يسقط على مجلسك دون أن تعرفه، فلا تملك إلا أن تنعم فيه النظر، فهو أشعث أغبر كأنه ابن السلكة قد وافى بعد إيغال في شعاب الصحراء. . . ضامر شاحب كأنه عامل قد أضرب عن الزاد، قذر الملبس يذكرك بالمار أمام منزلك صندوقه على كتفه يصرخ بأعلى صوته (بوابير جاز أصلح)
تريد أن تسأله من أنت .. والويل لك إذا فعلت... لأنه لا يسمح لإنسان ألا يعرفه وقد أفنى نفسه في سبيل الشهرة... إن غيره لا يجهد سوى عقله وقلمه فينالها. . أما هو الشاعر الحق فقد أجهد عقله حتى جهد.. وقلمه حتى تحطم وجسمه حتى ذوى، ثم أنت لا تعرفه؟! ففيم إذن أهمل هذه اللحية وجعلك لا تعرف أن كان يزيلها أو هو يرسلها. . . أليس هذا فناً؟. وفيم إذن أطلق حول أذنيه هذه الإطارات من شعره. . كثة تكاد تخفي أذنه. . طويلة توشك أن تصل إلى فكه. . وفيم إذن ركب لنفسه هذا الرأس الثاني من الشعر. . . إن غطى الطربوش رأسه الأول برز من خلفه يخبر أنه. . فنان. . لا. لابد أن تعرفه أردت أو لم ترد. . تعرفه هكذا دون أن يخبرك. . إن سألته من أنت؟ ثار في وجهك وزمجر واستأسد بعد خنوع، إنه فنان يجلس إليك فيخبرك أنه لم ينم ليلته وأنه هكذا دائماً. . هائم على وجهه في غير مهيم. . . شارد في غير مشرد إنه فنان. . والفن في اعتقاده عزوف عن الراحة وشذوذ يفتعله هو. . وقد لا يتحدث عن نفسه فيروح يرصف القواعد للعبقرية ويضع الخطوط الواضحة بينها وبين الاكتمال العلمي فهو يقول إن العلم شئ سهل الحيازة داني القطوف. . يستطيع أي فدم أن يكون عالماً ولكن العبقرية قبس من الأشعة الإلهية أرسله الله إلى صاحب القسمة فهو شارد اللب يمشي دون وعي ويجلس على غير علم، إنه من الواصلين هكذا هكذا. . ولكن ماذا أفاد الرجل من كل هذا. . انتظر. . انتظر هاهو ذا يتبعه بجملته الخالدة، والله كثيراً ما أمشي في الشوارع دون أن أعرف لنفسي اتجاهاً، إنه عبقري ما أسهل العبقرية وما أشبه العباقرة بعمال التنظيم. . . هكذا الرجل لا يهمه بعد هذا إن كان فنه ناضجاً أو فجاً. المهم أن يتشعوذ وأن يعرفه الناس هكذا وهو بعد فنان. . . أراد الفن أو أبى، لا تظلم الرجل إنه لا يأتي هذا تصنعاً ولكنه تطبع طال به الأمد فأصبح طبعاً.
يتحدث إليك عن حب خاب وأمل خبا، ثم عن حب ما يزال متقد الجذوة، وهو إن فعل نظر إلى شئ خلفه يشبه الإنسان وسأله أن يخبرك عن (ليلى) ما يعلم فيأخذ شبه الإنسان في الكلام واصفاً المحبوبة. . . فتتوقع أنت في هذه اللحظة أوصافاً تخجل الشمس إبان ضحوتها وتزري بالغصن أوده الصبا. . . تتهيأ أذنك لأوصاف المحبوبة لا يخالجها شك في جمالها وفتنتها، ولكن هذا أمر طبيعي ليس فيه شذوذ؛ أو يرتضي الفنان لنفسه أن تطلق على سجيتها الأولى ولو في الحب؟ لا ودون ذلك الفن أجمع. . . هاهو ذا الوصف يخبرك أن الحبيبة سوداء مفلفلة الشعر معبلة، مثقلة الشحم؛ ثم يلتفت بعد هذا إلى الفنان يسائله في عجب ما يزال متكلفاً: لم تحبها. . . إن كثيرات غيرها يهوينك وبودهن لو نظرت إليهن ولو نظرة واحدة يلتفت إليك الفنان متعجباً من نفسه هو أيضاً ولكنه يحاول أن يغالط نفسه قليلاً فيخبرك أن معشوقته شديدة الحساسية عليمة بنبضات الشعر وخفقات الشعور. وإنها - وهو المهم - تحترم شعوره الحساس الرقيق فهو قد يغضب وقد يضربها ولكنها لا تؤذي إحساسه بكلمة وتحافظ على كرامته ما وسعها الحفاظ ومهما كلفتها تلك الخطة من إجهاد لشعورها الرهيف. . . وجماع أمرها وأمره أنها تفهمه وأنه يفهمها
عجيب أن يتكلم الرجل عن الكرامة ولكن كرامته هي الأخرى شاذة من نوع آخر. . . فهو قد يسألك القرش على غير معرفة ولكنه مع هذا ذو كرامة - وهو يفرط في الخمر على حساب غيره ثم يخرج إلى الطريق العام عربيداً. . . ولكنه ذو كرامة. . . وهو ينتقي أقذر الملابس ويضعها على نفسه كما توضع البردعة. . . وما يزال ذا كرامة.
إن الرجل ليس فقيراً، فهو يعمل ويحصل على أموال كثيرة ولكنه يضيعها لا لشيء إلا ليستجدي، ولعله يستجدي وهي في جيبه لمجرد الشعوذة والمحافظة على كرامته الفريدة.
قرأ ذلك الشاعر في بدء حياته بعض تراجم لشعراء غربيين قدامى - فرأى ما يفعله بودلير وسمع ما قيل عن بايرون، فظن أن الفن عربدة كعربدتهم وتحلل كتحللهم، وظن أن هذه العربدة وذلك التحلل هما الطريق السوي الممهد إلى الخلود. . . نسي الرجل أن هؤلاء كانوا أصحاب أفكار سامية وعاطفة ملتهبة نابضة وعلم مكتمل ناضج وأنهم نجحوا برغم سلوكهم لا بسبب سلوكهم.
إن من هؤلاء الشعراء المشعوذين من إذا انصرف عن شعوذته إلى فنه لكان نتاجه حقيقاً بالاحترام فكثيراً منهم ذو ملكة مهيأة للفن تهيئة يفتقدها الكثير. . . ولكنه أخطأ الطريق أو لعله رأى وعورتها. . . فانثنى عنها إلى طريق أخرى أكثر وعورة على الكرامة الحقة ولكنها سهلة معبدة للكرامة المشعوذة.
مجلة الرسالة - العدد 715
بتاريخ: 17 - 03 - 1947
ثروت أباظة
تريد أن تسأله من أنت .. والويل لك إذا فعلت... لأنه لا يسمح لإنسان ألا يعرفه وقد أفنى نفسه في سبيل الشهرة... إن غيره لا يجهد سوى عقله وقلمه فينالها. . أما هو الشاعر الحق فقد أجهد عقله حتى جهد.. وقلمه حتى تحطم وجسمه حتى ذوى، ثم أنت لا تعرفه؟! ففيم إذن أهمل هذه اللحية وجعلك لا تعرف أن كان يزيلها أو هو يرسلها. . . أليس هذا فناً؟. وفيم إذن أطلق حول أذنيه هذه الإطارات من شعره. . كثة تكاد تخفي أذنه. . طويلة توشك أن تصل إلى فكه. . وفيم إذن ركب لنفسه هذا الرأس الثاني من الشعر. . . إن غطى الطربوش رأسه الأول برز من خلفه يخبر أنه. . فنان. . لا. لابد أن تعرفه أردت أو لم ترد. . تعرفه هكذا دون أن يخبرك. . إن سألته من أنت؟ ثار في وجهك وزمجر واستأسد بعد خنوع، إنه فنان يجلس إليك فيخبرك أنه لم ينم ليلته وأنه هكذا دائماً. . هائم على وجهه في غير مهيم. . . شارد في غير مشرد إنه فنان. . والفن في اعتقاده عزوف عن الراحة وشذوذ يفتعله هو. . وقد لا يتحدث عن نفسه فيروح يرصف القواعد للعبقرية ويضع الخطوط الواضحة بينها وبين الاكتمال العلمي فهو يقول إن العلم شئ سهل الحيازة داني القطوف. . يستطيع أي فدم أن يكون عالماً ولكن العبقرية قبس من الأشعة الإلهية أرسله الله إلى صاحب القسمة فهو شارد اللب يمشي دون وعي ويجلس على غير علم، إنه من الواصلين هكذا هكذا. . ولكن ماذا أفاد الرجل من كل هذا. . انتظر. . انتظر هاهو ذا يتبعه بجملته الخالدة، والله كثيراً ما أمشي في الشوارع دون أن أعرف لنفسي اتجاهاً، إنه عبقري ما أسهل العبقرية وما أشبه العباقرة بعمال التنظيم. . . هكذا الرجل لا يهمه بعد هذا إن كان فنه ناضجاً أو فجاً. المهم أن يتشعوذ وأن يعرفه الناس هكذا وهو بعد فنان. . . أراد الفن أو أبى، لا تظلم الرجل إنه لا يأتي هذا تصنعاً ولكنه تطبع طال به الأمد فأصبح طبعاً.
