جمال الدين علي - الشوط المفقود.. قصة قصيرة

وأنت تمشي وحدك في العتمة مختالا كشمعة; تتلاعب بك ريح النشوة وعلى شفتيك يسيل طعم القبلة التي ارتشفتها خلسة من فم العدم. لا تكترث بالكلب الذي كشر عن أنيابه وبدأ متأهبا للدفاع عن حرمة الشارع. ذلك الكلب المتحفز عندما مررت به وسمعك تترنم بمقطع أنشودة الجن( قم يا طرير الشباب غني لنا غني وأعصر لي الأعناب وأملأ بها دني من عبقري الرباب أو حرمي الفن) صك أسنانه ونفض الأفكار الشريرة من ذهنه; عاد وأستلقى في مكانه وكأنه حدث نفسه: وأنا مالي. القط الأسود الذي كان يمشي فوق جدار البيت المقابل حدق فيك بعينيه الكهرمانيتين وقفز للداخل. في ناصية الشارع المفضية إلى الساحة التي تفصل حيك الشعبي المترهل عن الحي الراقي المكتنز حيث كنت تعبث مع فتاتك; طار طعم القبلة السكرى. وأنت تفكر في وسيلة تعبر بها هذا الظلام . الآن تذوق طعم خوفك; وأنت تمشي متوغلا في الساحة تقدم بارقة وتؤخر خاطرة; يتملكك الرعب والوساوس نمر ورقي يقفز فوق كتفك; أنفاسه الساخنة تذيب الشمع الذي تراكم في أذنيك. ينساب الهواء باردا من أذنك اليمنى ويخرج من اليسرى; محدثا طنينا يولد في دواخلك شعور بعدم الراحة. تدخل أصبعك السبابة في فتحة أذنك اليمين وتحركه في مكانه. هذه الحركة تشعرك ببعض الراحة ولكنها صقلت مسامعك; تسمع صوت نعليك وخشخشة الأوراق والأكياس الفارغة كأن جيشا من قطاع الطرق يتبعك. تتلفت وتستعجل خطاك مثبتا نظرك على نقطة الضوء الوحيدة المنبعثة من كوة مطبخ قديم في حيك و التي بدت لك كشمس. في وسط الساحة تماما شق عباب الظلام وخرج لك; بدأ منهكا كأنه قادم من أقاصي دنيا العزلة ولكنة كان واثقا من نفسه لدرجة أنك فقدت كل حواسك التي صقلتها في لقاءك العاطفي قبل قليل. وقبل أن تبتلع ريقك الجاف; خاطبك بصوت يقطر دفئا: لا تخف مني يا بني. أنا أنت ونحن الاثنان واحد جئنا من تخوم الذات المتكلسة من عصر الأنا المتجذر في النفوس.
يزداد خوفك وتشعر أن سوائل جسمك هربت من كل المنافذ. أشار بشيء لا هو أصبع ولا هو يد ولكنك تبعت بنظراتك الخائفة إشارته الغامضة:
هناك حيث يتناسل شعور المرء بالإنشطار وتصبح الوحدة وحدتين والليل ليلين.
نظر في عينيك وقال:
هل تريد الذهاب إلى هنا؟
تهز رأسك بالنفي تارة وبالموافقة تارة أخرى. يشعر بالضيق:
لا تجعل وعودك طويلة كليل العاشقين; ولا قصيرة كلقائهما.
وأنت تقف كالصنم مسح على رأسك وابتسامة كالضمير الحي ارتسمت على شفتيه: لا تؤجل السفر وإن وصلت لا تطيل البقاء.
بصعوبة انتزعت نظراتك المثبتة باطار اللحظة; تطلعت في وجهه الصافي كأنه مغسول بماء الطهر; عيناه كرتان من الكريستال الشفاف; برغم العتمة رأيت فيها ماضيك وحاضرك ومستقبلك; ثمة غرة على جبينه كانت تلصف مع انعكاس نظراتك المثبتة عليها. قال لك بصوت مس عصب السكون بداخلك: لا يزال يساورك الشك أنني أنت؟.
وأنت تفكر في اجابة تخرجك من هذه الورطة رحت تلعن في سرك أنشودة الجن والعشق الممنوع ومهند ونور وكل المسلسلات التركية. يبس طعم القبلة في شفتيك وتشقق. تسللت كل التعاويذ التي كنت تحفظها في ذاكرتك وكنت تنوي الاستعانة بها في عبور الفسحة اللعينة وتركتك وحيدا. الآن أنت وهو والظلام. كيس مليئ بالخوف مقابل كائن غامض متحفز من ذلك النوع السادي الذي يتلذذ بتعذيب ضحاياه قبل التهامهم. لم يدعك تفكر كثيرا: فكرت في الهرب ها! لا تخجل مني. هيا أهرب اذا كان فيه الخلاص. أركض بأقصى خوف لديك. أصعد على صهوة نفسك و أطلق لها العنان; دعها تركض في مضمار الانفعلات الحبيسة.
ابتسم بسخرية: لكنك حتما ستجدني أنتظرك في نهاية الشوط.
ونفسك تذوب كقطعة ثلج في دواخلك الفائرة; أطلق ضحكة عالية: كاذب من يقول أنه رأني ولم يضحك ثم فجأة ينفجر بالبكاء.
وأنت تمسك طرف انفعالاتك بأسنانك وتركض وتركض وتركض. تسمعه يهمس في أذنك: باقي شوط.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى