويقف أمامه العملة فيسألهم عن أحوالهم وعن أخبار الأولاد والأصدقاء.يسأل عمّن نجح في امتحاناته، وعمّن مات في نشرات الأخبار. ويسأل عن العرب متى يحاربون؟ وعن الجيران الّذين هاجروا إلى مدن أخرى بعد أن ضاقت بهم الحِيلَ في هذا المنجم الّذي افتكّ هدير الآلات لقمة العيش من أفواه أبنائه فهجّ الجميع إلى رحمة اللّه الواسعة.يسأل عن ثمن اللّحم، وعن بنات الهوى، وعن الرّجال الّذين ماتوا تحت الرّدْم وعن... ويرتفـع "زمّور" سيّارة فيندفع إلى البوّابة يفتح بابها على مصراعيْه أمـام سيّارة المدير. ويقف مهذّبا كالطّفل الصّغير. وتجانبه السيّارة فيبتسم له المدير ويسلّم عليه بأدب. فيغلق البوّابة ويظلّ يتابعه بنظاراته إلى أن تبتلعه الرّدهات. حينها يعود إلى كرسيّه. ينفض عنه غبار زمن آخر. ويجلس حاملا رأسه بين يديْه.
* * *
كلّ من في الإدارة يعرف حكاية هذا الرّجل الذّي ترك في بداية الستّينات محراثا تجرّه الحمير والبغال في سهول باجة وجاء إلى هذا المنجم. في تلك الأعوام عَظُمت حاجة الشّركة إلى العمّال فبعثت متعهّدين يبحثون لها عن الرّجال في طول الأرض وعرضها.ووصلت دابة من حديد إلى دشرتهم. دابة يقودهــا "الأعور الدّجال". نزل صاحب الدّابة في سوق البلدة ونزل وراءه تابعه.
تكلّم الدّجال. وكرّر وراءه صاحبه الوعود بالجنّة لمن يركب دابّة الحديد.
وَعَدَ الرّجال الذّين تحلّقوا حول الحافلة بأنهار من العسل واللّبن لذّة للشّاربين.
ووعدهم بالخمرة يُسْقَوْنَهَا في كؤوس من عسجد.
وبالدّنانير تذروها الرّياح.
ووعدهم بالتّفاح يتحوّل بين أيديهم إلى حوريات في مقتصديّة الشّركة. وبالمنّ والسلوى. فجرى وراءه النّاس. خرجوا من كلّ حدب وصوْب واصطفّوا أمام دابّته.

اختار «صاحبُ الدّابه» الشابَّ القويّ والكهلَ الجسور ووعد البقيّة بالخيرْ والعافية في رحلة قادمة.
وزمجر محرّك الحافلة ففرّت الحقول من وجوه الطّامعين لتنكشف أمامهم السّهوب الجرداء والجبال الكالحة .
يا اللّه! يوم نزل من بطن الحافلة أربكته المفاجأة.
بحث عن الجنّة فلم يجدها. ونادى"رضوان" فجاوبته الأصداء في الوديان السّحيقة. وتكرّر النّداء. وتكرّرت الأصداء .
ولا مجيب .
وتجوّل في القرية فرأى أزقّة متربة يعرفها في بلدتهم.وشاهد أطفالا حفاة تركهم وراء ظهره
وجاء المساء فحُشر في ملجأ جماعي مع رجال لا يعرفهم. تفوح من أفواههم روائح الخمرة ويرطنون بكلام بذيء. ويشخرون ويبكون ويتأوّهون ويتعاتبون كامل اللّيل. ولا يهدأ الملجأ إلاّ عند انبلاج الفجر.
وحدّثته نفسه بالعودة إلى محراثه لكنّه خاف أن يعود خائبا .
خاف أن يضحك منه الرّجال. وتهرب النّساء من شبابه.
هو الموعود بالحنّاء في أكفّ الجميلات .
وبالكحل في عيون الصّبايا.
وبالطّار والدّّف والطّبل والمزمار .
وبرقص الفرسان على صهوات الخيْل .
وبالزّغاريد والغناء من حناجر الأحبّة .
فدخل المغامرة بلا وجل .
قال: الرّجال يموتون مرّة واحدة. وظلام الدّواميس سأعتاده كما اعتاده غيري من رجال الجبل . والعمر مرّة . ولن أفرّط في كرامتي .
ومدّ ساعديْه يملأ العربات بالفسفاط والتّعب. فسال العرق على جبينه ودخل حلقه. وأحسّ بطعمه المالح فلذّ له هذا الطّعم. لذّ له ذلك فأدمنه. وأدمن صحبة أصدقاء الموت اليومي والعمل الشّاق في هذا المكان الرّهيب.
***
وصِرْتَ يا صاحبي تحمل على ظهرك كلّ يوم ملايين الأطنان من الصّخور المتحفّزة لدهسك تحت ثقلها. وأنت تحارب في قلب الجبل بفأس ومجرفة وضوْء فانوس بدائيّ.
تدخل كلّ يوم مغارة "علي بابا" تذكر شهاداتك أمام الباب:
- أشهد أنّك وحدك ربّ الأرباب وأشهد أنّ محمدا عبدك الأمين .وأشهد أنّني طامع في رحمتك فاحمني من كلّ مكروه يا اللّه! يا قادر! يا رحيم!
وتلج المجهول!
لاتدري متى يصل اللّصوص لقطف روحك وزرع الخراب في بدنك. يحترق الدّم في عروقك كلّما هزّ انفجار ركن من أركان المنجم. تتوالى الانفجارات داخل دماغك بعد أن يهدأ تهاطـل.
الصّخور والتّراب. وتحمحم خيول اللّصوص أمام المغارة فتلتفت يمنة ويسرة تبحث عن الكنوز. وتحاول الهرب لكن رجْليْك تغوصان في التّراب المدفون في باطن هذا الجبل منذ ملايين السّنين. وتنغرز في لحمك أسنان الجبل. أسنان حيتان ضخمة صمدت كلّ هذه الدّهور ولم تتهرّأ. وتقودك هذه الأسنان إلى عجائب كثيرة أخرى: سلاحف متحجّرة، ودلافين لا تنقصها إلاّ الرّوح لتطْلِق في وجهك بسْبستها الحنونة، وجذوع أشجار وأصداف بحريّة وغناء حوريات وهسيس أمواج وصراخ بحّارة .
وتظلّ تبحث عن ذهب المعزّ وكنوز الرومان والبربر وشيوخ العشائر الذّين مرّوا من هنا "وأكسيل" البربري، وجيش الكاهنة وذياب الهلالي وخليفة الزّناتي. وتظلّ تبحث داخل هذه المغارة العجيبة. ويدقّ قلبك لكلّ وخزة سنّ. وترتجف لكلّ انفجار. تذكر"الجيلاني" الذّي أخرجته من تحت الرّدم والدّم يسيل من أنفه وفمه. وتذكر"حميّد" الذّي جمعت مخّه في برّاد الشّاي. وتذكر"الفاتح" الذّي تهشّمت عظامه تحت صخرة ظللتم تحفرون تحتها يوما وليلة.
وتذكر...
وتذكر...
وتذكر...

وأنت ترفض أن تعود إلى الأهل قبل أن تملأ حقيبتك بفساتين العرس. وتملأ جيبك بثمن الثّور. وتملأ غرائرك بالقمح.وتملأ عيْني"عائشة" بالذّهب وبلطائف كثيرة أخرى.

* * *
عائشة! يا عائشة!
"عائشة" ! أذكرها يوم جئت بها من"باجة" عروسا ترفل في زينتها، شهيّة كالعسل البرّي.
أسكنتها في حيّنا فعشقها كلّ شباب الحي. وفاز بها "الأعور الدجّال". غرّر بك "صاحب الدّابه" أطمعك بالترقيات وزاد في راتبك. وبوّأك المسؤوليّة على رفاقك ولكنّه جعلك تعمل في ورديّة اللّيل. فخلاَ لَهُ الجوّ. أطمع "عائشة" بما ليس لها به علم وسألها مفاتيح جسدها.لكنّها امتنعت ونفرت منه أوّل الأمر. وهدّدها بما ليس لها به علم . فسألتك عن الموت. فقلت لها إنّه يستقبلك كلّ يوم داخل الدّواميس. وخافت أن يقطف لصوص مغارة "علي بابا" روحك عندما هدّدها"الدّجال" بأنّه قــادر عليك، وبأنّ خراطيش "الأربعين حرامي" في مِخْلاَتِهِ. فصار يومها لك وليلها له.
وجاء الأولاد والبنات، والخير العميم، والدّار الكبيرة، واللّحم في الغداء والعشاء. وازدانت"عائشة" بعقود الذّهب. ولبسـت أحْلا الفساتين وأنت غافل عن الدنيا وما فيها إلى أن عيّرك خصيم.
قال لك: «سأعيش رجلا! وأموت رجلا! أمّا أنت فاسأل خارج الدّاموس عن فخذي "عائشة".»
وضحك رجال ورديّة اللّيل العاملين معك حتّى استلقوا على ظهورهم. وأنت تراقب المشهد وتعجب من ضحكهم. ويزداد ضحكهم فيزداد عجبك إلى أن هزّ سمعك صوت الخصيم مرّة أخرى:
- بالْعرْبيّةْ أنت ديّوث! أنت"طحّان"يا سي النّاجي!
وارتفعت القهقهات من جديد. فرأيت العالم يشير إليك بملايين الأصابع.أصابع تدينك. تدين تواطؤك مع "الأعور الدّجال". تدين صمتك المريب عمّا يجري تحت سقف"الفيلا" الجديدة في الحيّ المسيّج بالفلّ والياسمين والكلاب والعسس.
وعدت إلى دارك. عدت مهزوزا، مثقوبا بآلاف الطّلقات، تشتعل في دماغك نيران الجحيم.
عدت إلى دارك على غير ميعاد فمنعك العسس من دخول الحيّ. وأطلقوا صفّارات الإنذار. فارتميت عليهم بعنف الحيوان البدائي. ضربتهم بيديك وبرجليك وبرأسك. وتكالب عليك العسس فازداد هياجك وجنونك. وخرج صوتك مكلوما:
- أتركوني أذهب إلى داري أيّها الأوباش! كيف تمنعون عنّي زوجتي يا أولاد الكلب ؟
وانفلتّ. وتخطّيت الحصار. ووجدت نفسك داخل البيت. فأيقظت الصّغار ورحت تتفرّس في وجوههم.
أنف هذا شبيه بأنف"صاحب الدّابة" !
وعينا هذه كَلَوْنِ عيْنيْ "صاحب الدّابة" !
ولون هذا كَلَوْنِ "صاحب الدّابة" !
وشعر هذا كَشَعْرِ "صاحب الدّابة" !
وبدأت بالصّراخ. فاشتعلت فوانيس المنازل المجاورة لدارك. وتجمّع خلق كثير أمام بابك. وهلّت"عائشة" على الجمع خفيفة كريش النّعام، رشيقة كغصن البان، لطيفة كهبّة النّسيم.
قالت:
- لقد جُنّ زوجي! أطلبوا له سيّارة الإسعاف!
وازداد صراخك حدّة وأنت تجري وراءها.
ثمّ وقفت مسيّجا بالعسس. وبدأت تقهقه قهقهة عنيفة.
وجحظت عيناك.
ووقعت على الأرض.
* * *
ارتفع "زمّور" سيّارة، فوقف حارس الإدارة وذهب يفتح البوّابة. دفع الدّفّتين ذات اليمين وذات الشّمال وأزّ محرّك سيّارة المدير.
فجأة وقف "النّاجي" هائجا وهو يصيح:
- من أمرك بفتح الباب يا كلب! أنا صاحب الأمر والنّهي هنا! أنا من يفتح الأبواب ويغلقها!
أنـا...
وارتفعت في وجه المدير قهقهة عالية.
قهقهة تصمّ الآذان...


ابراهيم درغوثي - تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى