فاضل السباعي - زهر العسلة.. قصة قصيرة

قالت زهرة لأخواتها:

(ما أتمنّاه أن تكون الحديقة، التي سيحملوننا إليها، مواتية لنا: شمس دافئة وهواء طلق!).

أيّدتها زهرة متفتّحة حديثاً:

(وعندئذ نُعطيهم أحسن ما عندنا من رائحة طيبة).

فاعترضت على قولها زهرة أخرى:

(أتظنّن أن حديقة بين البيوت يمكن أن يتوافر فيها، من الهواء والشمس، مثل ما لقيناه في هذا المشتل المفتوح على كلّ الجهات? نحن هنا نستمتع بـ....).

وتعذّر عليها أن تكمل عبارتها، ذلك أن عامل المشتل كان قد أطبق، بفم كمّاشته القاسي، على طرف الصفيحة، ورفعها إلى ما بين ساعديه، بجذبة قوية أفقدت الأغصان توازنها، فأخذت تترنّح مع كل خطوة يخطوها الرجل باتجاه سيّارة تنتظر إلى جانب الرصيف.

بعد أن استقرّت (الزرعة)، بصفيحتها الصدئة، في مؤخرة السيارة، واستعادت الأزهار هدوءها، عادت الزهرة الصغيرة تثرثر قائلة:

(يتحدثون عن أن أصحاب الحدائق المنزلية هم أكثر عناية بنا نحن معشر النبات، وأن المشاتل تستنبتنا هنا لتبيعنا لهم جنياً للأرباح!).

وترامى إلى أسماعهن صوت المشتري الشابّ يسأل البستانيّ، بلهجة جادّة، وهو يُشغّل محرّك سيارته:

(وهل هذه الزرعة، التي سميتها لي (زهر العسلة)، تحتاج إلى كثير من شمس الربيع? إن حديقة بيتنا لا ترى الشمس إلا خلال سويعات الظهيرة، فإن كانت أزهارك المدللة هذه، مغرمة بالشمس، فإن لك أن تتوقع أن نقتلعها من حديقتنا عمّا قريب، ونُلقي بها أعواداً يابسة على رصيف الحارة، فيحملها جامعو القمامة إلى حيث الحرق والفناء!).

***

دخل الشاب حديقة بيته بحمله الثقيل، فخرج من البيت، على الجلبة، رجل قد جلّل البياض هامته.

قال الشاب فرحاً:

(قد أتيت لك، يا أبي، هذه المرّة، بزرعة لم تدخل بيتنا قبل اليوم، اسمها (زهر العسلة)، حدّثني البستاني أن عبق زهرها سيغمر الحديقة طوال الموسم...، انظر يا أبت، إلى ما تفتّح منها، هذه الأزهار العسلية اللون، ما أجملها وأطيب رائحتها!).

استدعى كلام الابن في خاطر أبيه، أعذب ما تحمله الذاكرة من عهد الطفولة... قال:

(شُجيرة العسلة هذه، التي تأتينا بها من المشتل اليوم، يا ولدي... لتعلم أنها رافقتني في طفولتي وصباي في دارنا القديمة، كانت لنا معها حكايات لا تمحى من ذاكرة الأسرة، والآن، لنختر مكاناً في الزريعة مناسباً لها، ننزلها فيه، هناك، بقرب شجرة الكبّاد العتيقة، اسندها إلى الحائط الذي يفصل بين حديقتنا وبين الجيران، تعالي، يا أم شادي، فانظري ما أتى به ابنك من زرعة متميّزة!).

انهال شادي بالمعول على الحوض، يصطنع فيه حفرة.. ضربة، اثنتين، ثلاثاً.. وبالرفش أخذ يرفع التراب.

قال الأب:

(هل تعلم، يا بنيّ، لماذا سمّوها (زهر العسلة)?.

نزّل شادي الزرعة في الحفرة، مجرّداً إياها من الصفيحة التي تحتويها.. أجاب:

(لأن زهرها - كما أراه - بلون العسل!).

صحّح الأب:

"حين يتفتّح زهرها يكون أبيض اللون أولاً، ثم يكتسب اللون العسلي، وتزيد كثافة هذا اللون باقتراب الزهرة من نهاية عمرها).

وشعّ، في العينين المتعبتين بفعل السنين، وميض ذكرى بعيدة:

"في دارنا التي كانت، يا ولدي، كثيراً ما عمدنا - نحن الصغار - إلى تويج الزهرة هذا، الذي تراه يشبه الكأس، فنسل الخيوط منه، ونمتص ما فيها من رحيق، وكنّا - لحلاوة فيه - نظن أنه شيء من العسل!).

جمع شادي السوق الرفيعة الطالعة من الزرعة، وشدّها مع القصبة بخيط، ودفعها نحو الجدار.

"هنا موطنك الجديد، أيتها (العسلة)، التي يحبّها أبي منذ كان طفلا! فاحيي لنا ذكرياته العزيزة!).

"قال شادي ذلك، وهو يغرق بالماء تراب الزريعة.

وقبل أن ينفض يديه من العمل، استأذن والده:

"هل تسمح لي، يا أبي، أن أسل الخيوط من هذا التويج، وأمتص منها الرحيق العسلي المذاق! أم أني اليوم أكبر سنّا من أن أفعل ذلك!).

كانت الأم قد وافتهما إلى الحديقة، أبدت استحسانها بالزرعة الجديدة - القديمة، وانحنت على زهرة فيها، تشمّها وتقول:

(اللهم صلّ على النبي! يا لهذه الرائحة التي تذكّرنا بأيام الصبا!).

***

راق لزهرات العسلة ما استمعن إليه من حديث جرى بين الأب وابنه.

وأمّا العسلة - الأم، فإن قلقاً عظيماً اعتراها، فهو يسري فيها، من جذورها التي دُفنت الآن في التراب، صاعداً إلى سوقها المرهفة وإلى أغصانها! إنها تتساءل عمّا إذا كان هذا المكان، الذي أودعت فيه، مناسباً لها حقّاً? تُرى هل هنا، من الشمس الدافئة في هذا الربيع الجديد، ومن الهواء الطلق، ما يكفيها للحياة والنّماء? إن ما تخشاه أن تمنع عنها ذلك هذه التي سمّوها (شجرة الكباد العتيقة)، ذات الثمار الصفر الضخمة الخشنة الملمس، والتي تتوقع أن تمتد أغصانها نحوها، خلال الصيف الآتي، فتشكّل فوقها ما يشبه (الخيمة)! وعندئذ كيف يمكنها أن تتغذى بأشعة الشمس، وأن تتنسّم الهواء العليل?

ولكن هذه المخاوف ما كان لها أن تعيق العسلة عن التعامل مع الحياة.

أخذت الجذور تعمل، في هذا الربيع، تضرب في أعماق الأرض بحثاً عن الغذاء، ونشطت الأغصان، تنمو وتتفرّع في كل اتجاه، والبراعم تتفتّح في كل يوم، ويتبرعم منها جديد.

كان الغصن ينمو من نهايته، إنه يشبه كفّاً مبسوطة نحو السماء، وقد غمرتها البراعم، زوجين منها متجاورين فزوجين، وقد احتضنت كلّ برعم ورقة خضراء من تحته، هي له أشبه بفراش وثير.

وتتفتّق البراعم، الزوجان المتجاوران، ثم الزوجان اللذان يليانهما، وهكذا أبيضي اللون أولاً، ثم يتحوّلان إلى لون العسل.

وعند الأصيل، تتحرّك أنسام الربيع العليلة، فتحمل رائحتين معاً: الرائحة التي تفوح من زهر العسلة، وتلك التي يصدرها زهر الكبّاد، لتنشرهما في أرجاء الحديقة، ولكن هيهات ما بينهما: كان عبير العسلة أطيب وأرقّ وأكثر حناناً، إنه مدعوم من ذكريات طفولة حميمة!

ذات مساء، سمعت الأزهار الأب، وهو يتحدّث مسترسلاً في ذكرياته:

(كانت أمي، رحمها الله، تهيب بنا، ساعة الأصيل، ونحن داخل غرف الدار: (افتحوا الشبابيك، يا أولاد، حتى تدخل علينا رائحة العسلة!).

وتترنّح الأزهار طرباً، وهنّ يصغين إلى هذا الحديث العذب.. ويتهامسن:

(كم يقدّر ربّ البيت عطاءنا الطيب! يا له من رجل فهيم نبيل!).

وفي مساء آخر، سمعته يحدّث أسرته حديث علم، فيقول إن (زهر العسلة) يعد نوعاً من أنواع (الياسمين) المختلفة، التي منها (الياسمين الأبيض) المتضوّع الرائحة الذي يكثر اتخاذه في البيوت، و (الياسمين الزنبقيّ) الذي يعرف بـ (الفل)، و(ياسمين العسل) أو (زهر العسلة) هذا، الذي يسمّيه بعضهم، (ياسمين عراتلي)، لأن زهرته تشبه - في رأيهم - (العرتيلة)، أي: الرتيْلاء، وهي نوع من العناكب!!

فازددن بذلك معرفة بأصولهن، وحبّاً للرجل، وأخذن يردّدن فيما بينهن معجبات:

(يا له من رجل عالم! ما أسعدنا أن نكون في حديقة بيته!).

***

ثم كان لابد لأيام الربيع أن تنقضي، فتكفّ العسلة عن الإزهار، وتتجّه، في فصل الصيف الذي تلا، إلى أن تتفرّع أغصانها، وتنمو، وتورق.

وعندما هجم الخريف بريحه ومطره، كانت العسلة، في حوضها، لا تعدو أن تكون مجموعة من السّوق، الخشبية المظهر، الرفيعة، تستند في صمت كئيب إلى حائط الجيران، وإلاّ أغصاناً جرداء قد نضت عنها آخر ما كان يكسوها من ورق أخضر نضر.. ولكن هذه الأغصان كانت قد استطاعت أن تشرئب بقاماتها حتى عانقت أغصان شجرة الكبّاد العالية، ولامست كذلك ما تدلّى من وراء الحائط من أغصان النارنج.

إلا أن ما كان يزيد في قلق العسلة، هو ما تراه من الامتداد الواسع الذي تمادت فيه شجرة الكبّاد الضخمة، حتى أشبهت أغصانها خيمة حقيقية تُظلل ما تحتها!

وفي الشتاء، تحوّل هذا القلق إلى مخاوف شديدة استطاعت أن تتملّك قلب العسلة، وهي تتلقى البرق والرعد والرياح العاصفة، أجل، برد قارس وخوف شديد، أضيفا إلى ما تحسّه من وحشة لفراق الحبيبات، اللواتي كانت ترعاهن براعم، وتستمتع بالإصغاء إلى ثرثراتهن وهنّ زهرات، وإلى مناجاتهن القمر في ليالي الربيع.

ولكن ما كان للعسلة، المناضلة، أن تدع هذه المخاوف تنال من عزمها أو تحملها على الاستسلام! إن أغصان الكبّاد - هذا الشجر الذي يستعصي ورقه على فصلي الخريف والشتاء فلا يتساقط منه إلا بعضه - جعلتْها تعمل فكرها وتكدّ ذهنها بحثاً عن حل، إذا كان مقدّراً أن تحجب هذه الكثافة عنها الشمس في الربيع الآتي، فلم لا تسعى هي إلى حيث تنهل من أشعة الشمس? وإذا كان الهواء الطلق يمتنع عليها، وهي في هذا الظل الظليل، أفلا يتحتّم عليها أن تخرج هي إليه?

***

ثم إن الربيع أقبل يتهادى، وأخذت الطبيعة تستفيق من سُباتها، فسرى الماء في العروق، ودبّت الحياة في الأغصان، وبدأت البراعم تورق هنا وتزهر هناك، فتتلألأ الألوان، وتعبق الروائح، وتستأنف الطيور مواسم العزف والترتيل والغناء.

والعسلة.. ماذا فعلت العسلة، في هذا الربيع الجديد?

ركت سُوقها قرب الحائط جرداء من غير اخضرار، فليس لها من مهمة الآن إلا أن تدع النسغ يسري في شرايينها صاعداً إلى الأطراف، ولكنها استحثّت أغصانها على أن تزيد في امتدادها الصاعد، متسللة عبر (خيمة) الكبّاد المنصوبة فوقها، ومتسلّقة أيضاً أغصان النارنج المدلاّة.

ي سباقها مع الزمن، كانت تُهيب بأغصانها:

هيّا، يا بناتي! إن انحجبت الشمس عنّا خرجنا نحن إليها! والهواء الطلق سوف نتنسّمه وأنتنّ مضطجعات على قمم الأشجار!).

ذات يوم، مرّ شادي قرب العسلة، فلم يتبدّ له منها إلا تلك السوق النحيلة الجرداء. أعلن بنزق:

أبي! عسلتك خيّبت آمالنا! كل ما قدّمته لنا أنها تابعت الإزهار حين جئت بها من المشتل في الربيع الماضي! لم يكن البستاني مخلصاً في قوله. تبدو لي، في هذا الربيع، أعواداً يابسة، جديرة بأن أقتلعها، وألقي بها على الرصيف!).

تلفّتت عيناه تبحثان عن.. فأس!

رتعدت العسلة، وعمّها الخوف من جذورها حتى نهايات أغصانها، وهمّت بأن تصرخ بأعمق ما تملك من حبّ للحياة:

ارفع نظرك إلى أعلى، أيها الفتى المتهوّر! لسوف تُزهر براعمنا فوق القمم عمّا قريب! أتوسّل إليك، يا شادي، أن تصبر حتى بضعة أيّام!).

لكن.. واأسفاه! إن بني البشر، المغرورين، لا يفهمون لغة النبات!

جاء صوت الأب من داخل البيت، حاسماً:

(إياك أن تفعل، يا شادي! لا تخدعنّك سوقها التي تراها يابسة! لسوف تُعطي أغصانها من الزهر أضعاف ما أعطت في الربيع الماضي. إن النبات الذي اعتاد العطاء، يستحيل أن يكفّ عن عطائه، ذلك يعني له الموت.

والنبات الكريم يستميت قبل أن يُفارق الحياة!).

فتراخت يدُ الابن عن الفأس، ورماها بعيداً.

وتنفّست العسلة وبناتها الصعداء.

***

ذات مساء، نزل الأب إلى الحديقة يتنقّل في أرجائها، في عتمة الليل، إلا من ضوء القمر، المنسفح على الأشجار، والذي يتسلّل بعض ضوئه من خلال الأغصان متساقطاً على أرض الحديقة.وتوقّف قرب العسلة.

تنبّه، فجأة إلى رائحة زكية، أخذ يتشمّم بتؤدة، قصد أن يتعرّفها، هذه الرائحة، إنها رائحة العسلة ذاتها! ولكن أين هي أزهارها? ليس منها شيء في هذه السوق ولا فيما فوقها!

نظر هنا وهناك، لم يعثر على كفّ، أيّ كفّ، من زهرها الذي يعرف، لا ولا على زهرة واحدة!

دار حول المكان.. رفع ناظريه إلى أعلى.. فرأى أكفّ الزهر تُغطي قمة شجرة الكبّاد العتيقة كلّها.

تراجع قليلاً، استشرف المكان، وأرسل نظره إلى الجانب الآخر، فرأى أكفّ الزهر تغطي شجرة الجيران أيضا!

(شادي! تعال، أنت وأمّك، فانظرا أيّ عالم من الزهر، مدهش، يُجلّل قمم الأشجار، وأي رائحة!).

والعسلة، وبناتها، لمّا سمعن ذلك، دمّعت أعينهن، كانت دموع الفرح، فرح النجاة من الموت وفرح الانتصار للحياة، ودموع فرح آخر: إنهن سيتمكنّ من أن يعطين، في هذا الربيع، أزاهيرهن، بالكرم الذي يعرفه الأب جيداً!

***

وفي يوم من الأيام، يقترح شادي على أبيه أن يأذن له بتسلّق شجرتي الكبّاد والنارنج، فيعمد إلى أكفّ العسلة التي تغطّيهما، فيفكّ ارتباطها بالأغصان، وينزل بها إلى مكان أكثر قرباً من مجلس الأسرة، كي يتمتّعوا بالنظر وبالشمّ معاً.

قال الأب بحزم:

(أنت بفعلك هذا تقتلها، يا شادي! إنها إذ أخذت طريقها إلى القمة، فذلك طلباً منها لما تحتاج إليه من شمس وهواء لا يعيش نباتٌ دونهما).

***

وقد ظلّت العسلة تنمو وتزكو، ربيعاً بعد ربيع، مرسلة عطرها الذي بات يسري في كلّ مكان، فيستمتع به المقيمون قربها، مثلما يتنشّقه العابرون الدرب، فيقولون:

(اللهم صلّ على النبي! ما هذه الرائحة الزكيّة!).

ويجيب العارفون:

(إنها.. (عسلة أبي شادي)!.


فاضل السباعي
اكتوبر 2000

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى