الصادق يوسف حسن - تَسرُب روح

أي شيطان حمل هذا الشر إلينا السماء منقبضة ملبدة بالغيوم كأنها تستجمع طاقتها للبكاء ترقب ذبولاً تحت ناظريها ، كانت حوافر خيل الفراغ تنفذ عبر عيوننا المغمضة وتقتحم أسوار هدوء الليل . الأشجار متشابكة والسكون يعم المكان وكمين الموت يحرك اللحظات ببطء شديد وكأنه يوفينا نصيب المغادرة أنا ورفيقي الشيخ السبعيني كليل البصر ذو الوجه الذي يناوب الشمس في النور نزحف نحو الفخاخ. مع أول صيحة والتحام تلاقت الأعين الخضراء والزرقاء وأخرى تشبهنا أو أنها كانت تشبهنا لكنها مكللة بجدائل العار ممرغة في وحل الذل. حدقتٌ مليا لا أسمع شيئا لا أرى إلا تقلص المسافة بيني وبين فوهة بندقية سوداء - دوامة تمتص ألوان الحياة في ثقبها الأسود حيث تتلاشى قدرة الإبصار وتموت الحياة. الرصاصة تقطع الرحلة وأتذكر عيون أقام فيها الخجل وتقاطرت منها الدموع تخطفني إلى البعيد لكن لا وقت لهذا الان حدثت نفسي ، وان لم يكن هذا وقتها فمتى ستحفل باحساس اخضرار القلب ، ابتسمت ورفيقي يهمهم بسلاسل حروف تحمل ثقل دعاء النصر بالفناء الذي بعده طول الوجود . الكلمات تخرج من رحم الأرض دعوات وتمائم ذكرى تموج في فراغ تسبح فيه أصواتنا إلى ابد التبدد تتقطع بحشرجة وزفرة أخيرة " الموت حق والحياة باطل " . رصاصتين سكنتا بجسدي وسكن إيقاع الكون يهما صوت من بعيد يتلفح نبرة الأجداد يقول : " لو كنت اعلم رضاك في البحر لكنت أغرق، ولو كنت أعلم رضاك في النار لكنت أُحُرقَ ولكني أعلم رضاك في الجهاد - أقبلنا أليك فأقبلنا في الملكوت زهدناها واليك قَصدُنا نحو التراب بوابة النور يا نور نورنا بك واحشرنا أليك وامددنا بوافر المحبة زاد الطريق ....".

انتهى الهاتف و أنا ممدد تخضب ثيابي بحناء الرحلة ومهر البقاء ، الأقدام الغريبة تتقدم كانت ما تزال في فمي تمرة لا استطيع أن امضغها جراحي تنزف الألم والموت يسحبنا في ثقل إلى المغادرة ، ما تزال بي أنفاس لا جرح مميت إلا أن الدماء تنزف وتتسرب معها مبررات الحياة رؤيتي ضبابية والملامح بدأت تختفي لم أحس بشيء إلا وأنا اقذف في خندق ورفاقي يرقدون فلا أسرى القبور تتسع الجميع الأحياء والأموات . ................ أظلمت الدنيا والأنفاس تتسرب خارجة من الخندق الحياة تسحب حبالها من هذه البقعة الموحشة السواد والشمس تبكي على فراق قاع الخندق وعلى تفاصيل وجوه عابسة واعين تنكمش وهي تبث بنظرة حادة سر الكبرياء للشموس. لا أحد اختبر هذا كنت أتلصص معاني الوجود وأسراره وأتذوق طعم الموت والغيبة ببطء عجيب لا أحد يشعر بالموت غير الميت لا احد يعرف إحساس الفراغ لا احد جرب إحساس النظر إلى اللا شيء أو أن تنطوي الأرض وتحتضنك إلا كما يحتضن التمر النوى كنت اشهد تلك الأحاسيس ململماً ما تبقى من معاني النظر لم أكن اشتاق الحياة وأنا بين التراب وأخر نقطة دم تمتزج بذرات التراب كان كل شيء يتلاشى – أسناني ذات الابتسامة البارزة والأنين من غور الجراح وبقيةُ أنفاس تتبدد أمسكتُ يد طيفها وأنا في معية الملائكة كما أظن ساعة رمل الحياة تتقاطر ذراتها نحو الأسفل أتتني والأرض حولها سندسية خضراء وملابسها مسدلة بسواد مطرز بخيوط الذهب تبرق وتطيل في البريق للمودع كنت أهم بقول كلمة بفمي لولا التراب وفي آخر قوة لي ابتلعت التمرة ونواها كاملة ورقدت بجوفي كما رقدت انا بجوف الأرض ..

ظللت ممدا مع أصدقائي لا أمل من سؤال الملاك عند حضوره عن أخبار من فوقي لكن أخبارهم كانت مهزومة تنقل الألم إلى مرقدي حتى موعد التفتح حيث شقت التمرة طريقها وهي تزيح بلهفة عظام القفص الصدري مانحة ظهري طقطقة لم ينلها منذ دهر من الزمان . كان إحساس جميل عندما أطل رأس التمرة إلى الهواء كانت الأرض والنسيم تنساب إلى أعماقي وتنقل لي حال الحياة. تحضرني المشاهد دوما الأفق الداكن والسحب الركامية التي تتدلى فوق رؤوسنا الهواء البارد ورائحة المطر العالقة بالأنوف كنا نحن واليقين والخندق ولحظات الانتظار والطعنات المتلهفة لتذوق الموت والجراح ، أضحى المكان كثيف العشب ما تبقى من الحديد غاص في الأرض وطمرت كسِر دفين صرت أتقلب في ضلوعي ، قلبي محفوظ برطوبة المكان أمضيت أعواما حتى تستقيم التمرة نخلة تتمايل مع الريح الآن بطول تستريح الشمس على هامته ... آه لو كان لي أن أتمطى لأحتضن الحياة وامنحها قبلة على رؤوس الصبية الذين يمرون دوما بالمكان لكني كنت وما أزال اشحذ الزاد للرحلة المؤجلة ومن تعلق الروح يتطلع في حاضنها الطيني . بقيت لأجل لحظة اكتشف فيها سر الحياة في تلك الغمرة بين الوجود والطريق إلى الأبدية لا إلى "جنات الفاليهالا حيث المحاربون يشربون ويتقاتلون حيث يرقد المحارب وعلى عينه وقطع النقود على عينيه كقذارة تلقيها الدنيا على جثته أي تعزية تلك وأي مصير للغزاة وأي موت " . لم أكن أقاوم كما كان حالي دائما أنا في حضن الأرض كان طلبي من الملاك الذي زارني وأنا في أول أيامي حين كانت جروحي متدفقة ومسامات التراب تسرب إلينا خيط من نبض الحياة – لم أسمع منه إجابة حينها ولا ادري إن كان الزمن عندي كما الحقيقة عند من فوقي أو أن زمانهم اقل , كنت أمل من طول الرقاد ومن عيوني المغمضة وحين افتحها عل مشاهد محفورة في الحبل الباقي من عقد ذاكرتي يأتي ثلثاها من ساحة المعركة .

كنت أتساءل وصديقي لا يرد الأرض تمتص اخر قطرات السماء حتى تروي قوالب الروح وتبقيها طازجة كنت ارقب قيام الساعة ولي فسائل وأنفاس وعروق في كل الأرض أنني اُكسِبُ ذرات التراب من حولي معنى الاحتضان لحين إزاحة ستار "اللا أين ". استعجلني الملاك وانا ألمح الأطفال قادمين صوب نخلتي وددت لو ان لي قدرة على الاتكاء والنظر إليهم بتمعن لعلي أحادث بهم رفاقي هناك استجابت دعوتي ميعاد رحيلي قد آن الأرض تتلبد بالغيوم والأطفال يرقبون السماء كنت كنت أعرج رفقة الملاك على سلالم السماء اذكر أنني كنت أفارق النوى وجذوري الباقية من عظامي وجذور نخلتي الإنسية تتشبث بي انتابتني ارتعاشه المحتضر والباكي على حضن المسافر كنت أفارق نخلتي اسقط تمراً في حجر الطفل الذي يسند ظهره إلى جذع النخلة كنت أغلي وشيء مني هنالك في الثمار وفي أنفاس القادمين شيء اتركه وأنا أعرج كنت لأطلب من الملاك أن يثقب لي كوة أتطلع فيها من العلو إلى دار الدنيا لكني استحيت من ذلك وطلبت أن يفتح عليهم من نور الأبد أعلم ان كلماتي تغيب عنهم لكن تراتيلي تعلو هناك ..


* تَسرُب روح
الصادق يوسف حسن
قصة فائزة بجائزة الطيب صالح للشباب (مركز عبد الكريم مرغني)
الدورة السابعة .. 6/4/2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى