جمال الخياط - مملكة النهر.. قصة قصيرة

كل ذلك يحدث عندما أنام..

عندما أستلقي على سريري وأغمض عيني يأتي رجل طاعن في السن يلبس جلباباً أبيض شفافاً ، يخفي ملامحه ليكبل جفوني ويدخل متباهياً الى حديقة أحلامي ، ويبدأ لعبته المجنونة التي لا تستهويني . يشق في غفلة مني نهراً جارياً قاعه أخضر من الطحالب الكثيفة، يخترق رأسي لينثر على الضفتين بيوتاً بيضاء تزدان بقرميد لامع لونه أزرق ، ومصانع تنفث أدخنتها الكثيفة في الفضاء الواسع ، وتلال صخرية قممها هشة ، وأشجار نخيل باسقة تختال على أرصفة أنيقة ، وحيوانات صغيرة ومتوسطة وضخمة ولكنها أليفة ، وحوانيت متواضعة يديرها متدينون وسحرة ، وحظائر على درجة عالية من الوضاعة ، ومطاعم متدنية المستوى ، وملاهي تعج بعقليات ليست متوهجة ، وبشر ملونون يرطنون بلغات متنوعة يمارسون مهناً مختلفة ويتعاركون كما لو كانوا أطفالاً من أجل أن يظفروا بغنيمة أحلامي المسلوبة.

ولا يدخل النهر ..

يظل الرجل العجوز مخبئاً وجهه بغترة شال كشميرية ، غالية الثمن ، متلذذاً بوضع قدميه في ماء النهر البارد ، تاركاً الأسماك الصغيرة تدغدغ قدميه المتشققتين . وهو على جلسة اللهو هذه يحرك العالم القريب بسهولة لا يتصورها أحد ، بحركة صغيرة من عينيه على ما يبدو. وهو يعلم أن لا أحد بمقدوره أن يمنع سطوته ، ولا حتى أنا ، صاحب الحلم . لا يسمح باستفسار أو تذمر . يتركني مثل الأبله أنصاع لدكتاتوريته.
هذا الشيخ العجوز ليس بالدجال أو الكاهن أو الساحر ، أنه شيخ وقور جداً لديه أمنية عزيزة يريد أن يحققها ، وعندما يدخل من بوابة أحلامي بهذه الطريقة الغريبة ، ودون أن يستأذن مني ، أحس كأنه يفعل كل ذلك ليطلب مني المساعدة . إنني بين يديه عبد أجير ، وهو حر في ما سيفعله بأفكاري.

ويتمادى هذا الشيخ في أرباكي..

يتحاشاني قدر ما يستطيع في تفاصيل الأحلام . يرسم دروباً صعبة مسيجة بأسلاك شائكة تمنعني من الوصول اليه ، وكشف هويته . أعرف أنه يتسلى وهو يراني تائهاً أحاول فك طلاسم الحلم . الآن بدأت أدرك أنه الفنان الذي يرسم لي أحلامي في الفترة الماضية ، وينتقيها من سلة صغيرة ، مذهبة لاتكاد تفارق يده اليمنى . ولا يكتفي بكل ذلك ، بل يختار من جيوبه الغزيرة الأمكنة التي تتغير مع كل لحظة ، والناس الذين أندهش وأنا أصادفهم ، والطقس الذي يتقلب على غفلة مني ، والحوادث التي تتناسل عدداً وفداحة ، والانفعالات تلك التي تصدر عني والتي أقرأها على وجوه الغير ، والحركات التي لاأستطيع تفسير حدوثها . وأشياء كثيرة ينثرها في حلمي بعد أن يخلطها مرة واحدة في ماء النهر الصافي.
بعدها أحلم كثيراً ..
ولا أنسى التفاصيل الصغيرة عندما أستيقظ . ولا ينساني هذا الهرم أبداً ، يطل علي بين فترة وأخرى ليرى كيف أتدبر أموري مع ألعابه السحرية ، وكيف أنبهر بشخصياته التي يسيرها كما لو كانت دمى ، أو عرائس . أحلم دائماً بفتاة جميلة يقودها العجوز من يدها ، ولا تقاوم . كأنه يريد أن يخبرني بأنها هي البطلة الحقيقة لأحلامي ، وهو مجرد جندي مجهول وظيفته التأكد من حسن سير الأمور . يتركها وسط هذا الكرنفال المبهر ويرحل دون أن يودعها، أو يرسم لها دوراً كبيراً ومؤثراً . يرحل ويتركها تائهة ، قلقة ، وضائعة ، تماماً مثل حالتي.

أحلم دائماً بيوم قائظ ..

يوم رطب ولاهب الحرارة تحضر فيه هذه الفتاة البائسة دون أن يقودها الرجل العجوز، ولا أستطيع أن أتتبع خطواتها. تهرب مني ، وتتحاشى لقائي . ولا أجد سبباً يفسر هذه الرغبة المزعجة . تسمح لي بالنظرة الأولى ، وحالما ألمح سمرتها القمحية ، وقصر قامتها ، وملابسها الفضفاضة اللامعة ، وخصرها النحيل تدخل النهر أو تتوارى بين أمكنة العجوز المدهشة.
شيء ما في هيئتي يجعلها تنفر مني ، وهذا الشيء لاأقدر على فهمه كما لاأستطيع أن أفسر أشياء كثيرة تختال أو تجري في حديقة أحلامي . هل للعجوز سطوة على هروب هذه الجميلة عن ناظري ؟ هل يريدني أن أقنص هذه الخائفة الرقيقة ؟ أم أنه يوحي الي بترويض هذه الجامحة القصيرة القامة ؟ هل يريد أن أقتفي أثرها حيث ترشدني الى مكان مفاتيح اللغز ؟ لا أدري.
لا خطوات تدل على وجهتها ، وهذا النهر الغريب يخيفني ، أنا ذلك المعتاد على التردد والوقوف بوجل على حافة الحلم . إنها تختفي بمهارة أسبغها عليها هذا العجوز المجهول ، او أنها تقتبس مهارته الفذة في تضليلي ، وتنجح بتفوق لأنني أنسان عاجز ولاأقوى على التقدم خطوة واحدة نحو سبر أغوار الحلم .
وينتهي هذا الحلم كما بدأ غامضاً . تأخذ هذه المجهولة في طريق رحيلها كل شيء نثره الشيخ الوقور، الأمكنة ، الطقس ، الناس ، الدواب ، المسرات ، الغابات ، الغيوم ، الطيور المغردة . تأخذ كل شيء دون سابق انذار لتسكبه في النهر ، ثم تطوي النهر كما لو أنها تطوي قطعة قماش طويلة وتضعه تحت أبطها العاري ، وتمضي غير سعيدة . كأنها غاضبة من تصرف أرعن بدر مني.
وأظل وحيداً في عالم عار ، أبيض ، مفتوح ، لا نهاية لمداه . كأنه عالم من سحاب نقي وصافِ . وقبل أن أستيقظ بثوان بسيطة أرى نفسي أموت في حادثة تحطم طائرة نفاثة في عرض الصحراء .

ولا أصحو مذعوراً..

هذه الحادثة ليست بنبوءة يقذفها الشيخ الهرم ، وهي ليست تحذيراً يرسله عندما أغط في النوم ، وتعمل فوضاه الجميلة سحرها في حلمي . موتي تصنعه السماء ، وليس لهذا العجوز المدهش أي يد فيه . هذه الأشارة لها معنى آخر غير هذا التلميح المباشر الذي يسيطر على تفكيري أغلب الأوقات .

تسقط الطائرة العملاقة دون أن تنفجر..

تتفتت الى قطع معدنية متناثرة ، ودون أن يكون هناك ضحايا بشرية غيري . أتمدد على رمال الصحراء الحارقة وأترك الشمس القاسية تسوط بشرة وجهي الدهنية ، ولاأتألم.

ويلتهمني الموت ببطء ...

ولأنه كان موتاً لذيذاً استسلمت له طواعية ، وأرخيت جفوني ، وتركته يلتهم روحي بأمان . ثم رحلت بسلام الى السماء.

ليس ثمة مخلوق يعلم قصة موتي..

أتركها سراً في أعماقي أحاول أن أحلل رموزه الشائكة . ليس من حق أي مخلوق أن يشاركني في أحلامي ، وقلقي من حوادثها . لاأحتمل الاستخفاف الذي سألقاه عندما يستنكروا قصة موتي . لن أعطي أحداً أي كانت مكانته في قلبي ضعف أعماقي ، ولن أمكن أي أنسان من حيرتي أو قلقي .
يكفيني جداً هذه الفوضى الجميلة التي خطط لها هذا المسن الرائع . تجتاحني اللذة منذ اللحظة التي أمدد فيها جسدي على السرير . منذ هذه اللحظة أحس بحضور هذا الذي لايجوز أن ألقبه بالكاهن ، بالرغم من طقوسه التي يمارسها في حلمي . في النهر الذي يحميه من فضولي أو غضبي يحضر لحلم الموت ويسلمه الى الفتاة الجميلة كما لو أنه يوصيها على شرفها الغالي . وهو يخطط لموتي المؤقت يتخطى عقبات شتى.
ذكرياتي التي تتأرجح بين اللذة والألم ..
مستقبلي الذي يتخبط في دروب موحلة ..
أوهامي التي تستثيرها الظلمة والسكون ..
رغباتي التي تنتحر على أعتاب الواقع ..
ولا يقلقني هذا الموت المزعوم / المؤقت ..
أنام - بشكل طبيعي - حسب ما يخطط لي العجوز ، وأتركه دون مضايقة يصادر أحلامي الشخصية الموضوعه في صندوق بريدي ، ليستبدلها بذلك الحلم التي تقوده هذه المرأة المجنونة التي لاترد له طلباً، فيتركها على مشتهاها تلون الحلم ، وتنثر فيه فراشات مضيئة ، ومخلوقات أقل منها جمالاً ترقص على أنغام رومانسية غاية في العذوبة . تركض الفتاة المجنونة على سطح النهر كما لو أنها ترقص على أرض صلبة ، دون أن يهتز سطح الماء أو تبتل أرجلها الناعمة . كأنها تريد أن تجمل الموت في نظري ، وتجعله مغرياً.
كلما يبدأ الحلم في توقيته المبكر لاأجرؤ على عبور النهر ، وهو الخطوة الأولى للحاق بتلك الفتاة . في أعماقي تكمن أحاسيس مبهمة ، وخائفة من المغامرة ، والاكتشاف ، والمجهول ، وربما الموت الذي ينتظرني لا محالة في نهاية الحلم . هل هو حقاً يترصدني في نهاية الحلم ، حيث يقف شبح رجل يمسك بفأس عصاه طويلة ؟ لابد من عبور النهر في حضرة الرجل المسن حتى أثق في النجاة ، وكيف سيكون لي تنفيذ هذه المهمة وهو الشيخ الذي لايغفل له جفن.
من أين أبدأ العبور ؟ من أي نقطة ؟ أي المعابر تقودني بسلام الى الضفة الأخرى حيث تسرح الفتاة الجميلة مع عجوزها الرائع ؟ رأيتهما مراراً وهما يعبران بسهولة من خلال كل المعابر . رأيتهما معاً ، ورأيتهما يعبران بطريقتهما الخاصة كل على حده . لاأجرؤ على العبور من جهة المصانع حيث الدخان الكثيف يحجب الرؤية والخطر ، وحيث النفايات السامة تندلق في النهر . ولايمكنني الوثوق جهة الأشجار الكثيفة ، رأيت مرات عديدة حيوانات متوحشة تعج بالمكان ، وأفاعي وتماسيح تتخذ من الساحل هناك ملجأ آمن . أما الجسر المعلق بين الضفتين فإنه يمر بباخرة مسكونة تتلألأ فيها الأضواء وتختفي فجأة ، وتكثر الضوضاء دون سبب . ولايتبقى الا السحاب الذي يقطع النهر جيئة وذهاباً كل لحظة كأنه قطع صغيرة من القطن ، وهذا لاأثق فيه فقد يمطر ويقذفني في النهر ، وقد يتبدد اذا ما شاء العجوز أن يرسل شمساً حامية.

وأقف حائراً ..

ومثلي تقف الفتاة على الضفة الأخرى وخلفها العجوز الذي لاتشعر بوجوده ، أو لايريد أن تراه . كنت تائهاً ، وأفكاري مصادرة ، ولاأملك الا أن أنطلق لأفعل ما أراه مناسباً في اللحظة ذاتها . أي تفكير في الخطوة القادمة تعني الفشل ، لذلك دخلت الحانات المنتشرة على حافة النهر أحتسي شراباً جديداً لونه يشبه النبيذ لكنه لا يسكر . اقتحمت أغلب الحانات أضحك على السكارى والراقصات الرخيصات ، أغني مع أشباه المطربين وأرقص مع الذين لايجيدون الرقص.
محطتي التالية كان صالوناً مختلطاً للتجميل ليس به زبائن . طلبت من العامل المخنث أن يغير شكلي . كانت العملية لاتستغرق كل هذا الوقت الطويل الذي قضاه هذا الشاذ ، فقد كان يستريح بعد كل حركة صغيرة ، وكان الملعون يتحرش بجسدي كلما واتته الفرصة ، تارة بوضع مؤخرته في وجهي ، ودائماً بتدليك جسدي بيديه.
رأيت وجهي في المرآة قبل أن أخرج ، حواجبي الثخينة أصبحت أرفع من حواجب سيدة تقضي شهر العسل ، وشاربي الكث اختفى تماماً ، وشعري الناعم أصبح مجعداً ومصبوغاً بلون الحناء ، وحافظ على شعر قليل في ذقني . أعتبر العامل أجره من النقود أهانة ، وأرتضى بقبلة طائشة على الخد ، آملاً أن أقضي باقي الوقت معه في غرفته الخاصة خلف الصالون.

ولم أدخل النهر..

عرجت على محل للملابس الجاهزة واستبدلت ثياب الحلم . انتقيت ثياباً إفرنجية تنضح روحاً شبابية، بألوان صارخة . دخلت محلاً أنيقاً للورود وكونت باقة صغيرة تضم ثلاث زهرات ، حمراء ترمز للحب ، وصفراء تمثل الغيرة ، وبيضاء تعبر عن نقاء القلوب . كان محل الحلويات محطتي الأخيرة التي أخذت منها كعكة من الفراولة . كأنني ذاهب الى حفلة عيد ميلاد في طقس كانون البارد . في الطريق الى ضفة النهر غنيت كثيراً أغاني لاتحمل الروح الحزينة التي تلازم نفسي ، ورقصت في رشاقة رغم أن يدي مشغولتان بالورود والكعكة . لم أكن أفكر في أي المعابر سأسلك ، ولم أكن أفكر في الشيخ العجوز، ولا في قصة الموت التي تأتي في نهاية الحلم ، ولا في أي شيء آخر . ليس هناك الا الفتاة الجميلة التي باتت تحتل مساحة الحلم في رأسي.

ولا أجد النهر ..

اختفى . حل مكانه سهل منبسط من الحشائش الخضراء المقلمة بعناية . كانت الفتاة الجميلة واقفة في مكانها، تنتظرني . كانت تنظر في عيني لتقول : انظر ليس هناك ملجأ أمامك إلا قلبي . كان هذا صحيحاً ، حتى الرجل المسن لاأراه . مشينا ببطء حتى التقينا في مكان كان في السابق منتصف النهر . تعانقنا فترة طويلة دون أن نتبادل القبل ، ولم أنتبه الى أننا كنا نقف على سطح الماء دون أن نسقط في قاع النهر أو نبتل . تناولت فتاتي قطعة صغيرة من ثمار الفراولة ولونت شفتاها وخديها ثم أكلتها . وضعت الزهرة الحمراء في عقلها ، والصفراء في قلبها ، والبيضاء قسمتها نصفين بين عقلها وقلبها.
كان الرجل العجوز يراقبنا من مكان سري . كنت لاأراه ولكنني كنت أحس بنبضات قلبه ، وأنفاسه العطرة وهي تمر على رقابنا . كم هي رائعة عطيته التي بعثها لي في الحلم ، وكم كان بديعة لحظة تتويجها في قلبي.

واستيقظت ..

إنها المرة الأولى التي أستيقظ فيها من حلم الشيخ العجوز ولا يكون هناك موت ينتظرني .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى