حسن الرموتي - المحارب

في محطة القطار، المكيفة والمضاءة نهارا، أناس كثيرون يدخلون ويغادرون، آخرون ينتظرون، أحيانا يثرثرون، وقطارات كثيرة تمر كتحية العَجلان، بعد أن تتوقف لدقيقة أو لدقيقتين.

كان المحارب وحده، من دون رفيق، وبلا حقيبة، يتأمل نقوش سقف المحطة، والنقوش لا يعبأ بها أحد سواه، ثم يرنو إلى اللوحة الإلكترونية الكبيرة، الملونة والمعلقة على الجدار المقابل لمقهى المحطة، «مقهى الجامعة العربية»، خمن في نفسه أنها يابانية الصنع، وتعجب لقدرة هؤلاء القوم، وأحسّ بغصّة في حلقه وهو يتأمل اسم المقهى وقد كتب بخط رديء.

توقف يطالع أسماء المدن والمحطات، وربما العواصم التي حلم كثيرا بزيارتها وتأسف لأنه لم يزرها يوما. فجأة جاءه صوت نسائي يقول بحنان مبالغ فيه:

- المسافرون الكرام، رحلة القطار رقم 48 الذاهب إلى عروبستان. ستتأخر الرحلة لساعتين بسبب عطب في فرامل القطار ومقصورة القيادة، الأعمال جارية لإصلاح الأعطاب، فمعذرة.

ابتسم المحارب أمام الاعتذار، وكاد يبكي للأعطاب التي أصابت مقصورة القيادة، فبحكم خبرته كمحارب وكقائد لدبابة، يعرف أن إصلاح مثل هذا العطب يتطلب أكثر من ساعتين.

سار نحو المقهى متثاقلاً ليتناول سائلاً باردًا لم يحدده في ذهنه بعد، فقد أحسّ بجفاف في حلقه. لم تكن وثيرة كراسي المقهى كما كان يعتقد وهو يقرأ اسم المقهى. ترك جسده يستسلم بهدوء للكرسي، وأشار إلى النادل بيده، ثم تأمل كراسي المقهى وهي تبدّل روادها كما تبدّل القطارات مسافريها، وابتسم في أعماقه لهذا التشبيه. أنهى مشروبه ولم يحس بطعمه. المهم عنده أنه كان باردا. قام بخطوات وئيدة وسار نحو كراسي الانتظار، اختار واحدا على مقاسه، ثم تمدد بكامل قامته، ولم يضمّ ركبتيه إلى صدره ليلتمس الدفء كما تعود أن ينام أيام الحرب. أراد أن يستسلم لغفوة مادام القطار لن يصل إلا بعد ساعتين أو أكثر.

قبل أن يغالبه النوم، استعرض أمام عينيه شريط يومه في المدينة: دخان السيارات وزعيقها، الغبار المتطاير، الكلب الذي كاد أن يقضم جزءاً من ساقه لولا ردة فعله وحذره الكبير الذي تعلمه في الحرب الأخيرة، الشحاذ الذي لعنه وسبّه عندما قال له المحارب إنه لا يملك نقودًا وإنه جاء إلى المدينة بحثًا عن تعويضات لإصابته في المعركة، أطفال المدارس وهم يئنون تحت ثقل محافظهم المدرسية، وعجوز يراود امرأة.

على الكرسي الممتد في المحطة، كان المحارب قد استسلم لنوم عميق. الناس لايزالون يدخلون ويخرجون، رجالاً و نساءً وأطفالاً، والقطارات تمرّ، تتوقف قليلا ثم تمضي، واللوحة الإلكترونية لاتزال تغيّر مواعيدها وأسماءها، ونادل المقهى يتنقل بين الكراسي بفرح طفولي واضح وابتسامته لا تتغير. حين استفاق المحارب، فرك عينيه المثقلتين بالنعاس، ثم وضع على عينيه نظارته الطبية التي تركها بجانبه عندما نام. رنا إلى الساعة الكبيرة المعلقة على الجدار المقابل للمقهى، وأدرك أنه نام لساعات طويلة تعادل السنوات. انتصب واقفًا وكاد أن يصيح في العابرين:

- لماذا لم توقظوني؟

ضرب الكرسي الخشبي بكفيه بكل قوة، التفت يمينًا ويسارًا وأدرك أن أحدًا لن يجيب، وأن أحدًا لن ينظر إليه ولو نام فوق الكرسي لسنة كاملة. حارس المحطة وحده، ببذلته المميزة، كان ينظر إليه من دون أن يتحرك من مكانه. وقبل أن يقوم هو من فوق الكرسي، عاد الصوت النسائي من مكبر الصوت من جديد، وبدلال مبالغ فيه هذه المرة وهو يكرر:

- أيها المسافرون الكرام، رحلة القطار رقم 67 المتجهة إلى عربستان، القطار سيصل بعد ساعة، نتمنى لكم رحلة مريحة على خطوطنا.

أدرك من خلال المقارنة بين الرقمين أن قطارات كثيرة فاتته، وأن الرقمين يعنيان له شيئًا، لكنه لم يستطع أن يحدده. حاول أن ينسى الرقمين، وكان عليه فقط أن ينتظر ساعة أخرى وألا ينام. ظلّ المحارب يراقب النادل واسم المقهى المكتوب بخط رديء رادءة واقعه، يراقب القطارات وهي تمرّ، كأنها تدوس أعصابه والمحارب لايزال ينتظر.

حسن الرموتي


* قصة فائزة بمسابقة البي بي سي ومجلة العربي للقصة القصيرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى