نوارس علي اليزيدي - قصة قصيرة من زمن الحرب

مر يومان بلا كهرباء، لابأس بذلك، فأنا قطعت علاقتي بالإنترنت منذ فترة، لم أعد أغرد وانتقد وأطالب بحلول كغيري من ناشطي الفيسبوك والتويتر، منذ بداية الحرب ونحن هكذا لا نعلم ما يجول في العالم حولنا، لا كهرباء ولا تلفزيون ولا إنترنت ولا تغطية للهاتف اللاسلكي، مدينتنا الساحلية تمر بمراحل شواء غير عادية لساكنيها أيضا، فدرجات الحرارة هنا مرتفعة، لدرجة انعدام الحياة صباحاً وندرتها ليلًا، وأنا أحد أولئك السكان المستسلمين لما حولهم، وهذا الصباح كغيره من الأيام التي أصبحنا فيها ننتظر اليوم التالي وكفى، أضافت لي الحرب أعواما، فأصبحت مسنة جداً، رغم أنني لم أتجاوز الخامسة والعشرين بعد، وقفت تحت رشاش الماء أغمضت عينيّ أشعر بقطرات الماء تنساب من جسدي، ربما هذه المرة الأولى التي أشعر فيها بشي ما منذ شهور كثيرة، الماء العنصر الوحيد المتوفر هنا الذي مازال يشعرنا بالحياة، ومازلنا ننتظر الموت في أي ثانية، فلا طريق للنجاة هنا، فالبحر من أمامنا والعدو من خلفنا، جميع الدول أجلت رعاياها أيضاً فلا أحد يريد الموت في أرضنا، تركونا نواجه مصيرنا وحدنا نحن أبناء هذه الأرض، وهذا الطين، صوت أمي قطع مخيلتي وهي تناديني بحدة هبة هبة..
يبدو أنها تريد مني مساعدتها في أمر ما، لم أجب، لم أشاء أن أترك هذه اللحظات تحت الماء وخيالي الجامح، وأعود إلى مطبخ أمي وإزعاج أخوتي، وصوت أبي الذي يقطع حبل أفكاري دائما بصراخه، انفصلت مؤخراً أيضاً عن الرجل الذي ارتبطت به، لا أعلم ما السبب الذي جعلني أنفصل عنه بعد عام من خطوبتنا، لكنني فعلتها، رغم غضب الجميع مني، خاصة جدتي التي تراني عانساً الآن، مر نصف العام ربما سأشعر بالندم لاحقا على تركي أحمد، لكن الآن لا أظن ذلك، فيكفينا ما نعيشه في هذه الظروف الصعبة.
عادت أمي تصرخ هبة هبة، هي هكذا لا تكف عن الصراخ باسمي، رغم أن لها ابنتين غيري، لكن عقابي في بيتنا أنني أكبرهن وكأنه لا يكفيني ما بي، عدت للتفكير براتبي الذي استلمته هذا الصباح لم يزل على حالة، ماذا سأفعل به؟ لا يوجد في مخيلتي أي مخططات لصرفه هذه الأيام، بللت شعري بالماء.
ليتني ولدت سمكة! وقتها لن أشعر بما أشعر به الآن من ثقل ليست له أسباب واضحة، وربما لو خلقت كطائر ما كنت سأهاجر من هنا، بل سأحلق دائما لن أترك وطنا إلا وسأزوره، ولن أحط في موطن الحرب هذا حتى لو كان وطني! إلهي كم أغبط الطيور، سحبت منشفتي حركتها على شعري وخرجت تلقفتني أمي بالصراخ لم ألتفت لها فأنا اليوم في مزاج لا يسمح لي بالكلام..
فقط أتمنى الموت! وكأنه الآخر سيسارع ليختطفني! دلفت لغرفتي قابلتني صورة لأميرات ديزني كنت قد علقتها في الجدار المقابل لسريري لأنظر لهن كلما أحسست باليأس، لأن في قصة كل أميرة منهن معاناة واجتهادا وصبرا وتحملا ثم فرح أخير وسعادة أبدية..
ليتني ولدت أميرة! ما الذي سيتغير في هذا الكون لو أنني أميرة، لن يتغير شيء وربما الكثيرون لن يسمعوا بي لكن يكفيني أنني سأكون أميرة! يا لحظي الذي لا يعرف الراحة، كم مرة كتبت عن الحرية عن المقاومة، كم مرة طالبت في كتاباتي وقصصي بالثورة، كم مرة نزلت في مظاهرة ووقفت في عصيان، لم يتغير شيء في وطني ظل كما هو، إلى أن قامت الحرب، وزادت المعاناة تعبنا كثيراً في ترديد شعارات الثبات، ورغم تهديدات أبي الرافضة مشاركتي في العمل السياسي، إلا أنني لم أتوقف.
كنا نطبع صور الشهداء والمعتقلين ونوزعها في الشوارع ونلصقها على الجدران كنا نتحدث عن الوطن بأسمائنا الحقيقية غير خائفين، والأهم أننا لم نترك وطننا كغيرنا، ممن غادروا فور اشتعال الحرب، التي يسميها المجتمع الدولي أزمة وهم يحاولون إيجاد حلول لنا، كم أنا منهكة من كثرة الأفكار في رأسي، دائما ألعن خيالي الذي لا يهدأ، فتارة أتخيل موتنا بصاروخ ما تحت أنقاض بيتنا، وتارة أتخيل ما سأكتب عن حالنا المزري في الصحيفة التي أعمل بها، وأحيان أفكر في أحمد، لم تعد هناك وسيلة للاتصال به بعد انقطاع كل شيء عنا وفرض هذا الحصار على محافظتنا.. رغم أنني ما زلت لا أعلم سبب خطبته لي، وهو الذي يعرفني جيدا نقيضه التام، لكنه استطاع إقناعي بأن اختلافنا أفضل بكثير من تشاركنا الاهتمامات نفسها، هو الهادئ المسالم الخجول وأنا الجريئة المغامرة والكاتبة التي لا تنفك عن التورط في المتاعب، مسكين هو ظل يلاحقني لعام ثم ارتبط بي لعام، لكنني لم ألقِ بالا لكل أحلامه التي كان يسردها لي..
أحلامه الوديعة مثله والتي تتلخص في بيت وطفل وأنا فتركته، ربما كان يتوقع مني أن أتركه يوما، وربما كان يعلم بداخله أن مجنونة مثلي لن ترضى بعاقل مثله، لذلك رحل بهدوء من دون أن يستمع مني لأسباب انفصال كنت سأخترعها له في تلك اللحظة، وسأنساها في اليوم التالي.
وحين ألتقي أحد الفضوليين ويسألني عن انفصالنا كنت سأخترع من جديد أسبابا جديدة تروقني أكثر! مسكين أحمد أرددها كلما تذكرته، جاحدة أنا لا أعرف الحب وهو رقيق يخاف عليّ دائما ويصر على مرافقتي في كل مرة أخبره فيها عن نشاط ما سأفعله، كان يظن بأنه يحميني وأنا التي أقلق في حضوره وأحاول حمايته من كل الفوضى التي يوجد بسببي فيها، غريبان نحن وقصتنا غريبة ربما لهذا لم يستمر ارتباطنا ببعضنا، فتح أبي باب غرفتي بقوة انتفضت في مكاني أخذ يصرخ عرف من أحدهم أنني كنت في وقفة صامتة صباحا وسط المدينة، دخل أخوتي معه يتوعدون، أحدهم قال في استهزاء يكفي قد تركك أحمد لن يأتي أحد لخطبتك مع تصرفاتك هذه يا غبية، أختاي دخلتا مبتسمتان وكأنهما تشمتان بي، فهما لا تشبهانني في شيء عدا الاسم الأخير الذي نتشاركه جميعاً، كانوا يزمجرون وكأن اختلافي عنهم جريمة تستوجب القتل، وكأننا أحياء الآن مع كل هذا القرف الذي نعيشه، وكأن الموت لن يكون مصيرنا الأخير القادم، أيجب أن أخاف؟ دخلت أمي أخرجتهم جميعاً، جلست بجانبي، كانت ممسكة بهاتفها أخبرتني أنها استطاعت أن تتحدث بصعوبة بالغة، وبعد انقطاعات متتالية للمكالمة، لم أشأ مقاطعتها تركتها تتحدث فأمي تحب الثرثرة، كان المتصل أحمد! هو مازال يريدني رغم كل شيء! التفت لأمي مستغربة..
وضعت يدها على كتفي طلبت مني إعادة التفكير من جديد، فربما أحمد هو نصيبي الذي كتب لي في السماء على حد تعبيرها، شعرت فجأة بحنيني لذاك المسالم، أمي ظلت تتحدث وأنا أراقب شفتيها تتحركان، لم يصل صوتها لأذنيّ فقد سبقها خيالي بالتحليق للمرة الأولى التي التقيت فيها بأحمد، عادت أمي تربت على كتفي، هززت رأسي موافقة! تركتها في غرفتي عدت لرشاش الماء أسندت ظهري على الجدار أغمضت عينيّ شعرت بقطرات الماء تتخلل ملابسي وتنساب في جسدي وبدأ خيالي في التحليق، عادت أمي في الصراخ باسمي هبة هبة !



نوارس علي اليزيدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى