منذ أن شيّدوا هذا المستشفى في مدينتا الصغيرة القريبة من النهر، أصبحت حياتنا أقل مشقة. قبل حوالي عامين فقط، كنا نضطر للانتقال إلى العاصمة، وبالنسبة لي، كان الأمر عذاباً على مدى الأيام الستة التي تستغرقها العملية الجراحية.
ولم يكن ما يهمّني هو العملية فقط في حقيقة الأمر، بل يومي الذهاب والعودة، وركوب القطار والرعب الملازم له، وصوت تكسر القضبان، واضطراري إلى التخلي عن تواتر ساعات يومي التي تتهادى أمامي وأنا ممسك بها أفعل بها ما تعوّدت على فعله كل يوم.
هكذا كان يحدّث نفسه وهو يضع غياره الداخلي ومنامته وشبشبه ومنشفته بهدوء ودقة في حقيبته الصغيرة، فأمامه ساعات عدة ثم يستأجر (تاكسي) لينطلق إلى مستشفاه في أقل من نصف ساعة. وابتسم عندما تذكر أنه كاد ينادي على زوجته لتناوله فرشاة أسنانه وعدة الحلاقة، مثلما يحدث عادة عندما يكون في طريقه إلى أداء إحدى مهام عمله في المدن القريبة. فكّر في أن يسرق غفوة سريعة ليتمكن من تجاوز الدقائق المتعين عليه خلالها أن يودع زوجته وابنتيه.
مرة، كل عامين تقريباً يتوجه شأن كل سكان المدينة منذ يبلغ الواحد منهم 18 عاماً، للمستشفى لإصلاح ما أصاب رأسه من عطب. يذبح الأطباء الرأس من نصف الرقبة ويذهبون به إلى القسم المختص بالصيانة وإعادة تحميل البرامج وتركيب قطع غيار جديدة للأجزاء التالفة. وأثناء هذه العملية التي تستغرق أربعة أيام في العادة، يبقى الواحد في المستشفى بلا رأس، لا يستطيع أن يتوجه إلى دورة المياه دون مساعدة الممرضات، وهو ما كان يؤلمه في الحقيقة أكثر من العملية ذاتها التي تكررت على مدى أكثر من عشرين عاماً حتى الآن، حيث يضطر لاستخدام المرحاض بمساعدة امرأة لا ترى منه إلا إفرازاته.
بقية اليوم يقضيه الواحد على فراشه مستلقياً، وقد يتجاذب أطراف الحديث مع زملائه القريبين في العنبر الذي يكون عادة مفككاً وكوميدياً على نحو ما، حيث جسم كل منهم في مرحلة مختلفة من العملية، خصوصاً لأن الصوت المنبعث من نصف الحنجرة فقط ينفلت قبل أن تشكّله عضلات اللسان والشفتين. إذا كنا في الشتاء، قال لنفسه، مثل هذه الأيام، نتبع الشمس في الشرفات الواسعة وممرات العنابر، يصطدم بعضنا ببعض، ونتبادل الاعتذارات والتعارف، بل ويتواعد الكثير منّا على اللقاء بعد الخروج.
بالطبع يهتف الواحد ساعتها بأي اسم، وفي غمرة الحماس، كان بعضنا يمر على (الاستقبال) بعد خروجه، ويطلب أسماء الذين كانوا معه في عنبره، لكن لا أحد يجد وقتاً بعد خروجه وسرعان ما ننسى.
تمدد على سريره وقد هاجمه الصداع، فرأسه كان قد مضى عليه عامان دون صيانة، وآن له أن يستريح من ذلك الدوي الساكن أذنيه وذلك الضجيج الذي ينفلت أحياناً ويمنعه من العمل تماماً.
كان جائعاً، غير أنه شعر بالغثيان عندما تذكر رائحة الطعام. زوجته ستمر على البنتين في مدرستهما وتصحبهما إلى هنا بعد قليل، ثم يحمل حقيبته ويودعهن متجهاً إلى المستشفى.
كان جانب من السماء يبدو عبر زجاج النافذة، ورأى قطع السحاب تهرع للتضام، وشعر بالبرد، غير أنه كان أكسل من أن يفرد الغطاء على جسمه وانكمش في مكانه.
رن جرس الهاتف، كان المتحدث على الطرف الآخر إحدى زميلاته في المكتب، ودّعته ونقلت إليه تحيات وتمنيات بقية مرءوسيه وزملائه، فشكرها وكلّفها بأن تنقل للجميع تأثره من هذه اللفتة وودعها بسرعة، فقد كان جرس الباب قد دق، ليس هذا موعد زوجته، ثم أنها تفتح بمفتاحها. من العين السحرية في الباب رأى صبياً يحمل سلة ورد، شكر الصبي ودفع له بورقة مالية، ثم وضع السلة على المنضدة، فلمح الكارت الذي حفل بأسماء مرءوسيه وزملائه. ابتسم لنفسه، وهو يعبر الطريق إلى حجرته.
لا يكاد يتذكر أحداً يحمل له غضاضة أو بينه وبينه أي مشاكل. إنه لا يكاد يعرفهم، سواء كانوا مرءوسيه أو زملاءه ، ومع ذلك فهو ودود مع الجميع ومهذب وحريص، بل هو بخيل ليس فقط في التصرّف في الجنيهات القليلة التي يحصل عليها أول كل شهر، إنما بخيل أيضاً في مشاعره ولا يفرّط فيها بسهولة. لا يتذكر أنه كان عاطفياً على نحو ما، حتى زوجته (حنان) لا يشعر بشيء خاص يربط بينها وبينه منذ سنوات، ربما بنتيه فقط، وفي بعض الأوقات القليلة التي يختطفها من زحمة الشغل، لم يخن زوجته إلا مرات قليلة جداً، كان آخرها إحدى صديقاتها التي كانت كثيرة التردد عليهما، واستطاع أن يخفي عن زوجته هذه العلاقة التي استمرت عامين من فرط حرصه ودقة القناع الذي يرتديه عند اللزوم. واكتشفت، بالصدفة، حين تكرر شمّها لرائحته في ملابسها ورائحتها في جسمه، فظلت تضيّق الخناق عليهما ثم طردتها وحرّمت عليها دخول البيت، ولم يعارض هو، ولم يقبل أيضاً، بل تجاهل الأمر بكامله حتى مرّت العاصفة، وبعدها لم يعد لديه صبر على متابعة الطريدة وحصارها حتى يوقعها في شركه.
انتفض فجأة من غفوته ونظر في الساعة، لم تتجاوز الغفوة عشر دقائق، ونهض رغم الدوار الذي أجبره على إغماض عينيه، واختطف الحقيبة متجهاً إلى الباب، لكنها فاجأته بالبنتين وقد دخلت لتوّها. صاحت:
(هل كنت تنوي الذهاب دون أن ترانا? لا أصدق...).
وابتسمت له تلك الابتسامة التي تعني أنها تريده، لم يكن لديه وقت، وكان خائفاً من التأخر على مستشفاه، كما أن الدوار كان يثقل على صدغيه، البنت الأكبر (منى) دخلت في حضنه، فأسقط الحقيبة واحتضنها بدوره، ثم وجّه الكلام لثلاثتهن: (معقول.. أنا كنت أجهّز نفسي.. كنت أنوي الانتظار..)، ثم اقترب منها ونظر في عينيها محاولاً أن يكون بريئاً. قال بصوت خفيض: (أنا متأخر.. وأنت تعرفين مواعيد المستشفى...).
كانت حنان قد غيّرت رأسها منذ ثلاثة شهور فقط، لذلك كانت تتميز بتلك الحيوية التي تعقب العملية، بينما كان هو في (نهاية الخط)، وفكّر للحظة في أن يترك لها قياده تماماً، ثم قرر أن يفعل هذا على الفور. قال لها:
(نتغدى بسرعة.. سوف أساعدك...). قهقهت قائلة وهي تشعر أنه لم يستطع أن يقف في وجه غوايتها: )سآخذ حمّاماً.. وكل ما عليك أن تفعله تخرج الطعام من فرن البوتاجاز... الطعام جاهز..).
تأخرت حنان، وأصرّت البنتان على أن تبدآ الأكل فور أن وضعه أبوهما على المنضدة، فجلس يأكل صامتاً معهما، بينما هما تثرثران معه بلا توقف، ثم صمتتا ضجراً من سكوته، نهضتا، الواحدة تلو الأخرى، وقبلتاه بسرعة قبل أن تنسحبا إلى الداخل، كان الدوار يزداد، وثمة ذلك الثقل عند صدغيه يضبب الرؤية أمامه.
عندما خرجت، كانت مرتدية روب الحمام والماء يقطر من شعرها ووجهها، فتتألق عيناها الواسعتان السوداوان اللتان تمنحان وجهها براءة. تقدمت نحوه متسائلة بعينيها، فأجابها بعينيه أيضاً... قالت أخيراً:
(ولا يهمك... بعد أسبوع واحد سترجع لنا...).
وصمتت برهة ثم أضافت وهي ترى الوهن قد بدأ يستبد به:
(ولنسافر معاً في إجازة قصيرة فور عودتك..).
اختطف حقيبته ووقف أمامها، كانت تشع بهاء ورائحتها العذبة تعصف به. أغمض عينيه وهو يتراجع بظهره، وفي لحظة واحدة كان قد فتح الباب وأصبح على السلالم.
استوقف أول تاكسي، وعندما جلس، كان يشعر بتلك الكآبة المقبضة التي تشبه الخوف وقد تلبسته.
لكنه أسبوع على أي حال سرعان ما يمر، تذكر وهو يتطلع عبر النافذة تلك البدايات التي تعقب خروجه، لا يستطيع التحكم في أعضائه، وأفكاره تسبق تصرّفاته، يخطئ في أمور بدهية مثل تفادي الدرجة الأخيرة المكسورة من سلم البيت، أو الانحناءة الخفيفة في الردهة الضيقة التي تربط حجرته بحجرة مرءوسيه، وتضطرب علاقته الزوجية قليلاً، غير أن كل شيء يعود في النهاية للانتظام والانضباط.
هبط أمام المستشفى ، واتجه الى الباب السابح في شمس الشتاء الخفيفة، أخرج الكارت الممغنط وناوله للموظف، ومضى إلى الداخل مستسلماً، انساب إلى الحجرة الأولى، وعلى الفور بدأوا في عملهم، مددوه على المنضدة وأخذوا عيّناتهم وأشعاتهم وقياساتهم المختلفة، ثم خدّروه وذبحوه، خيّطوا الجرح، وريثما يستفيق، واصلوا شغلهم، وجهّزوا محاليلهم ليغذّوه عبر وريده.
ركّزوا عملهم في الحنجرة وحبالها الصوتية وتحت إبطيه وثدييه، وانتقلوا إلى بعض الغدد، ثم أخرجوه في النهاية بالطبع، وذهبوا به إلى العناية المركزة.
الرأس يذهب إلى قسم خاص يحتل المبنى الرئيسي في المستشفى تحيط به أشجار فاكهة كثيفة، لكنها لا تستطيع أن تتصدى لرائحة اللحم البشري، فقد كانوا يحلقون الرءوس قبل الفتح والإعداد، ثم يستلمها المتخصصون الذين يعيدون تحميل البرامج على ديسكات توضع في أماكنها المحددة، مع إعادة النظر في مراكز المخ المختلفة لتغيير ما يستوجب تغييره. وعندما يفيق الجسم من التخدير في العناية المركزة، ينقلونه إلى العنابر على الفور.
استسلم للفراش الذي مدّدوه عليه. كان يشعر بوهن شديد، شيء أقرب إلى الموت وهو يحاول السيطرة على أعضائه. لكنه بدأ في الحركة في صباح اليوم التالي. تعرّف على أصوات تنغلق من الثقوب التي تستخدم في التنفس من أعلى منتصف الرقبة. كانت بقايا الذاكرة تستطيع التكيّف مع العادات التي تطبع الأعضاء بطابعها، ويمكن تسيير الأمور، بل وتبادل بعض العبارات بين نزلاء العنبر. في الصباح، يحقنونه بالمحاليل، ثم يتركوه حتى الخامسة عصراً، ما إن ينتهوا من حقنه، حتى يبدأ سيره الهوينى إلى ما بدا له أنه شرفة واسعة ويشم من ثقوب التنفس رائحة لا يستريح جسمه لها، ويكاد يخذله عائداً، لكنه كان يكاد يميز لحناً بعيداً، فانصرف له يتابعه حائراً، يقضي جسمه كل الوقت محاولاً الوقوف أمام إغراءات المغامرات التي تلوح له لو انفلت من بقايا الذاكرة التي تأمره وتزجره أغلب الأحيان.
ففي اليوم الأول، بعد أن شطفته الممرضة وسارت به قليلاً، استند عليها ومدّ ذراعه قابضاً على كتفها، وعندما ضغط عليها، فاجأته هي بدفعة قوية خبطته في الجدار المواجه، فسقط على الأرض.
قرر أن يستمر في سقوطه أمامها، ومضى من فتحتي تنفسه يحاول التأوّه بأقصى ما يستطيعه من صوت، لكنهم كانوا قد خدّروا حباله الصوتية في إجراء احترازي معمول به مع جميع مَن يدخلون هذا المستشفى الذي ينفرد بتقديم تلك الخدمة المتطورة، بعد فترة، أدرك أنها تركته وسارت في طريقها عقاباً له ولاشك.
تلك المغامرات التي ينفلت فيها من بقايا ذاكرته هي ما يثيره ويدفعه للمزيد، نهض ومدّ يديه أمامه حتى لامس الجدار الآخر، وانحرف مع الدهليز وقطع المسافة الباقية دون أي مشاكل. لمّا ميّز رائحة هواء الشرفة، تقدم يتبعها، حيث تختلط رائحة اللحم البشري الزفرة برائحة أشجار الفواكه. هاهو سور الشرفة الحديدي أخيراً بملمسه البارد. استعد للتورّط في مغامرة أخرى حين اصطدم جسمه بجسم آخر، وكاد يقع بالفعل، إلا أنه احتمى بالتشبث بسور الشرفة، وأدرك في هذه اللحظة فقط أنه مادام من اصطدم به عرّض نفسه لسقطة أشد عنفاً، فلابد أن يكون هذا الشخص بلا رأس مثله، فانكمش على نفسه ومضى يبحث عن مقعد يستريح عليه.
جلس هادئاً يستجمع بقايا ذاكرته التي يحتفظ بها جسمه وتعينه على قضاء الأيام الباقية، كان عليه أن يستسلم بعد مرور الأيام الثلاثة الأولى لهم تماماً، حين يكون جسمه قد فقد هذه البقايا فيفعلون به ما يشاءون، حتى يعيدوا له رأسه ويبدأ في استعادة دماغه، الأسابيع الأولى تكون بهجة في جنونها حين يتملّكه الطيش ولا يقدر على السيطرة على نزواته، ولا يلبث بعد ذلك أن ينضبط وتمضي الأمور كما ينبغي لها. يعرف أنه من المؤكد أنه سيتخلص من ذلك الدوي الذي يدق رأسه لفترة قد تمتد لعامين، وستعود العلاقة بينه وبين زوجته وابنتيه.
في المرات السابقة التي أجرى فيها عمليات الصيانة الدورية لدماغه، كان ينصرف بكليته صاغراً لمباهج الحياة الزوجية، فيخرج معهن في نزهات مسائية إلى النادي، وفي إحدى المرات اصطحبهن في إجازة قصيرة إلى مدينة ساحلية اعتاد فنادقها، ظل مفتوناً بالمطر الذي يسقط في الخارج وهو يتطلع إليه من خلف النافذة الزجاجية العريضة ذات الطراز المعماري العائد إلى أكثر من مائة عام خلت.
طاوعته أعضاؤه على النهوض، وتقدم بضع خطوات حتى السور الحديدي وقبض عليه، ثم توقف ساكناً، قرر أن يتجوّل بغير هدف، وسوف يتكفلون هم بإعادته فيما لو فقد اتجاهه من خلال الكارث الممغنط المعلق على صدره. قادته قدماه، ومضى يسير الهوينى واضعاً يديه في جيبيه. وعندما تكررت اصطداماته بالآخرين، تعوّد على مد كوعيه قدر الإمكان ليتحاشى السقوط بين الحين والآخر، وما لبث أن هبط الدرج، وأعجبته اللعبة وجعل يختال بنفسه وهو يهبط متوازناً على درجات السلم.
راح يقطع ممرات، ويمشي في دهاليز مصطدماً بالآخرين، كانت الاصطدامات من القوة أحياناً بحيث تلقيه على الأرض، لكنه وجد نفسه لا يستطيع مقاومة النهوض ومعاودة السير، بعد أن يتركه الآخرون ويتأكد أن لا أحد سوف يساعده. هبط سلالم، وعندما يجد أن هناك سلالم صاعدة لا يفلتها ويقطعها عدواً، وانتابته رغبة في الركض سرعان ما نفذها في الحال. انتفض يزيد من سرعته، وتصبح اصطداماته أشد. أطلق لساقيه الريح، ومضى يقفز ويقفز حتى اصطدم بباب مغلق فتكوّم بجواره.
في اليوم التالي، ربطوه طوال النهار بعد أن عادت به ممرضتان شديدتان من دورة المياه، وتركوه بعد حقنه بمهدئ قوي، تكرر الأمر نفسه في اليوم التالي، كانوا قد حاولوا ترميم عظامه بجبائر عدة هنا وهناك، غير أن الكاحل كان قد شُرخ فعملوا له (تلبيسة) خاصة من معدن يفرز مادة تساعد على الالتئام. في اليوم التالي طلبوه، فساقه ممرضان على سريره حتى المبنى الرئيسي، وعاد في مساء اليوم نفسه كاملاً برأسه، لكنه فاقد الوعي بطبيعة الحال، وبعد مرور أربع وعشرين ساعة، بدأ في الحركة، ولم يمض يوم إلا والتأم الجرح.
قرب الثالثة عصراً، كان قد تناول غداءه في الكافتيريا وتسلّم الكارت الممغنط، منهياً كل إجراءاته على الرغم من الشرخ الذي كان قد أصاب كاحله أثناء اجتياحه للممر بعد اليوم الأول من العملية بلا رأس. لم يكن مستريحاً على الإطلاق منذ استرد وعيه. عزا عدم قدرته على السيطرة على أعضائه إلى الوهن العادي الذي يصيب الواحد. لكن هذا استمر، بل وازداد وانتابه قلق وهو يتلفت حواليه خارجاً من الباب ومعه حقيبته الصغيرة نفسها التي دخل بها.
ما إن عبر إلى الخارج وسار بضع خطوات في الشمس الدافئة، حتى اندفعت إلى أحضانه امرأة ساحرة، وعرفت شفتيه طريقهما إلى خدها، فشمّ رائحة لم يسبق له أن عرفها من قبل. ثم أنها كانت تثرثر بصوت لم يألفه على الرغم من أنه صوت ساحر مثلها ومثل شعرها المعمول ذيل حصان، وملموم من على جبهتها. كانت معتنية بزينتها وعيناها السوداوان تتألقان وسط الكحل ومسكرة الرموش. كل هذا السحر لامرأة لا يعرفها.
أما هاتان البنتان اللتان اندفعتا إلى أحضانه، فكانتا مثل قمرين، لكنه لايعرفهما أيضا، وهكذا قدنه إلى السيارة، لحظتها أدرك وهو يتقدم نحو عجلة القيادة لا يدري كيف يبدأ، لحظتها أدرك أن هناك خطأ ما.
ابريل 2001
ولم يكن ما يهمّني هو العملية فقط في حقيقة الأمر، بل يومي الذهاب والعودة، وركوب القطار والرعب الملازم له، وصوت تكسر القضبان، واضطراري إلى التخلي عن تواتر ساعات يومي التي تتهادى أمامي وأنا ممسك بها أفعل بها ما تعوّدت على فعله كل يوم.
هكذا كان يحدّث نفسه وهو يضع غياره الداخلي ومنامته وشبشبه ومنشفته بهدوء ودقة في حقيبته الصغيرة، فأمامه ساعات عدة ثم يستأجر (تاكسي) لينطلق إلى مستشفاه في أقل من نصف ساعة. وابتسم عندما تذكر أنه كاد ينادي على زوجته لتناوله فرشاة أسنانه وعدة الحلاقة، مثلما يحدث عادة عندما يكون في طريقه إلى أداء إحدى مهام عمله في المدن القريبة. فكّر في أن يسرق غفوة سريعة ليتمكن من تجاوز الدقائق المتعين عليه خلالها أن يودع زوجته وابنتيه.
مرة، كل عامين تقريباً يتوجه شأن كل سكان المدينة منذ يبلغ الواحد منهم 18 عاماً، للمستشفى لإصلاح ما أصاب رأسه من عطب. يذبح الأطباء الرأس من نصف الرقبة ويذهبون به إلى القسم المختص بالصيانة وإعادة تحميل البرامج وتركيب قطع غيار جديدة للأجزاء التالفة. وأثناء هذه العملية التي تستغرق أربعة أيام في العادة، يبقى الواحد في المستشفى بلا رأس، لا يستطيع أن يتوجه إلى دورة المياه دون مساعدة الممرضات، وهو ما كان يؤلمه في الحقيقة أكثر من العملية ذاتها التي تكررت على مدى أكثر من عشرين عاماً حتى الآن، حيث يضطر لاستخدام المرحاض بمساعدة امرأة لا ترى منه إلا إفرازاته.
بقية اليوم يقضيه الواحد على فراشه مستلقياً، وقد يتجاذب أطراف الحديث مع زملائه القريبين في العنبر الذي يكون عادة مفككاً وكوميدياً على نحو ما، حيث جسم كل منهم في مرحلة مختلفة من العملية، خصوصاً لأن الصوت المنبعث من نصف الحنجرة فقط ينفلت قبل أن تشكّله عضلات اللسان والشفتين. إذا كنا في الشتاء، قال لنفسه، مثل هذه الأيام، نتبع الشمس في الشرفات الواسعة وممرات العنابر، يصطدم بعضنا ببعض، ونتبادل الاعتذارات والتعارف، بل ويتواعد الكثير منّا على اللقاء بعد الخروج.
بالطبع يهتف الواحد ساعتها بأي اسم، وفي غمرة الحماس، كان بعضنا يمر على (الاستقبال) بعد خروجه، ويطلب أسماء الذين كانوا معه في عنبره، لكن لا أحد يجد وقتاً بعد خروجه وسرعان ما ننسى.
تمدد على سريره وقد هاجمه الصداع، فرأسه كان قد مضى عليه عامان دون صيانة، وآن له أن يستريح من ذلك الدوي الساكن أذنيه وذلك الضجيج الذي ينفلت أحياناً ويمنعه من العمل تماماً.
كان جائعاً، غير أنه شعر بالغثيان عندما تذكر رائحة الطعام. زوجته ستمر على البنتين في مدرستهما وتصحبهما إلى هنا بعد قليل، ثم يحمل حقيبته ويودعهن متجهاً إلى المستشفى.
كان جانب من السماء يبدو عبر زجاج النافذة، ورأى قطع السحاب تهرع للتضام، وشعر بالبرد، غير أنه كان أكسل من أن يفرد الغطاء على جسمه وانكمش في مكانه.
رن جرس الهاتف، كان المتحدث على الطرف الآخر إحدى زميلاته في المكتب، ودّعته ونقلت إليه تحيات وتمنيات بقية مرءوسيه وزملائه، فشكرها وكلّفها بأن تنقل للجميع تأثره من هذه اللفتة وودعها بسرعة، فقد كان جرس الباب قد دق، ليس هذا موعد زوجته، ثم أنها تفتح بمفتاحها. من العين السحرية في الباب رأى صبياً يحمل سلة ورد، شكر الصبي ودفع له بورقة مالية، ثم وضع السلة على المنضدة، فلمح الكارت الذي حفل بأسماء مرءوسيه وزملائه. ابتسم لنفسه، وهو يعبر الطريق إلى حجرته.
لا يكاد يتذكر أحداً يحمل له غضاضة أو بينه وبينه أي مشاكل. إنه لا يكاد يعرفهم، سواء كانوا مرءوسيه أو زملاءه ، ومع ذلك فهو ودود مع الجميع ومهذب وحريص، بل هو بخيل ليس فقط في التصرّف في الجنيهات القليلة التي يحصل عليها أول كل شهر، إنما بخيل أيضاً في مشاعره ولا يفرّط فيها بسهولة. لا يتذكر أنه كان عاطفياً على نحو ما، حتى زوجته (حنان) لا يشعر بشيء خاص يربط بينها وبينه منذ سنوات، ربما بنتيه فقط، وفي بعض الأوقات القليلة التي يختطفها من زحمة الشغل، لم يخن زوجته إلا مرات قليلة جداً، كان آخرها إحدى صديقاتها التي كانت كثيرة التردد عليهما، واستطاع أن يخفي عن زوجته هذه العلاقة التي استمرت عامين من فرط حرصه ودقة القناع الذي يرتديه عند اللزوم. واكتشفت، بالصدفة، حين تكرر شمّها لرائحته في ملابسها ورائحتها في جسمه، فظلت تضيّق الخناق عليهما ثم طردتها وحرّمت عليها دخول البيت، ولم يعارض هو، ولم يقبل أيضاً، بل تجاهل الأمر بكامله حتى مرّت العاصفة، وبعدها لم يعد لديه صبر على متابعة الطريدة وحصارها حتى يوقعها في شركه.
انتفض فجأة من غفوته ونظر في الساعة، لم تتجاوز الغفوة عشر دقائق، ونهض رغم الدوار الذي أجبره على إغماض عينيه، واختطف الحقيبة متجهاً إلى الباب، لكنها فاجأته بالبنتين وقد دخلت لتوّها. صاحت:
(هل كنت تنوي الذهاب دون أن ترانا? لا أصدق...).
وابتسمت له تلك الابتسامة التي تعني أنها تريده، لم يكن لديه وقت، وكان خائفاً من التأخر على مستشفاه، كما أن الدوار كان يثقل على صدغيه، البنت الأكبر (منى) دخلت في حضنه، فأسقط الحقيبة واحتضنها بدوره، ثم وجّه الكلام لثلاثتهن: (معقول.. أنا كنت أجهّز نفسي.. كنت أنوي الانتظار..)، ثم اقترب منها ونظر في عينيها محاولاً أن يكون بريئاً. قال بصوت خفيض: (أنا متأخر.. وأنت تعرفين مواعيد المستشفى...).
كانت حنان قد غيّرت رأسها منذ ثلاثة شهور فقط، لذلك كانت تتميز بتلك الحيوية التي تعقب العملية، بينما كان هو في (نهاية الخط)، وفكّر للحظة في أن يترك لها قياده تماماً، ثم قرر أن يفعل هذا على الفور. قال لها:
(نتغدى بسرعة.. سوف أساعدك...). قهقهت قائلة وهي تشعر أنه لم يستطع أن يقف في وجه غوايتها: )سآخذ حمّاماً.. وكل ما عليك أن تفعله تخرج الطعام من فرن البوتاجاز... الطعام جاهز..).
تأخرت حنان، وأصرّت البنتان على أن تبدآ الأكل فور أن وضعه أبوهما على المنضدة، فجلس يأكل صامتاً معهما، بينما هما تثرثران معه بلا توقف، ثم صمتتا ضجراً من سكوته، نهضتا، الواحدة تلو الأخرى، وقبلتاه بسرعة قبل أن تنسحبا إلى الداخل، كان الدوار يزداد، وثمة ذلك الثقل عند صدغيه يضبب الرؤية أمامه.
عندما خرجت، كانت مرتدية روب الحمام والماء يقطر من شعرها ووجهها، فتتألق عيناها الواسعتان السوداوان اللتان تمنحان وجهها براءة. تقدمت نحوه متسائلة بعينيها، فأجابها بعينيه أيضاً... قالت أخيراً:
(ولا يهمك... بعد أسبوع واحد سترجع لنا...).
وصمتت برهة ثم أضافت وهي ترى الوهن قد بدأ يستبد به:
(ولنسافر معاً في إجازة قصيرة فور عودتك..).
اختطف حقيبته ووقف أمامها، كانت تشع بهاء ورائحتها العذبة تعصف به. أغمض عينيه وهو يتراجع بظهره، وفي لحظة واحدة كان قد فتح الباب وأصبح على السلالم.
استوقف أول تاكسي، وعندما جلس، كان يشعر بتلك الكآبة المقبضة التي تشبه الخوف وقد تلبسته.
لكنه أسبوع على أي حال سرعان ما يمر، تذكر وهو يتطلع عبر النافذة تلك البدايات التي تعقب خروجه، لا يستطيع التحكم في أعضائه، وأفكاره تسبق تصرّفاته، يخطئ في أمور بدهية مثل تفادي الدرجة الأخيرة المكسورة من سلم البيت، أو الانحناءة الخفيفة في الردهة الضيقة التي تربط حجرته بحجرة مرءوسيه، وتضطرب علاقته الزوجية قليلاً، غير أن كل شيء يعود في النهاية للانتظام والانضباط.
هبط أمام المستشفى ، واتجه الى الباب السابح في شمس الشتاء الخفيفة، أخرج الكارت الممغنط وناوله للموظف، ومضى إلى الداخل مستسلماً، انساب إلى الحجرة الأولى، وعلى الفور بدأوا في عملهم، مددوه على المنضدة وأخذوا عيّناتهم وأشعاتهم وقياساتهم المختلفة، ثم خدّروه وذبحوه، خيّطوا الجرح، وريثما يستفيق، واصلوا شغلهم، وجهّزوا محاليلهم ليغذّوه عبر وريده.
ركّزوا عملهم في الحنجرة وحبالها الصوتية وتحت إبطيه وثدييه، وانتقلوا إلى بعض الغدد، ثم أخرجوه في النهاية بالطبع، وذهبوا به إلى العناية المركزة.
الرأس يذهب إلى قسم خاص يحتل المبنى الرئيسي في المستشفى تحيط به أشجار فاكهة كثيفة، لكنها لا تستطيع أن تتصدى لرائحة اللحم البشري، فقد كانوا يحلقون الرءوس قبل الفتح والإعداد، ثم يستلمها المتخصصون الذين يعيدون تحميل البرامج على ديسكات توضع في أماكنها المحددة، مع إعادة النظر في مراكز المخ المختلفة لتغيير ما يستوجب تغييره. وعندما يفيق الجسم من التخدير في العناية المركزة، ينقلونه إلى العنابر على الفور.
استسلم للفراش الذي مدّدوه عليه. كان يشعر بوهن شديد، شيء أقرب إلى الموت وهو يحاول السيطرة على أعضائه. لكنه بدأ في الحركة في صباح اليوم التالي. تعرّف على أصوات تنغلق من الثقوب التي تستخدم في التنفس من أعلى منتصف الرقبة. كانت بقايا الذاكرة تستطيع التكيّف مع العادات التي تطبع الأعضاء بطابعها، ويمكن تسيير الأمور، بل وتبادل بعض العبارات بين نزلاء العنبر. في الصباح، يحقنونه بالمحاليل، ثم يتركوه حتى الخامسة عصراً، ما إن ينتهوا من حقنه، حتى يبدأ سيره الهوينى إلى ما بدا له أنه شرفة واسعة ويشم من ثقوب التنفس رائحة لا يستريح جسمه لها، ويكاد يخذله عائداً، لكنه كان يكاد يميز لحناً بعيداً، فانصرف له يتابعه حائراً، يقضي جسمه كل الوقت محاولاً الوقوف أمام إغراءات المغامرات التي تلوح له لو انفلت من بقايا الذاكرة التي تأمره وتزجره أغلب الأحيان.
ففي اليوم الأول، بعد أن شطفته الممرضة وسارت به قليلاً، استند عليها ومدّ ذراعه قابضاً على كتفها، وعندما ضغط عليها، فاجأته هي بدفعة قوية خبطته في الجدار المواجه، فسقط على الأرض.
قرر أن يستمر في سقوطه أمامها، ومضى من فتحتي تنفسه يحاول التأوّه بأقصى ما يستطيعه من صوت، لكنهم كانوا قد خدّروا حباله الصوتية في إجراء احترازي معمول به مع جميع مَن يدخلون هذا المستشفى الذي ينفرد بتقديم تلك الخدمة المتطورة، بعد فترة، أدرك أنها تركته وسارت في طريقها عقاباً له ولاشك.
تلك المغامرات التي ينفلت فيها من بقايا ذاكرته هي ما يثيره ويدفعه للمزيد، نهض ومدّ يديه أمامه حتى لامس الجدار الآخر، وانحرف مع الدهليز وقطع المسافة الباقية دون أي مشاكل. لمّا ميّز رائحة هواء الشرفة، تقدم يتبعها، حيث تختلط رائحة اللحم البشري الزفرة برائحة أشجار الفواكه. هاهو سور الشرفة الحديدي أخيراً بملمسه البارد. استعد للتورّط في مغامرة أخرى حين اصطدم جسمه بجسم آخر، وكاد يقع بالفعل، إلا أنه احتمى بالتشبث بسور الشرفة، وأدرك في هذه اللحظة فقط أنه مادام من اصطدم به عرّض نفسه لسقطة أشد عنفاً، فلابد أن يكون هذا الشخص بلا رأس مثله، فانكمش على نفسه ومضى يبحث عن مقعد يستريح عليه.
