إعتاد ( دحام ) ان يطرق باب منزل عائلة (حسان ) بين الحين والاخر، عندما يبلّغ من قبل دائرته في تعزيزالمعلومات الامنية التي تحتاجها بشكل دوري ، في استمارات ورقية محفوظة في حقيبة سوداء تآكلت اطرافها.
وجه دحام يحمل رعونة الواقع المهتاج والمأزوم ، عيناه رماديتان تعلنان عن بلادة وحقد مرير ، كان يتلعثم ويزدرد كلامه ازدراداً ، كأنه يتحدث بسخرية الرذيل الذي يرى ان يمتلك ادوات اخرى غير منظورة او مقبولة من قبل الاخرين ، لكنها عدّته في المتابعة والابتزاز.
منزل حسان ، يأتي تسلسله الرابع على يسار شارع 6 من حي المرادية ، كان منزلاً تنتشر الالوان المنسجمة على واجهته ، قبل ان يختفي او يهرب اويعتقل ابناء حسان ، كان سياجه يزدحم بأغصان واوراق اشجار الزيتون والنارنج العابرة للسور الخارجي نحو الجهة المقابلة من الشارع ، نموذج مألوف بين البيوت التي شيدت بزمن واحد بكلف زهيدة ،غير مختلف عنها في الطراز المعماري.
في الجهة المقابلة لمنزل حسان ، نخلة باسقة تتسابق نحو الشمس لولا ان بعضا من جذعها يلاحقه الهرم بسب العث الذي نخر سيقانها .
كانت هناك نسوة يتحركن ببطىء في الشارع استيقظن تواً من النوم ، يتجهن نحو مخبز الحي الذي يحتل ركناً قصياً من الشارع ، واطفال طغت اصواتهم على حركة المارة ، مازال النعاس يثقل جفونهم ينتظرون موعد افطارالصباح لينطلقوا للعب الكرة.
بدأت درجة الحرارة بالارتفاع التدريجي بعد ان اوشكت الشمس بالارتفاع عن نهايات البيوت العالية وانسحب الظل الخفيف نحو الزوايا الحادة التي يشكلها الرصيف الاسفلتي للشارع مع اسس الجدران.
تقدمت الام نحو الباب الخارجي بخطى بطيئة بعد سماعها طرقاً متواصلاً على الباب ،
ادركت إنها لوحدها في المنزل ، ليس سوى الصور التي علقها الأب والابناء على الجدران ترد وحشتها ، اتجهت نحو الخارج وهي تحني رأسها الى الامام ، لم تبد اي ارتباك حين وقع نظرها على القادم ، نظرت اليه من اسفل حاجبيها ، بعد ان أحكمت لف فوطتها السوداء على الجانب الايمن من رأسها ، إذ شعرت بتهدلها على كتفها حينما اسرعت بالنهوض ، كان شحوب وجهها ونحولها يمنحانها رقة خاصة ، تومىء بمزيد من الحنو والعناء ، يستطيع المتفحص بشفتيها ان يقيس مقدار الجفاف الذي اصابهما بسبب العطش ، لانها قررت صيام المتبقي من عمرها ريثما يعود الغائب ، لاندري مقدار عذابها ، لكنه ليس عذابا اعتياديا ، هكذا يهمس الناس لانفسهم ، حينما تتطلع نحو الباب بعينين مشبوحتين للقادم المنتظر ، فيأتي صوتها المفجوع مثل ناقوس تتواصل ضرباته في اخر الليل.
يداها النحيلتان تمتدان نحو الباب بثقة وشجاعة على الرغم من زحف الشيخوخة في قسماتها وفي عينيها ذكريات مؤلمة وقاسية.
– ماشاء الله ، لقد كبرت يا دحام ، تعودنا عليك مذ كنت صبيا . تقف الام أمامه بصلابة وهو يحاول تدنيس عتبة الباب ، حملقت بوجهه بضراوة فما لبث ان تراجع الى الوراء قليلا ، وضعت يدها على حنجرتها كما لو ان عليها ان تخفف الماً ، فرأى عينيها تبصره بأزدراء وكراهية.
بادرها بالسؤال كأنما يريد ان يسلبها شجاعتها:
حجيه، ما اخبار(س) و(ص)؟ ساعديني ارجوك.
نظرت اليه بعنفه وصفاقته بأستغراب ، لم تكن تتخيله ، فأجابته بنبرة مطمئنة وواطئة وجسد يرتعش لتفاهة السؤال، لأنها إعتادت سماعه مئات المرات.
كيف تريدني ان اجيبك ، وترغمني على المساعدة، قبل ان اعرف القضية التي جئت
من اجلها حقا ؟ لقد غبت عنا لفترة طويلة ،حتى اننا بتنا نتساءل عن مغزى هذا الانقطاع ،وتأخذنا السخرية احيانا الى القول :ان مكروها ربما اصابك ، فمنعك من تفقد احوالنا ورصد حركاتنا ومعرفة المتغيرات الي طرأت على واقعنا :
ــ حجية تذكرت فعلاً ، هل من ولادات ، أو وفيات جديدة وقعت في عائلتكم .. أو ربما سافر أحدكم الى الخارج بدون علمنا ..
ــ أطمئن … لم تسجل أية حالة مما تذكر.
وأغلقت الباب الخارجي.. بقوة مثل هم انزاح عن صدرها ، في ذلك اليوم المغبر الذي يحمل شراً مريباً ، لتعود لخلوتها وابتهالاتها .. يرفع دحام صوته عالياَ ، بعد أن ابتعد عنها بعدة خطوات :
سأعود اليكِ غداً لاستلم الاستمارة بكامل المعلومات المطلوبة ، وأزف لكِ (بشرى) تنتظريها منذ زمن بعيد !!
د. جمال العتابي
* عن الناقد العراقي
وجه دحام يحمل رعونة الواقع المهتاج والمأزوم ، عيناه رماديتان تعلنان عن بلادة وحقد مرير ، كان يتلعثم ويزدرد كلامه ازدراداً ، كأنه يتحدث بسخرية الرذيل الذي يرى ان يمتلك ادوات اخرى غير منظورة او مقبولة من قبل الاخرين ، لكنها عدّته في المتابعة والابتزاز.
منزل حسان ، يأتي تسلسله الرابع على يسار شارع 6 من حي المرادية ، كان منزلاً تنتشر الالوان المنسجمة على واجهته ، قبل ان يختفي او يهرب اويعتقل ابناء حسان ، كان سياجه يزدحم بأغصان واوراق اشجار الزيتون والنارنج العابرة للسور الخارجي نحو الجهة المقابلة من الشارع ، نموذج مألوف بين البيوت التي شيدت بزمن واحد بكلف زهيدة ،غير مختلف عنها في الطراز المعماري.
في الجهة المقابلة لمنزل حسان ، نخلة باسقة تتسابق نحو الشمس لولا ان بعضا من جذعها يلاحقه الهرم بسب العث الذي نخر سيقانها .
كانت هناك نسوة يتحركن ببطىء في الشارع استيقظن تواً من النوم ، يتجهن نحو مخبز الحي الذي يحتل ركناً قصياً من الشارع ، واطفال طغت اصواتهم على حركة المارة ، مازال النعاس يثقل جفونهم ينتظرون موعد افطارالصباح لينطلقوا للعب الكرة.
بدأت درجة الحرارة بالارتفاع التدريجي بعد ان اوشكت الشمس بالارتفاع عن نهايات البيوت العالية وانسحب الظل الخفيف نحو الزوايا الحادة التي يشكلها الرصيف الاسفلتي للشارع مع اسس الجدران.
تقدمت الام نحو الباب الخارجي بخطى بطيئة بعد سماعها طرقاً متواصلاً على الباب ،
ادركت إنها لوحدها في المنزل ، ليس سوى الصور التي علقها الأب والابناء على الجدران ترد وحشتها ، اتجهت نحو الخارج وهي تحني رأسها الى الامام ، لم تبد اي ارتباك حين وقع نظرها على القادم ، نظرت اليه من اسفل حاجبيها ، بعد ان أحكمت لف فوطتها السوداء على الجانب الايمن من رأسها ، إذ شعرت بتهدلها على كتفها حينما اسرعت بالنهوض ، كان شحوب وجهها ونحولها يمنحانها رقة خاصة ، تومىء بمزيد من الحنو والعناء ، يستطيع المتفحص بشفتيها ان يقيس مقدار الجفاف الذي اصابهما بسبب العطش ، لانها قررت صيام المتبقي من عمرها ريثما يعود الغائب ، لاندري مقدار عذابها ، لكنه ليس عذابا اعتياديا ، هكذا يهمس الناس لانفسهم ، حينما تتطلع نحو الباب بعينين مشبوحتين للقادم المنتظر ، فيأتي صوتها المفجوع مثل ناقوس تتواصل ضرباته في اخر الليل.
يداها النحيلتان تمتدان نحو الباب بثقة وشجاعة على الرغم من زحف الشيخوخة في قسماتها وفي عينيها ذكريات مؤلمة وقاسية.
– ماشاء الله ، لقد كبرت يا دحام ، تعودنا عليك مذ كنت صبيا . تقف الام أمامه بصلابة وهو يحاول تدنيس عتبة الباب ، حملقت بوجهه بضراوة فما لبث ان تراجع الى الوراء قليلا ، وضعت يدها على حنجرتها كما لو ان عليها ان تخفف الماً ، فرأى عينيها تبصره بأزدراء وكراهية.
بادرها بالسؤال كأنما يريد ان يسلبها شجاعتها:
حجيه، ما اخبار(س) و(ص)؟ ساعديني ارجوك.
نظرت اليه بعنفه وصفاقته بأستغراب ، لم تكن تتخيله ، فأجابته بنبرة مطمئنة وواطئة وجسد يرتعش لتفاهة السؤال، لأنها إعتادت سماعه مئات المرات.
كيف تريدني ان اجيبك ، وترغمني على المساعدة، قبل ان اعرف القضية التي جئت
من اجلها حقا ؟ لقد غبت عنا لفترة طويلة ،حتى اننا بتنا نتساءل عن مغزى هذا الانقطاع ،وتأخذنا السخرية احيانا الى القول :ان مكروها ربما اصابك ، فمنعك من تفقد احوالنا ورصد حركاتنا ومعرفة المتغيرات الي طرأت على واقعنا :
ــ حجية تذكرت فعلاً ، هل من ولادات ، أو وفيات جديدة وقعت في عائلتكم .. أو ربما سافر أحدكم الى الخارج بدون علمنا ..
ــ أطمئن … لم تسجل أية حالة مما تذكر.
وأغلقت الباب الخارجي.. بقوة مثل هم انزاح عن صدرها ، في ذلك اليوم المغبر الذي يحمل شراً مريباً ، لتعود لخلوتها وابتهالاتها .. يرفع دحام صوته عالياَ ، بعد أن ابتعد عنها بعدة خطوات :
سأعود اليكِ غداً لاستلم الاستمارة بكامل المعلومات المطلوبة ، وأزف لكِ (بشرى) تنتظريها منذ زمن بعيد !!
د. جمال العتابي
* عن الناقد العراقي