عبد السلام دخان - الغرباوية

تملكتني حلة من الغضب الشديد وأنا خارج من منزلي، او بالا حرى منزل زوجتي المراة التي عشقتها منذ أن رايتها أول مرة بمعهد سيرفانثيس وتبين فيما بعد أنها طالبة معي في نفس الشعبة.
لا أريد تذكر أي شيء فالحنين نحو الماضي يكاد يقتلني، الحنين نحو الموسيقى السبعينية، الحنين نحو الصداقات القديمة،الحنين نحو الحانات المهجورة،الحنين نحو الأحياء والدروب،نحو الملابس..
ثم تشويه كل شيء، وحتى هذا الحب الجميل الذي يربطني بحنان يكاد اليوم يختفي.
لم أكن أعير الأمر أي اهتمام، لكنها كلما واجهتني بصراخها الحاد كانت تحدوني رغبة قوية في تبني مالم أكن أومن، لذلك فقد صفعتها إلى حد صار وجهها مرآة لخطوط كفي.
الكل الآن يشعل سيجارته الأولى، البرد قارس، القطط مختبئة وراء القمامات، ووحده شارع باريز يستقبل النهار ببطء شديد، الفتيات الواقفات قبالة المخبزة يبتسمن بشكل مثير رغم آثار السهر البادية على وجوههن،ومع ذلك يبدو لي أني الوحيد المستيقظ هذا الصباح.
الساعة الان السادسة صباحا، علي الإسراع نحو المحطة..صعدت الحافلة ، كل الأماكن شاغرة اقتربت من إحدى المقاعد الخلفية حيث تجلس فتاة سمراء سألتها:
المقعد فارغ؟
قالت: نعم، ثم جلست. لم اهمس بأية كلمة، هي الأخرى لم تعرني أي اهتمام.
بدأت الحافلة تخيط الطريق ببطء معهود، تقترب وتبتعد عن ألوان المعامل القاتمة.اليافطات الاشهارية تتناسل بشكل غريب، وعلى طول الطريق كان يخيل إلي أن الشعاع المنبعث من الزجاج ينبعث من هاته السمراء الجالسة بجانبي والتي بدت مثل المغنية شاكيرا حيث كانت ترتدي سروال جينز ازرق تتوسطه مساحة بيضاء،وحزام جلدي عريض مثقل بقطع حديدية تتلالا وكانت ثمة مسافة فاصلة بين السروال والقميص الحريري وهو ما يسميه شبان الحي بفصل السلط
عيناها العسليتان..يداها الصلبتان جعلتني أتذكر لمسات زوجتي حنان وهي تداعب وجهي ونحن بمقصف الكلية. لهجتها التطوانية كانت تأسرني وتجعلني قريبا منها طوال الوقت.
أتذكر انه في الأسبوع الأول من زواجنا تشاجرت معها بسبب مسالة الإنجاب.تركت المنزل واتجهت نحو المحطة عائدا إلى منزل والدي بطنجة.وأنا أضع قدمي ليسرى في الدرج الأول للحافلة جذبني صوت رخيم بقوة إلى الأرض،كان يقول"خليك هنا خليك..احسست بقشعريرة وأدركت أن السيدة وردة تتحدث بلسان حنان وتدعوني للعودة إليها.
جلست بمقهى المحطة، وطلبت قهوة سوداء وتركت مشاعري تتلاطم مع بعضها.
وبعد أكثر من ساعتين عدت إلى المنزل فيما كانت حنان تجلس وحيدة منفعلة.
انتبهت إلى كون السمراء تحدق في يدي المعتادة على القلم والطباشير وعلى الاختباء في جيوب خالية حتى من القطع النقدية الصغيرة.
قلت لها وكأني اعرفها مند ومن طويل"
انظري إلى النساء الجبليات..
قالت: وما الجديد في الأمر، لقد اعتدت رؤيتهن كلما اتجهت إلى تطوان.
قلت لها:لكن لم لا يكون الرجال هم الواقفون طوال النهار، أتعلمين سبب ذلك؟
حركت رأسها بتعجب وكأنها لا تعرف الجواب.وحتى لا اتركها تستدير نحو النافذة تابعت حديثي قائلا:
لذلك معنى واحد، فالمراة الجبلية تشقى إلى حد التعب ولا يؤلمها ترك الزوج في البيت منتشيا بدخان الكيف، فالمراة تمشي على قدميها لمسافات طويلة بينما الرجل يمتطي دابته.
أحسست بالارتباك في اللحظة التي أدركت أني فشلت في جذبها إلي، ولان شهيتي كانت مفتوحة على الكلام فقد مزجت بين مواضيع مختلفة تارة عن اكراهات العمل، وتارة أخرى عن جيوش العجزة والأطفال..تداهمك في أي زمان ومكان طالبة منك درهما أو أكثر .ويضاف إلى هذه الجيوش أعداد أخرى من الأفارقة الذين اتخذوا من شمال المغرب محطة للعبور إلى الضفة الأوربية.
وهنا استعاد الحديث حيويته وأصبحت تستمع إلي بتمعن وتسرد تفاصيل من حياتها البائسة.
تدحرجت الدمعة فوق خدها وهي تحكي سيرة مؤلمة.. مجيئها من مدينة سوق الأربعاء إلى طنجة واستقرارها بحومة الشوك مع ابنة خالتها.
قالت: العمل بطنجة جد قاس فبالإضافة إلى ساعاته الطويلة وأجره الزهيد، هناك مشاكل نتعرض لها من زميلاتنا في العمل مثل القيل والقال والسرقة إضافة إلى مضايقات شبان الحي الذين يرغبون في امتلاك كل عاملة تسكن حيهم من اجل توفير ثمن المقهى والحشيش.
كان احدهم يعترض سبيلي باستمرار، حاول الاعتداء علي أكثر من مرة خاصة في الصباح الباكر، كاب يلاحقني في كل مكان وبالليل والنهار
قلت لها:ولم لم تغيري المسكن؟
أجابت:السكن بطنجة جحيم وإيجاده اقرب إلى المستحيل فلكي تجد مكانا للإقامة بوسط المدينة، أو في الأحياء القريبة من المنطقة الصناعية عليك أن تهب السماسرة كل مدخراتك المالية.وإذا وجدوا لك مسكنا فالأمر يتطلب دفع ثمن ثلاثة شهور يسمونها الضمانة إضافة إلى تكاليف ربط الماء والكهرباء وتكاليف أخرى..
الآن تركت طنجة ووجدت عملا آخر بالمنطقة الصناعية بمرتيل،لكني لن أبقى هنا لفترة طويلة.سأدخر قدرا من المال يمكنني من الهجرة إلى أسبانيا مثل صديقاتي.
ازداد إعجابي بها وهي تتحدث إلي تماما كما كانت تفعل حنان في مقصف الكلية
-وأنت يبدو من خاتمك انك متزوج؟
أجبتها:قد يكون ذلك صحيحا
ردت قائلة:ما يحزنني هو انك غير صريح
لا اقصد الكذب فانا فعلا متزوج من امرأة أحببتها كثيرا وحملت لها طوال السنوات الجامعية ورودا في لون وجنتيها.
ولما رأتني الغرباوية قد سكتت عن الكلام، قالت وكأنها تتابع مسلسلا مكسيكيا مدبلجا تصر على معرفة نهايته:
وماذا بعد؟
لاشيء فقد أدركت أخيرا أني لا ارغب في العيش معها.لسانها السليط الذي لا يتوقف عن سرد أسرار الناس وشخيرها الحاد، ورغبتها في التحكم في كل شيء حتى في ساعات النوم ومواضعه جعلني أخونها أكثر من مرة.
اسمع أسي عبد السلام: للخيانة دائما أسباب ومبررات، لكن الخطأ يكمن في الزوجة وليس في الزوج لأنها لم تمنحه شيئا هو في حاجة إليه.
اقتربت مني أكثر وقالت: إذا وجدت شخصا رومانسيا مثلك سأحضنه بصدري،ولا يهمني زواجه لأنه سيمنحني الحب والشعور بالأمان ببساطة لأنه سيعتني بي ويتألم لألمي.
كنت أود إخبارها بكون الورطة لا تكمن في زواجي المبكر،بل في أولادي الثلاثة الذين ينتظرون عودتي كل مساء محملا بالحلويات المجلوبة من سوق مرجان
بعد مرور اكثر من شهرين أصبحت معتادا على مجالستها خاصة في صباحيات الآحاد بمقهى الريو بمرتيل.
وهدا الصباح بعد لقاءي بسناء عند بوابة مخدع هاتفي وضعت يدي على يدها واتجهنا إلى منزلها المطل على البحر الهادئ.
وفي غمرة لهيب جسدها المشتعل طوقت الغرباوية ردفيها المكتنزتين بمنديل جبلي وقامت تهيئ لي كأسا من عصير الليمون.
ساعتها تناهى لسمعي طرقات خفيفة على الباب ظننت أن زميلتها عادت من العمل مبكرا، لذلك فتحت الباب بلا سؤال.
لم أكن أتوقع أن تقتحم زوجتي المنزل بقوة غريبة وتتجه مثل السهم نحو الغرباوية التي فوجئت بحنان وهي تركل باب المطبخ..
لم افلح في تلطيف الموقف ولا في وضع حد لهيجان زوجتي التي لم تترك سناء إلا وأظافرها مغروسة على وجهها.
اختفت الغرباوية عن مرتيل وبعد أكثر من سنة علمت أنها حققت حلمها وهاجرت إلى أسبانيا.
حنان أحرقت كتبي وملابسي وبعد أن أصبح الأمر مدعاة للضحك طلقتها.
ادعت إصابتي بالجنون، فأفقدتني وظيفتي وأصبحت بين الدروب عالة حتى على نفسي.
طبعا لازلت أحب أبنائي، لكن ما احتاجه فعلا هو امرأة سمراء تشبه الغرباوية تداعبني بلطف تماما كما كانت تفعل حنان بمقصف الكلية وليس أكثر.



عبد السلام دخـان.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى