انقطع التيار، فجأة، وأنا في الشارع.
سادت الظلمة، وأحسست أنني-على غير انتظار- أنبعث في هذا الليل.
بدا العالم حولي كأنما ولد من جديد في هذه اللحظة. بدا طازجا وأليفا خلال صفاء الظلمة، حتى أن هواء الليل البارد قد استحال نسيما يرطب جبهتي، ويملأ صدري بالانتعاش.
شعرت على نحو مفاجئ أنني أفتقد الحياة، أفتقد الحياة حقا منذ أمد بعيد. وغشاني اليقين أنني كنت أحيا سنيني الأخيرة ميتا على نحو ما.
شعرت بحاجة هائلة للبكاء، المحرق، وودت لو أجري صارخا ما أستطيع، دون أن يتعرف عليّ أحد في هذه الظلمة.
لكنني اكتشفت المدى اللانهائي من الراحة، في الغناء.
راح صوتي يتعثر، حتى سلست "الدندنات"، ثم انبثقت في فضاء الروح مقاطع الأغنيات الحلوة، البسيطة، البعيدة، التي ظننتها ماتت في نفسي من قديم.
أخذ أدائي يُشجيني كلما جلوت صوتي بالغناء. وكنت أتمادى فأشعر كأني أفلت من مراقبة ما، كأني أُعتق من شيء يكبلني، وأنطلق خفيفا خفيفا في رهافة الظلمة، وبراحها.
انتبهت إلى نفسي وقد بلغ شدوي حد ارتفاع الصوت، فسكت متلفتا أتحسب استغراب الناس الماضين -كأشباح- في الظلمة حولي.
لكن هنيهة خجلي تحولت إلى دهشة عندما أرهفت السمع، واقفا في ظلمة الشارع الكبير.
سمعتُ ما يُشبه همهمات خافتة، ثم تبيَّنتُ النَّغم في تداخل الأصوات، وكأن أفراد فرقة موسيقية –مُختفية في مكان ما- يضبطون آلاتهم قُبيل ابتداء العزف.
رحتُ أُميِّز اختلاف الأصوات والأغاني كلما مرَّتْ بي أشباح الناس في الظلمة: كلُ شبح بصوت، وكل صوت بأغنية، وكل الأغاني كانت مُفعمة بالشجو والشجن.
عدتُ أواصل سيري والغناء، وكان صوتي يرتعش، وتروغ الأغاني، كلما أوجستُ عودة التيار بغتة.
"محمد المخزنجي"
من مجموعة "رشق السكين".
مختارات فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984.
* منقول عن صدى ذاكرة القصة المصرية
سادت الظلمة، وأحسست أنني-على غير انتظار- أنبعث في هذا الليل.
بدا العالم حولي كأنما ولد من جديد في هذه اللحظة. بدا طازجا وأليفا خلال صفاء الظلمة، حتى أن هواء الليل البارد قد استحال نسيما يرطب جبهتي، ويملأ صدري بالانتعاش.
شعرت على نحو مفاجئ أنني أفتقد الحياة، أفتقد الحياة حقا منذ أمد بعيد. وغشاني اليقين أنني كنت أحيا سنيني الأخيرة ميتا على نحو ما.
شعرت بحاجة هائلة للبكاء، المحرق، وودت لو أجري صارخا ما أستطيع، دون أن يتعرف عليّ أحد في هذه الظلمة.
لكنني اكتشفت المدى اللانهائي من الراحة، في الغناء.
راح صوتي يتعثر، حتى سلست "الدندنات"، ثم انبثقت في فضاء الروح مقاطع الأغنيات الحلوة، البسيطة، البعيدة، التي ظننتها ماتت في نفسي من قديم.
أخذ أدائي يُشجيني كلما جلوت صوتي بالغناء. وكنت أتمادى فأشعر كأني أفلت من مراقبة ما، كأني أُعتق من شيء يكبلني، وأنطلق خفيفا خفيفا في رهافة الظلمة، وبراحها.
انتبهت إلى نفسي وقد بلغ شدوي حد ارتفاع الصوت، فسكت متلفتا أتحسب استغراب الناس الماضين -كأشباح- في الظلمة حولي.
لكن هنيهة خجلي تحولت إلى دهشة عندما أرهفت السمع، واقفا في ظلمة الشارع الكبير.
سمعتُ ما يُشبه همهمات خافتة، ثم تبيَّنتُ النَّغم في تداخل الأصوات، وكأن أفراد فرقة موسيقية –مُختفية في مكان ما- يضبطون آلاتهم قُبيل ابتداء العزف.
رحتُ أُميِّز اختلاف الأصوات والأغاني كلما مرَّتْ بي أشباح الناس في الظلمة: كلُ شبح بصوت، وكل صوت بأغنية، وكل الأغاني كانت مُفعمة بالشجو والشجن.
عدتُ أواصل سيري والغناء، وكان صوتي يرتعش، وتروغ الأغاني، كلما أوجستُ عودة التيار بغتة.
"محمد المخزنجي"
من مجموعة "رشق السكين".
مختارات فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984.
* منقول عن صدى ذاكرة القصة المصرية