جلس هادئاً يستجمع بقايا ذاكرته التي يحتفظ بها جسمه وتعينه على قضاء الأيام الباقية، كان عليه أن يستسلم بعد مرور الأيام الثلاثة الأولى لهم تماماً، حين يكون جسمه قد فقد هذه البقايا فيفعلون به ما يشاءون، حتى يعيدوا له رأسه ويبدأ في استعادة دماغه، الأسابيع الأولى تكون بهجة في جنونها حين يتملّكه الطيش ولا يقدر على السيطرة على نزواته، ولا يلبث بعد ذلك أن ينضبط وتمضي الأمور كما ينبغي لها. يعرف أنه من المؤكد أنه سيتخلص من ذلك الدوي الذي يدق رأسه لفترة قد تمتد لعامين، وستعود العلاقة بينه وبين زوجته وابنتيه.
في المرات السابقة التي أجرى فيها عمليات الصيانة الدورية لدماغه، كان ينصرف بكليته صاغراً لمباهج الحياة الزوجية، فيخرج معهن في نزهات مسائية إلى النادي، وفي إحدى المرات اصطحبهن في إجازة قصيرة إلى مدينة ساحلية اعتاد فنادقها، ظل مفتوناً بالمطر الذي يسقط في الخارج وهو يتطلع إليه من خلف النافذة الزجاجية العريضة ذات الطراز المعماري العائد إلى أكثر من مائة عام خلت.
طاوعته أعضاؤه على النهوض، وتقدم بضع خطوات حتى السور الحديدي وقبض عليه، ثم توقف ساكناً، قرر أن يتجوّل بغير هدف، وسوف يتكفلون هم بإعادته فيما لو فقد اتجاهه من خلال الكارث الممغنط المعلق على صدره. قادته قدماه، ومضى يسير الهوينى واضعاً يديه في جيبيه. وعندما تكررت اصطداماته بالآخرين، تعوّد على مد كوعيه قدر الإمكان ليتحاشى السقوط بين الحين والآخر، وما لبث أن هبط الدرج، وأعجبته اللعبة وجعل يختال بنفسه وهو يهبط متوازناً على درجات السلم.
راح يقطع ممرات، ويمشي في دهاليز مصطدماً بالآخرين، كانت الاصطدامات من القوة أحياناً بحيث تلقيه على الأرض، لكنه وجد نفسه لا يستطيع مقاومة النهوض ومعاودة السير، بعد أن يتركه الآخرون ويتأكد أن لا أحد سوف يساعده. هبط سلالم، وعندما يجد أن هناك سلالم صاعدة لا يفلتها ويقطعها عدواً، وانتابته رغبة في الركض سرعان ما نفذها في الحال. انتفض يزيد من سرعته، وتصبح اصطداماته أشد. أطلق لساقيه الريح، ومضى يقفز ويقفز حتى اصطدم بباب مغلق فتكوّم بجواره.
في اليوم التالي، ربطوه طوال النهار بعد أن عادت به ممرضتان شديدتان من دورة المياه، وتركوه بعد حقنه بمهدئ قوي، تكرر الأمر نفسه في اليوم التالي، كانوا قد حاولوا ترميم عظامه بجبائر عدة هنا وهناك، غير أن الكاحل كان قد شُرخ فعملوا له (تلبيسة) خاصة من معدن يفرز مادة تساعد على الالتئام. في اليوم التالي طلبوه، فساقه ممرضان على سريره حتى المبنى الرئيسي، وعاد في مساء اليوم نفسه كاملاً برأسه، لكنه فاقد الوعي بطبيعة الحال، وبعد مرور أربع وعشرين ساعة، بدأ في الحركة، ولم يمض يوم إلا والتأم الجرح.
قرب الثالثة عصراً، كان قد تناول غداءه في الكافتيريا وتسلّم الكارت الممغنط، منهياً كل إجراءاته على الرغم من الشرخ الذي كان قد أصاب كاحله أثناء اجتياحه للممر بعد اليوم الأول من العملية بلا رأس. لم يكن مستريحاً على الإطلاق منذ استرد وعيه. عزا عدم قدرته على السيطرة على أعضائه إلى الوهن العادي الذي يصيب الواحد. لكن هذا استمر، بل وازداد وانتابه قلق وهو يتلفت حواليه خارجاً من الباب ومعه حقيبته الصغيرة نفسها التي دخل بها.
ما إن عبر إلى الخارج وسار بضع خطوات في الشمس الدافئة، حتى اندفعت إلى أحضانه امرأة ساحرة، وعرفت شفتيه طريقهما إلى خدها، فشمّ رائحة لم يسبق له أن عرفها من قبل. ثم أنها كانت تثرثر بصوت لم يألفه على الرغم من أنه صوت ساحر مثلها ومثل شعرها المعمول ذيل حصان، وملموم من على جبهتها. كانت معتنية بزينتها وعيناها السوداوان تتألقان وسط الكحل ومسكرة الرموش. كل هذا السحر لامرأة لا يعرفها.
أما هاتان البنتان اللتان اندفعتا إلى أحضانه، فكانتا مثل قمرين، لكنه لايعرفهما أيضا، وهكذا قدنه إلى السيارة، لحظتها أدرك وهو يتقدم نحو عجلة القيادة لا يدري كيف يبدأ، لحظتها أدرك أن هناك خطأ ما.
ابريل 2001