منصور الصُويّم - دوسنطاريا

في اليوم الخامس، انسحبت الكتائب المتمترسة في العمق وتركت الساحة الخربة لكتائب الرايات الرمادية، تقدمت الكتائب الرمادية في شكل قوس كبير مطوقة الدخان والغبار والإسمنت المتداعي، توقف جيب مكشوف، قفز ضابط نحيل وأمر جنوداً أكثر نحافة منه بالانتشار: «اقتلوا حتى الظلال». قفز الجنود المذعورون صوب ركام المباني المنهارة محتضنين رشاشاتهم الصغيرة، جندي «ما» قفز مترنحاً، بدا وكأنه سيسقط، مترنحاً سار صوب الحطام المتداعي. كان يسمع صوت الرصاص والصرخات المكتومة وهو يقترب من بقايا مبنى ما، تكسرت حوائطه وبرزت أسياخه وشظايا زجاجه وتحول إلى مزبلة إسمنتية، بقبضته تمسك الجندي الـ «ما» بإحدى الأسياخ البارزة، كانت أنفاسه تتهدج وعرق غزير يتقطر من جسده ويبلله. أسقط السروال الكاكي وقعد. أحس بالألم حارقاً يكوي أحشاءه، تقلص بأكمله وسائل أصفر شفاف يندفع من مؤخرته، أحس بجسده يضيع ويتبخر، غرز مقدمة السيخة في جبينه وأحشاؤه تتمزق وتتلوى لمرة أخرى، صرخ بصوت مبحوح والسائل الأصفر يتدفق كالرشاش، ينتشر على ساقيه ويلطخ البوط الأسود ويرسم على الإسمنت المتكسر خرائط مشوهة ويسيل متقطراً.. هدنة قصيرة عاشها المحارب وأحشاؤه تستريح وهواء خفيف يضرب جسده المبلول بالعرق، أحس بانغراس السيخة في جبينه، تنبّه ثم أحس بغريزة المحارب بأنه مراقب، أطلق عينيه برفق وحدق في الظلام أمامه، برهة وتيقن، عينان، حدق أكثر عينان وجسد مسجى، أكثر، جندي من الفصيلة العدوة ممدد تحت ركام الإسمنت، تأمل الجسد المحطم بانذهال، لا يبين منه شيء سوى الصدر ويد وحيدة وعينان تحدقان به. انشبكا في التحديق لمدى خارج مدارات الحرب ودوي الرصاص والسفك اليومي، انكسرت عينا الجندي الـ «ما» المنحشر أسفل الإسمنت والسيخ والزجاج، مالتا نحو الأرض، انكسرت معهما عينا الجندي الـ «ما» المنحشر تحت جمر أحشائه الملتهبة، مالتا صوب الأرض. كان السائل الأصفر الشفاف قد خط مجرى نحيلاً وانحدر متعرجاً صوب الجسد المحطم. مدّ يده، مال بجسده المحموم، جعل كفه حاجزاً بين الوجه والسائل الشفاف الأصفر، جرف النثار، التراب والسائل الأصفر، بنى بكفه سداً ثم أغمض عينيه ودوار يجتاحه، سقط بمؤخرته العارية على الأرض، ثم سمع النداء: «اسرع، تحرك.. الطائرة». أبصر الزميل ينحدر متدحرجاً باتجاه الجهة المقابلة والرشاش الصغير في يده، نهض متطوحاً، سال السائل الأصفر الشفاف وانساب على ساقيه، تحرك ممسكاً بالكاكي، ومؤخرته مكشوفة تواجه عينين مرهقتين تبدآن الآن بالانطفاء.. جندي «ما» في الجبهة الشرقية للمدينة المحترقة، كان يتحرك متعثراً ببقايا الطوب وشظايا الزجاج ونثار الإسمنت، طائرة «ما» ظللته، حدق في المعدن المتوهج وهو يفرد يديه، همس: «الطائرة». دوى دوي حاد بأذنيه، ترنح.. جندي «ما» ترنح وتهاوى فوق ركام الإسمنت عند الجبهة الشرقية للمدينة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى