كل شيء هنا يفوح بالجنس، محلات الملابس الجنسية الخاصة بالساديين وأدواتهم وأدوات وأكسسوارات لجميع الميولات الجنسية. هنا أيضاُ بعض العاهرات يعرضن أجسادهن مباشرة دون سماسرة، هنا باعة الكيف والهواتف المسروقة، هنا يمكن شراء الشهوات والرغبات بالمال.
لم يفكر التوقف بالميترو رقم 2 في محطة بيجال أو يتجول في هذا الشارع وأماكنه سيئة السمعة، وحدها الصدفة جعلته يكتشف هذا العالم وتكون له قصة وذكرى معه، كان بوده النزول بمحطة ساحة إيطاليا ليذهب إلى الفندق الرخيص الذي سيقيم فيه هذه الليلة، لم يتعود المبيت بباريس ولا يتحمل صخبها لكنه يضطر من حين إلى أخر للبقاء فيها للعمل.
شارع بيجال تفوح منه رائحة العاهرات من كل جنس ولون. القوادون والقوادات ومساعديهم تراهم يقفون ويتأملون المارة، يبتسمون اذا شاهدوا ملامح وجه سائح أو غريب، ثم يسارعون للحديث بلغة إنجليزية ركيكة ودعوته للفرجة المجانية بداخل الحانة أو الملهى وفي حال دخوله فأن خروجه لن يكون سهلاً وقد تكلف المغامرة أو الفضول دفع مئة يورو على الأقل
وجد نفسه في وسط هذا العالم ،عليه أن يتصرف بشكل طبيعي ولا يكثر الإلتفات هنا وهناك، يوجد رصيف طويل في وسط الشارع وعلى ضفتيه تتناثر عشرات الملاهي والحانات الحمراء، قرر أن يشتري القليل من الكحول ويجلس للمشاهدة بكونها خبرة حياتية ومناسبة لرسم هذا الشارع الذي يعرفه من خلال حكايات وريبورتاجات شاهدها في التلفاز.
اشترى من دكانة عربية قنينة صغيرة من الفودكا ثم صبها في قنينة عصير تفاح، رمى بزجاجة الفودكا الفارغة ثم أخذ رشفة صغيرة، هذا الجو المنعش مع بداية الليل يضيف للشارع رونقاً خاصاُ فتبدو كل زواية كلوحة غريبة، كسب الخبرات الحياتية يحتاج إلى شجاعة ومغامرات، وجد نفسه في المكان والزمان الخطأ وعليه أن يتعامل مع الصدفة كبطل درامي ويرى ماذا سيحدث؟
جلس على أحد المقاعد الخشبية، فتح حقيبته، شرب جرعة فودكا، أشعل سيجارة، أخذ يدخنها وهو يتأمل الأشجار التي بدت أغصانها ترقص متفاعلة مع نسمات الليل، ظل يحدق بأعمدة الضوء، يسترق من حين إلى أخر بعض النظرات لضفتي الشارع، الحركة تزداد سخونة وجاذبية، الناس من كل جنسٍ ونوع، بيجال أشبه بساحة كرنفالية لا تنام لكن لليل مذاقه وألوانه المغرية، هناك من يفضل المشي على هذا الرصيف، العاريات كثيرات، كلما شرب جرعة فودكا أحسّ أنه يرى المكان بشكل مختلف متجاهلاً التحذيرات التي سمعها وحفظها.
يبدو أن الخمر بدأ يلعب لعبته، استعد للنهوض وفي رأسه فكرة التنزه واستكشاف عمق هذا العالم دون التورط بحدثٍ أو مغامرة خطرة، الفرجة من بعيدٍ تختلف تماماً عن المشاركة والتحول إلى عنصرٍ من المكان وأحد تفاصيله فربما هنالك متفرج يرى ويتأمل خطواتك من دون الآخرين.
أمضى أكثر من ساعة كمتفرج وشاهد عيان على عدة أحداث سريعة بعضها لم يستغرق سوى ثوان قليلة، شاهد عاهرة تجاوزت الخمسينات وظن أنها في المكان الخطأ وقد يعاكسها الحظ في صيد زبون لكن بعد ظهورها على الرصيف بلحظات أشار إليها أحدهم، تحدثت معها أقل من دقيقة ويبدو أنهما اتفقا بسرعة ثم لمحها تسير خلفه لتركب سيارته الفاخرة.
سأل نفسه مستغرباً الرجل يظهر أنه ميسور الحال.. لماذا كان خياره هذه العاهرة القبيحة؟
الناس أذواق والرزق مقسوم كان يسمع هذه العبارة ويظنها خاصة بمجتمعه الشرقي الذي يؤمن أن الرزق مكتوب ومقسوم، هنا عاهرة شابة ومغرية، يبدو أنها مستقلة وتبحث عن رزقها، ظل يراقبها وهي تدور الأرصفة، تبتسم وتسلم على من يسير بجانبها لكن لم يأبه بها أحد وكأنها غير مرئية، ظن أنها صورة خلقها خياله، يبدو أنها شعرت بالتعب، كاد أن يسير ليمر من أمامها لعلها تحدثه فقط ليتأكد أنها ليست تهيأت، هنا كأنها قرأت أفكاره حيث بادرت وخطت نحوه عدة خطوات، يسبقها عطرها، تقترب منه، تجلس بجواره وهي تتحسسّ ظهرها العاري، أشعلت سيجارتها، نظرت إليه مبتسمة.
العاهرة
ـ مرحباً أتبحث عن متعة؟
رد شاكراً :
ـ أشكرك .. لا أبحث عن شيء.
ضحكت ساخرة :
ـ كل واحد هنا يبحث عن صيد، المال أو الشهوة وبالمال تشتري الشهوة مهما كانت غريبة أو شاذة.
رد مستفسراً :
ـ أنتِ من سكان الحي؟
ضحكت ثم صمتت للحظات.
أجابت :
ـ قادتني الصدفة إلى هنا، كنت مع صديقات بأحد الملاهي.. ليلتها جذبني شاب وسيم، ظننت أني سأقضي متعة عابرة.. أو مغامرة عاطفية تجعلني أشعر بمتعة الحياة.. قادني إلى غرفته التي يسكنها لنكمل السهرة ثم أغراني بمغامرة مجنونة ومبلغاً كبيراً من المال مقابل ليلة مع رجل لا أعرفه يريد ساعة واحدة ليحقق رغباته السادية والشاذة ومن تلك الليلة أصبحت بضاعة للمتعة.
تصمت، تخفض رأسها، تنزلق دمعات صغيرة من عينيها، تسرع بمسحها، تتنهد، تضحك، كأنها تسخر من نفسها أو قدرها البائس.
ثم تكمل قصتها :
ـ كان الشاب لطيفاً وحنوناً.. مسح ألم سياط ذلك الشهواني ولم يأخذ مليماً واحداً من مكسبي.. وهكذا أصبح يؤجرني وأنا أكسب المال.. ثم أنقلبت أحواله وأخذ المال.. غير مرغوبة.. مدمنة وبائسة..هذا حالي الآن.
بعد لحظات ظهر، أحسّها ترتجف، نهضت خائفة.
ودعته بقولها :
ـ عليك الحذر، ذلك الوغد يبحث عني.. سيسأل عن المال أو سيجرني لوحش ينهش لحمي ويدمي جسدي بسياطه ورغباته المقززة.
تسير نحو ذلك الشاب، يمسكها من ذراعها ويدفعها بالقوة إلى سيارة تنتظرهما، لمحتهم النظرات وراقبتهم الأعين لكن لم يتحرك أي شخص لمساعدتها، فهم أن لهذا العالم قانونه الخاص.
شاهد عدة أحداث أخرى لصقت في ذهنه، شاهد رجلاً بالأربعينات بملبس أنيق تحدث مع شاب أفريقي طويل ومفتول العضلات ثم أصطحبه معه.
في تلك اللحظة جلس بالجانب المقابل شاب يرتدي ملابس نسائية، ظل الشاب يحاول لفت نظره ثم نهض ليعرض بضاعته هامساً :
ـ أنت أيها الشاب.. أتبحث عن اللذة.. يمكنني أن أسعدك لساعة أو ليلة وبسعرٍ مخفض.. سأفعل ما تفعله العاهرات وأكثر إن كنت من هواة المؤخرات.
شكره ثم نهض أحسّ بنفسه يفر من مجرد عرض كهذا ، كل زاوية مشحونة بالفرجة، كل مترٍ عبارة عن مسرحٍ لحكايةٍ ما بكامل عناصرها الدرامية.
عندما مشى قرب مواخير الدعارة أحسّ بروائح لعاهرات وأخرى نتنة لسماسرة وقوادين، رائحة الزبائن والأوراق النقدية وللخمور والمخدرات فالروائح أحدى عناصر هذه الأمكنة.. كذلك الأصوات والضحكات المغرية والموسيقى، هنا اللغات واللهجات المختلفة لكن الكلمات والعبارات موجزة وربما هذا المكان يتفاهم فيه الناس بسهولة ويقرأ بعضهم البعض بملامح الوجه حيث تكشف الوجوه أسرار الرغبات وما تخفيه النفوس.
ظل يمشي وفي رأسه تدور التساؤلات، أهي النشئة الدينية التي تربى فيها جعلته يفر من ذلك الإغراء؟ إنه يترحم لحال تلك الفتاة المستعبدة ولا يفهم كيف وقعت في فخ العبودية ببلد التحرر والقانون؟
يتوقف أمام حانه، تدور في رأسه فكرة مغامرة مجنونة ليكتشف عمق هذا العالم، يدخل الحانة، يطلب كأس فودكا، ينزوي ليتفرج، تأتية عدة بنات يغرينه بمساج وعرض إيروتيكي خاص، يعتذر ويظل متفرجاً، رغم أن الوضع الإقتصادي يزداد قسوة وتعقيداً إلا أن سوق الجنس يظل مزدهراً.
رأى أحدهم يدفع مبلغاً كبيراً ليقضي متعة غريبة في مقصورة خاصة مع دمية تشبة ممثلة إباحية مشهورة، المشهد يزج به إلى عالم فردريك فلليني بصخبه وجنونه، هاهم يزفون للرجل هذه الدمية، أكثر من سبع فتيات شبه عاريات يحملن ويرقصن حول الدمية ومعهن الشموع والورود والطبول.
لم يصدق ما يراه، اقتربت منه شابة يبدو أنها من العاملات المشرفات، جلست بجواره، لتحدثه.
الشابة :
ـ أرايت ذلك الرجل دفع المئات ليقضي ساعة متعة مع الدمية التي تشبه نجمة سكس مشهورة؟ هنا نحقق للناس أحلامهم ونجعلها حقيقة.. ألا تعجبك فتياتنا هنا؟ ألك ميولات مختلفة؟ لا تخجل سوف نساعدك بالسعر لتكون زبوناً عندنا.
شرب القطرة الأخيرة من الكأس.
رد شاكراً :
ـ أشكرك جئت لشرب كأس صغيرة ولا أحتاج لخدماتكم.
هنا وقفت الشابة غاضبة وصرخت تطلب الحراسة، لم يفهم سبب غضبها، هرع الحراس لجره ورميه خارج الحانة.
بعد خطوات من تلك الحانه، توقف للحظات لا يدري أي طريق سيسلكه وماذا سيحدث له؟
أحسّ بأن أحدهم يضع يده على كتفه من الخلف، استدار بسرعة ليجد شاباً يمد له يده ليصافحه ثم يجره بلطف بعيداً عن الضجيج ومسار المارة.
عرفه على نفسه قائلاً :
ـ اسمي مراد أنا عربي مثلك وفي خدمتك.. لدي هروين وكوك وأفيون وحشيش وكل الذي تريده.. لو لديك صديقه خذ سنة الأفيونه هذه .. ستجعلك أقوى من الحصان الجامح عند الممارسة الجنسية.
شكره، حاول التخلص من هذا الموقف لكن مراد أصر عليه أن يتناول سنة صغيرة من الأفيوان، كان يظن أن تناول هذه الجرعة الصغيرة جداً ستقلب حاله لكن لم يكن لها أي تأثير.
أشعل مراد سيجارة حشيش وتقاسما تدخينها.
لم يعد خائفاً من مراد الذي بدا لطيفاً وبدأ يتحدث وكأنه يؤدي مونولوجاً غريباً.
مراد :
ـ لا تخاف خويه أنا عروبي مثلك، ما تخافش والله خويه أنا طالب الله.. هنا كله خطر، هذا شارع بيجال للمتعة والحرام، أنا أبيع مخدرات لكني مسلم ومؤمن وأحب أسامة بن لادن والظواهري.. هذول شيوخ يحاربوا الكفار.
أنا أبيع المخدرات علشان نفسد شبابهم ونأخذ بناتهم لو تحب عندي لك بنت فرنسية حارة تمتعك الليل كله وأدفع الذي تحبه.. المهم تريح بالك.. هنا كلاب ويوجد قحاب مريضات .. أنا عندي صغيرات وطازجات.. البلد هذه ضيعت ناس كثيرة .. عنصرية ويسرقوا ثروات بلادنا.. أنا فقط أجمع المال وراجع نعيش ببلادي.. يا خوي بلادنا جميلة.. أه لو ما فيها السرق كانت بلادنا أحسن بلاد.
ظل متسمراً وهو يسمع هذا الخطاب وما يحمله من تناقضات، واستنتج أن لا فائدة من الدخول معه في نقاش عقيم لذا عليه التخلص من هذا الموقف.
شكره على هديته ونصائحه وودعه قائلاً :
ـ أشكرك لدي عمل ساذهب.
ثم مضى بخطوات سريعة، بينما ظل مراد في مكان لتدخين سيجارة أخرى.
أحسّ بالصداع وظل شريط تلك المشاهد يركض في رأسه، وجد نفسه يدخل إلى مقهى يبدو مخصصاً للطلبة، أخذ فنجاناً من القهوة ثم جلس بزاوية هادئة، مرت لحظات، ظل يتأمل المكان وأجوائه التي يألفها، فهنا لا عهر ولا مناظر مريبة، أقتربت منه فتاة شابة وجميلة، تبدو ثملة، سلمت عليه وجلست بقربه.
الشابة :
ـ مرحبا أنا حسناء.. أنت عربي أليس كذلك.
أبتسم لها مرحباَ، مالت إليه ملتصقة به، ضحكت، أحسّ بدفء ذراعها العاري، وضعت رأسها على كتفه.
ضحكت قائلة :
ـ أعرف مكاناً جميلاً ورومانسياً.. تعال لمرافقتي سنقضي وقتاً ممتعاَ لا تقلق هو ليس وكر دعارة وسعره جيد.
أخذت يده، انساق لرغباتها، لم يكن المكان بعيداً، مع وصولهما، جلسا بركن هادئ، لم يكن هناك الكثير من الزبائن، أخذ مشروباً لهما، كان السعر عادياً، جلست على حجره، بحثت عن شفتيه، كشفت عن صدرها، تفاعل معها، نهضت لترقص له عارية الصدر.. كأنه مع حسناء من ألف ليلة وليلة تلك القصص الماجنة والمشاهد المثيرة كانت تفجر الرغبة عنده ولم يكن أمامه سوى كفه والصابون، لم يفهم لماذا تشتعل تلك الذكريات وقصص ألف ليلة وليلة.
تمادت حسناء، تفجرت براكين الرغبة، ظلت تعبث بجغرافيا صدره وأشيائه الذكورية، فتحت أزرار بنطلونه، أمسكت ب.. بدت فرحة، طلبت منه أن يلحق بها إلى ركن بالدور الأرضي، تعرت، إنحنت على طاولة، أعطته واقياَ جنسياً، وضعه، التصق بها من الخلف.
دفعته صارخة:
ـ لا أرجوك ليس في المؤخرة.. لقد ألمتني..
لم يكن ينوي فعل ذلك، أصلح خطأه، شهقت، بعد فراغهما، إنشغل ليصلح سرواله، لم يجدها لعلها ذهبت إلى الحمام، عاد لمكانه، ظل ينتظرها، لم تأتي، سأل النادلة عنها، ظهرت عليها ملامح التعجب.
ردت بقولها :
ـ أنت تسأل عن حسناء.. أفعلتها معك ثم اختفت؟ لا نفهم متى تظهر وتتبخر هذه الفتاة.. هي كالزئبق أو الجنية لا تكلف نفسك بالبحث عنها لن تجدها.. أنت أكثرت من الشرب من الأفضل أن تعود إلى بيتك.. هذا الشارع خطير عليك الحذر.. سأطلب لك تاكسي.. خروجك في هذه الحالة خطر.. أنت في شارع بيجال ليس كمثله شيء.
_____________
*كاتب ومخرج وناقد سينمائي يمني يقيم في فرنسا
لم يفكر التوقف بالميترو رقم 2 في محطة بيجال أو يتجول في هذا الشارع وأماكنه سيئة السمعة، وحدها الصدفة جعلته يكتشف هذا العالم وتكون له قصة وذكرى معه، كان بوده النزول بمحطة ساحة إيطاليا ليذهب إلى الفندق الرخيص الذي سيقيم فيه هذه الليلة، لم يتعود المبيت بباريس ولا يتحمل صخبها لكنه يضطر من حين إلى أخر للبقاء فيها للعمل.
شارع بيجال تفوح منه رائحة العاهرات من كل جنس ولون. القوادون والقوادات ومساعديهم تراهم يقفون ويتأملون المارة، يبتسمون اذا شاهدوا ملامح وجه سائح أو غريب، ثم يسارعون للحديث بلغة إنجليزية ركيكة ودعوته للفرجة المجانية بداخل الحانة أو الملهى وفي حال دخوله فأن خروجه لن يكون سهلاً وقد تكلف المغامرة أو الفضول دفع مئة يورو على الأقل
وجد نفسه في وسط هذا العالم ،عليه أن يتصرف بشكل طبيعي ولا يكثر الإلتفات هنا وهناك، يوجد رصيف طويل في وسط الشارع وعلى ضفتيه تتناثر عشرات الملاهي والحانات الحمراء، قرر أن يشتري القليل من الكحول ويجلس للمشاهدة بكونها خبرة حياتية ومناسبة لرسم هذا الشارع الذي يعرفه من خلال حكايات وريبورتاجات شاهدها في التلفاز.
اشترى من دكانة عربية قنينة صغيرة من الفودكا ثم صبها في قنينة عصير تفاح، رمى بزجاجة الفودكا الفارغة ثم أخذ رشفة صغيرة، هذا الجو المنعش مع بداية الليل يضيف للشارع رونقاً خاصاُ فتبدو كل زواية كلوحة غريبة، كسب الخبرات الحياتية يحتاج إلى شجاعة ومغامرات، وجد نفسه في المكان والزمان الخطأ وعليه أن يتعامل مع الصدفة كبطل درامي ويرى ماذا سيحدث؟
جلس على أحد المقاعد الخشبية، فتح حقيبته، شرب جرعة فودكا، أشعل سيجارة، أخذ يدخنها وهو يتأمل الأشجار التي بدت أغصانها ترقص متفاعلة مع نسمات الليل، ظل يحدق بأعمدة الضوء، يسترق من حين إلى أخر بعض النظرات لضفتي الشارع، الحركة تزداد سخونة وجاذبية، الناس من كل جنسٍ ونوع، بيجال أشبه بساحة كرنفالية لا تنام لكن لليل مذاقه وألوانه المغرية، هناك من يفضل المشي على هذا الرصيف، العاريات كثيرات، كلما شرب جرعة فودكا أحسّ أنه يرى المكان بشكل مختلف متجاهلاً التحذيرات التي سمعها وحفظها.
يبدو أن الخمر بدأ يلعب لعبته، استعد للنهوض وفي رأسه فكرة التنزه واستكشاف عمق هذا العالم دون التورط بحدثٍ أو مغامرة خطرة، الفرجة من بعيدٍ تختلف تماماً عن المشاركة والتحول إلى عنصرٍ من المكان وأحد تفاصيله فربما هنالك متفرج يرى ويتأمل خطواتك من دون الآخرين.
أمضى أكثر من ساعة كمتفرج وشاهد عيان على عدة أحداث سريعة بعضها لم يستغرق سوى ثوان قليلة، شاهد عاهرة تجاوزت الخمسينات وظن أنها في المكان الخطأ وقد يعاكسها الحظ في صيد زبون لكن بعد ظهورها على الرصيف بلحظات أشار إليها أحدهم، تحدثت معها أقل من دقيقة ويبدو أنهما اتفقا بسرعة ثم لمحها تسير خلفه لتركب سيارته الفاخرة.
سأل نفسه مستغرباً الرجل يظهر أنه ميسور الحال.. لماذا كان خياره هذه العاهرة القبيحة؟
الناس أذواق والرزق مقسوم كان يسمع هذه العبارة ويظنها خاصة بمجتمعه الشرقي الذي يؤمن أن الرزق مكتوب ومقسوم، هنا عاهرة شابة ومغرية، يبدو أنها مستقلة وتبحث عن رزقها، ظل يراقبها وهي تدور الأرصفة، تبتسم وتسلم على من يسير بجانبها لكن لم يأبه بها أحد وكأنها غير مرئية، ظن أنها صورة خلقها خياله، يبدو أنها شعرت بالتعب، كاد أن يسير ليمر من أمامها لعلها تحدثه فقط ليتأكد أنها ليست تهيأت، هنا كأنها قرأت أفكاره حيث بادرت وخطت نحوه عدة خطوات، يسبقها عطرها، تقترب منه، تجلس بجواره وهي تتحسسّ ظهرها العاري، أشعلت سيجارتها، نظرت إليه مبتسمة.
العاهرة
ـ مرحباً أتبحث عن متعة؟
رد شاكراً :
ـ أشكرك .. لا أبحث عن شيء.
ضحكت ساخرة :
ـ كل واحد هنا يبحث عن صيد، المال أو الشهوة وبالمال تشتري الشهوة مهما كانت غريبة أو شاذة.
رد مستفسراً :
ـ أنتِ من سكان الحي؟
ضحكت ثم صمتت للحظات.
أجابت :
ـ قادتني الصدفة إلى هنا، كنت مع صديقات بأحد الملاهي.. ليلتها جذبني شاب وسيم، ظننت أني سأقضي متعة عابرة.. أو مغامرة عاطفية تجعلني أشعر بمتعة الحياة.. قادني إلى غرفته التي يسكنها لنكمل السهرة ثم أغراني بمغامرة مجنونة ومبلغاً كبيراً من المال مقابل ليلة مع رجل لا أعرفه يريد ساعة واحدة ليحقق رغباته السادية والشاذة ومن تلك الليلة أصبحت بضاعة للمتعة.
تصمت، تخفض رأسها، تنزلق دمعات صغيرة من عينيها، تسرع بمسحها، تتنهد، تضحك، كأنها تسخر من نفسها أو قدرها البائس.
ثم تكمل قصتها :
ـ كان الشاب لطيفاً وحنوناً.. مسح ألم سياط ذلك الشهواني ولم يأخذ مليماً واحداً من مكسبي.. وهكذا أصبح يؤجرني وأنا أكسب المال.. ثم أنقلبت أحواله وأخذ المال.. غير مرغوبة.. مدمنة وبائسة..هذا حالي الآن.
بعد لحظات ظهر، أحسّها ترتجف، نهضت خائفة.
ودعته بقولها :
ـ عليك الحذر، ذلك الوغد يبحث عني.. سيسأل عن المال أو سيجرني لوحش ينهش لحمي ويدمي جسدي بسياطه ورغباته المقززة.
تسير نحو ذلك الشاب، يمسكها من ذراعها ويدفعها بالقوة إلى سيارة تنتظرهما، لمحتهم النظرات وراقبتهم الأعين لكن لم يتحرك أي شخص لمساعدتها، فهم أن لهذا العالم قانونه الخاص.
شاهد عدة أحداث أخرى لصقت في ذهنه، شاهد رجلاً بالأربعينات بملبس أنيق تحدث مع شاب أفريقي طويل ومفتول العضلات ثم أصطحبه معه.
في تلك اللحظة جلس بالجانب المقابل شاب يرتدي ملابس نسائية، ظل الشاب يحاول لفت نظره ثم نهض ليعرض بضاعته هامساً :
ـ أنت أيها الشاب.. أتبحث عن اللذة.. يمكنني أن أسعدك لساعة أو ليلة وبسعرٍ مخفض.. سأفعل ما تفعله العاهرات وأكثر إن كنت من هواة المؤخرات.
شكره ثم نهض أحسّ بنفسه يفر من مجرد عرض كهذا ، كل زاوية مشحونة بالفرجة، كل مترٍ عبارة عن مسرحٍ لحكايةٍ ما بكامل عناصرها الدرامية.
عندما مشى قرب مواخير الدعارة أحسّ بروائح لعاهرات وأخرى نتنة لسماسرة وقوادين، رائحة الزبائن والأوراق النقدية وللخمور والمخدرات فالروائح أحدى عناصر هذه الأمكنة.. كذلك الأصوات والضحكات المغرية والموسيقى، هنا اللغات واللهجات المختلفة لكن الكلمات والعبارات موجزة وربما هذا المكان يتفاهم فيه الناس بسهولة ويقرأ بعضهم البعض بملامح الوجه حيث تكشف الوجوه أسرار الرغبات وما تخفيه النفوس.
ظل يمشي وفي رأسه تدور التساؤلات، أهي النشئة الدينية التي تربى فيها جعلته يفر من ذلك الإغراء؟ إنه يترحم لحال تلك الفتاة المستعبدة ولا يفهم كيف وقعت في فخ العبودية ببلد التحرر والقانون؟
يتوقف أمام حانه، تدور في رأسه فكرة مغامرة مجنونة ليكتشف عمق هذا العالم، يدخل الحانة، يطلب كأس فودكا، ينزوي ليتفرج، تأتية عدة بنات يغرينه بمساج وعرض إيروتيكي خاص، يعتذر ويظل متفرجاً، رغم أن الوضع الإقتصادي يزداد قسوة وتعقيداً إلا أن سوق الجنس يظل مزدهراً.
رأى أحدهم يدفع مبلغاً كبيراً ليقضي متعة غريبة في مقصورة خاصة مع دمية تشبة ممثلة إباحية مشهورة، المشهد يزج به إلى عالم فردريك فلليني بصخبه وجنونه، هاهم يزفون للرجل هذه الدمية، أكثر من سبع فتيات شبه عاريات يحملن ويرقصن حول الدمية ومعهن الشموع والورود والطبول.
لم يصدق ما يراه، اقتربت منه شابة يبدو أنها من العاملات المشرفات، جلست بجواره، لتحدثه.
الشابة :
ـ أرايت ذلك الرجل دفع المئات ليقضي ساعة متعة مع الدمية التي تشبه نجمة سكس مشهورة؟ هنا نحقق للناس أحلامهم ونجعلها حقيقة.. ألا تعجبك فتياتنا هنا؟ ألك ميولات مختلفة؟ لا تخجل سوف نساعدك بالسعر لتكون زبوناً عندنا.
شرب القطرة الأخيرة من الكأس.
رد شاكراً :
ـ أشكرك جئت لشرب كأس صغيرة ولا أحتاج لخدماتكم.
هنا وقفت الشابة غاضبة وصرخت تطلب الحراسة، لم يفهم سبب غضبها، هرع الحراس لجره ورميه خارج الحانة.
بعد خطوات من تلك الحانه، توقف للحظات لا يدري أي طريق سيسلكه وماذا سيحدث له؟
أحسّ بأن أحدهم يضع يده على كتفه من الخلف، استدار بسرعة ليجد شاباً يمد له يده ليصافحه ثم يجره بلطف بعيداً عن الضجيج ومسار المارة.
عرفه على نفسه قائلاً :
ـ اسمي مراد أنا عربي مثلك وفي خدمتك.. لدي هروين وكوك وأفيون وحشيش وكل الذي تريده.. لو لديك صديقه خذ سنة الأفيونه هذه .. ستجعلك أقوى من الحصان الجامح عند الممارسة الجنسية.
شكره، حاول التخلص من هذا الموقف لكن مراد أصر عليه أن يتناول سنة صغيرة من الأفيوان، كان يظن أن تناول هذه الجرعة الصغيرة جداً ستقلب حاله لكن لم يكن لها أي تأثير.
أشعل مراد سيجارة حشيش وتقاسما تدخينها.
لم يعد خائفاً من مراد الذي بدا لطيفاً وبدأ يتحدث وكأنه يؤدي مونولوجاً غريباً.
مراد :
ـ لا تخاف خويه أنا عروبي مثلك، ما تخافش والله خويه أنا طالب الله.. هنا كله خطر، هذا شارع بيجال للمتعة والحرام، أنا أبيع مخدرات لكني مسلم ومؤمن وأحب أسامة بن لادن والظواهري.. هذول شيوخ يحاربوا الكفار.
أنا أبيع المخدرات علشان نفسد شبابهم ونأخذ بناتهم لو تحب عندي لك بنت فرنسية حارة تمتعك الليل كله وأدفع الذي تحبه.. المهم تريح بالك.. هنا كلاب ويوجد قحاب مريضات .. أنا عندي صغيرات وطازجات.. البلد هذه ضيعت ناس كثيرة .. عنصرية ويسرقوا ثروات بلادنا.. أنا فقط أجمع المال وراجع نعيش ببلادي.. يا خوي بلادنا جميلة.. أه لو ما فيها السرق كانت بلادنا أحسن بلاد.
ظل متسمراً وهو يسمع هذا الخطاب وما يحمله من تناقضات، واستنتج أن لا فائدة من الدخول معه في نقاش عقيم لذا عليه التخلص من هذا الموقف.
شكره على هديته ونصائحه وودعه قائلاً :
ـ أشكرك لدي عمل ساذهب.
ثم مضى بخطوات سريعة، بينما ظل مراد في مكان لتدخين سيجارة أخرى.
أحسّ بالصداع وظل شريط تلك المشاهد يركض في رأسه، وجد نفسه يدخل إلى مقهى يبدو مخصصاً للطلبة، أخذ فنجاناً من القهوة ثم جلس بزاوية هادئة، مرت لحظات، ظل يتأمل المكان وأجوائه التي يألفها، فهنا لا عهر ولا مناظر مريبة، أقتربت منه فتاة شابة وجميلة، تبدو ثملة، سلمت عليه وجلست بقربه.
الشابة :
ـ مرحبا أنا حسناء.. أنت عربي أليس كذلك.
أبتسم لها مرحباَ، مالت إليه ملتصقة به، ضحكت، أحسّ بدفء ذراعها العاري، وضعت رأسها على كتفه.
ضحكت قائلة :
ـ أعرف مكاناً جميلاً ورومانسياً.. تعال لمرافقتي سنقضي وقتاً ممتعاَ لا تقلق هو ليس وكر دعارة وسعره جيد.
أخذت يده، انساق لرغباتها، لم يكن المكان بعيداً، مع وصولهما، جلسا بركن هادئ، لم يكن هناك الكثير من الزبائن، أخذ مشروباً لهما، كان السعر عادياً، جلست على حجره، بحثت عن شفتيه، كشفت عن صدرها، تفاعل معها، نهضت لترقص له عارية الصدر.. كأنه مع حسناء من ألف ليلة وليلة تلك القصص الماجنة والمشاهد المثيرة كانت تفجر الرغبة عنده ولم يكن أمامه سوى كفه والصابون، لم يفهم لماذا تشتعل تلك الذكريات وقصص ألف ليلة وليلة.
تمادت حسناء، تفجرت براكين الرغبة، ظلت تعبث بجغرافيا صدره وأشيائه الذكورية، فتحت أزرار بنطلونه، أمسكت ب.. بدت فرحة، طلبت منه أن يلحق بها إلى ركن بالدور الأرضي، تعرت، إنحنت على طاولة، أعطته واقياَ جنسياً، وضعه، التصق بها من الخلف.
دفعته صارخة:
ـ لا أرجوك ليس في المؤخرة.. لقد ألمتني..
لم يكن ينوي فعل ذلك، أصلح خطأه، شهقت، بعد فراغهما، إنشغل ليصلح سرواله، لم يجدها لعلها ذهبت إلى الحمام، عاد لمكانه، ظل ينتظرها، لم تأتي، سأل النادلة عنها، ظهرت عليها ملامح التعجب.
ردت بقولها :
ـ أنت تسأل عن حسناء.. أفعلتها معك ثم اختفت؟ لا نفهم متى تظهر وتتبخر هذه الفتاة.. هي كالزئبق أو الجنية لا تكلف نفسك بالبحث عنها لن تجدها.. أنت أكثرت من الشرب من الأفضل أن تعود إلى بيتك.. هذا الشارع خطير عليك الحذر.. سأطلب لك تاكسي.. خروجك في هذه الحالة خطر.. أنت في شارع بيجال ليس كمثله شيء.
_____________
*كاتب ومخرج وناقد سينمائي يمني يقيم في فرنسا