يتحدث إليك عن حب خاب وأمل خبا، ثم عن حب ما يزال متقد الجذوة، وهو إن فعل نظر إلى شئ خلفه يشبه الإنسان وسأله أن يخبرك عن (ليلى) ما يعلم فيأخذ شبه الإنسان في الكلام واصفاً المحبوبة. . . فتتوقع أنت في هذه اللحظة أوصافاً تخجل الشمس إبان ضحوتها وتزري بالغصن أوده الصبا. . . تتهيأ أذنك لأوصاف المحبوبة لا يخالجها شك في جمالها وفتنتها، ولكن هذا أمر طبيعي ليس فيه شذوذ؛ أو يرتضي الفنان لنفسه أن تطلق على سجيتها الأولى ولو في الحب؟ لا ودون ذلك الفن أجمع. . . هاهو ذا الوصف يخبرك أن الحبيبة سوداء مفلفلة الشعر معبلة، مثقلة الشحم؛ ثم يلتفت بعد هذا إلى الفنان يسائله في عجب ما يزال متكلفاً: لم تحبها. . . إن كثيرات غيرها يهوينك وبودهن لو نظرت إليهن ولو نظرة واحدة يلتفت إليك الفنان متعجباً من نفسه هو أيضاً ولكنه يحاول أن يغالط نفسه قليلاً فيخبرك أن معشوقته شديدة الحساسية عليمة بنبضات الشعر وخفقات الشعور. وإنها - وهو المهم - تحترم شعوره الحساس الرقيق فهو قد يغضب وقد يضربها ولكنها لا تؤذي إحساسه بكلمة وتحافظ على كرامته ما وسعها الحفاظ ومهما كلفتها تلك الخطة من إجهاد لشعورها الرهيف. . . وجماع أمرها وأمره أنها تفهمه وأنه يفهمها
عجيب أن يتكلم الرجل عن الكرامة ولكن كرامته هي الأخرى شاذة من نوع آخر. . . فهو قد يسألك القرش على غير معرفة ولكنه مع هذا ذو كرامة - وهو يفرط في الخمر على حساب غيره ثم يخرج إلى الطريق العام عربيداً. . . ولكنه ذو كرامة. . . وهو ينتقي أقذر الملابس ويضعها على نفسه كما توضع البردعة. . . وما يزال ذا كرامة.
إن الرجل ليس فقيراً، فهو يعمل ويحصل على أموال كثيرة ولكنه يضيعها لا لشيء إلا ليستجدي، ولعله يستجدي وهي في جيبه لمجرد الشعوذة والمحافظة على كرامته الفريدة.
قرأ ذلك الشاعر في بدء حياته بعض تراجم لشعراء غربيين قدامى - فرأى ما يفعله بودلير وسمع ما قيل عن بايرون، فظن أن الفن عربدة كعربدتهم وتحلل كتحللهم، وظن أن هذه العربدة وذلك التحلل هما الطريق السوي الممهد إلى الخلود. . . نسي الرجل أن هؤلاء كانوا أصحاب أفكار سامية وعاطفة ملتهبة نابضة وعلم مكتمل ناضج وأنهم نجحوا برغم سلوكهم لا بسبب سلوكهم.
إن من هؤلاء الشعراء المشعوذين من إذا انصرف عن شعوذته إلى فنه لكان نتاجه حقيقاً بالاحترام فكثيراً منهم ذو ملكة مهيأة للفن تهيئة يفتقدها الكثير. . . ولكنه أخطأ الطريق أو لعله رأى وعورتها. . . فانثنى عنها إلى طريق أخرى أكثر وعورة على الكرامة الحقة ولكنها سهلة معبدة للكرامة المشعوذة.
مجلة الرسالة - العدد 715
بتاريخ: 17 - 03 - 1947
ثروت أباظة