أبى كان قوياً جداً، لأنه كان يشتغل بتحميل الجرار بالرمل بالكوريك، أو السباخ بالمقطف، وهذا العمل يحتاج لقوة بدنية، ثم إنه يظل يعمل من الفجر إلى ما بعد الظهر، ثم يعود للبيت ليأكل ويقيل ويذهب إلى الجبل بعد ذلك..
ولكنه كان يخاف جدا من الليل، وكان يصاب بالذعر والهلع لو انطفأ نور الكهرباء فجأة فينادي، الكبريت، الكبريت فين يا أم سعيد؟ وأنا وأمي نضحك، فيردد يخرب بيت أبوكم يخرب بيت أبوكم، كان أبى سريع الكلام، فكان من يتحدث معه لأول مرة، يطلب منه أن يعيد الكلام مرة ثانية، والبعض كان يسخر من أبى مردداً جملة الفنان حسن مصطفى لعبد الله فرغلى فى مسرحية مدرسة المشاغبين، المدرس علام "حبه، حبه علي يا علام" أو انجليزي ده يا مرسي، ولم نعرف السبب لهذا الخوف الذي جعله مثاراً لسخرية أهل البلدة.
وقد تسلط عليه حمزة أبو حامض، فيتعقب أبى فى صلاة الفجر، وبعصا صغيرة يأتى من ورائه ويمرره على أذنه، فيستعيذ أبى من الشيطان الرجيم بآيات الذكر الحكيم، أو يدخل فى شوال ويتمرغ أمام أبى فى الطريق فيفزع ويجري صارخاً حتى توقف عن صلاة الفجر فى الجامع وكان عدم ذهاب أبى لصلاة الفجر فاجعة مريرة، فكان قلبه معلقاً بصلاة الفجر فى الجامع ولذلك كان يهتف بالدعاء أن يغفر له ربنا هذا الضعف الذي أعجزه عن إقامة الفرض.
كان أبى يشقى فى الحياة لأن أمي أنجبت له 6 أولاد فوق بعض، ولم يكن لدينا دخل سوى من ذراعه قطعة أرض فى حدود سبعة قراريط فى الجبل يرويها بجوز الصفيح معلق بهم خشبة ويرفعهم على كتفه من بئر فحره فى منطقة منخفضة بمساعدة أصدقائه طوال ثلاثة "عصارى" وكان يزرعها خضارا، طماطم، وبسلة، وخيارا، وكان بها ثلاث نخلات تعطى أجمل وأطعم بلح، واحدة خضراوي، بلحتها طويلة، والثانية صفراوي بلحتها صغيرة مسكرة والثالثة حمراء بلحتها طويلة.
كان أبى يصحو من النوم قبل العصر، ويذهب للجبل، ليصل مع أذان العصر فيصلي ويظل باقى النهار هناك يروي شتلات الطماطم بالجوز الصفيح أو يملح الأرض أو ينتقى الحشائش النامية بجوار جذر العرش وعندما يستريح يقعد تحت ظلها ويجمع البلح الساقط، ويجلس بينها، النخلات مثلث والطراوة تغربل تحتهم، وأبى من التعب يغط فى نوم عميق وعندما يقوم ينظر حوله لا يجد أحدا، فقد كان هو الوحيد الذى استطاع أن يزرع مساحته وسط الصحراء الخالية من الزرع والبشر ولم يكن يؤنسه شيء وبرغم ذلك لم يكن يخاف من الصحراء فلا شيء مؤذيا فيها حتى الثعابين غير سامة فيها، هذه المعلومة عرفها من صائد للثعابين، مر عليه يحمل كيساً على كتفه، وعندما رأي أبي رمي عليه السلام:
- السلام عليكم يا حاج! قام أبى على ركبته وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته، تفضل الشاي على النار.
الرجل كان قد حود عليه بالفعل، قام أبى ورحب به فى تهليل وصنع له أحلى كوب شاي كما قال الصياد، وتسامرا وتعارفا وضحكا حتى أن أبى كانت عيناه تدمعان، على أحوال الدنيا وعندما قام ليعود لبلده قال أبى:
كل ما تيجي أبقى حود، قال لأبى وعلى وجهه علامات القرف، المنطقة دي الثعابين من النوع "الحبل أحسن منها" أنا أبحث عن مناطق يكون فيها الزواحف لها قيمة، الواحد يعمل حسابها، ويحس أنه صياد بجد، له قيمته جنب الصيادين الكبار، أما الثعابين الموجودة هنا، فالعيال تقعد تلعب معها، سلام يا حاج.
تشحب الشمس وتتكاثف الظلال، ويصفر الجريد من الريح، وتتمايل النخيل كأنها ستسقط، يتوتر، يتوقف عن العمل، يردد "سرقنا الوقت" ويضع عدة الشاي فى الغاب النامي على البئر الذي ينزح منه الماء، تنق الضفدع، ويهتز الغاب، يسرع فى التقاط الجلابية ويضع المداس تحت باطه والمقطف بالبلح فى يده ويسرع عائدا للبيت.
2
لا يعود أبى للبيت دون أن يكون فى المقطف شيء: خيار، بطيخ، شمام، فى كل موسم يهل علينا، بالمقطف مليان، وعندما ينقطع فترة دون أن ياتى بشيء، كنا نغضب ولا نبالي بعودته، وفجأة يخرج من المقطف الثمار، فنعود ننتظر المقطف العامر بالخير مرة أخري، نهلل للبشائر ونتذوق طعمها المسكر فى الفم ونستحلب البلح كأنه مصاصة، ونأخذ أنا وأخوتي نتجاذب المقطف، وكل منا يحاول أن يلتقط منه أكبر عدد من الثمار، وعندما يعود بثمار محدودة نعرف أنه مر على أخته فنغتاظ..
وفى يوم وجدنا الجرار يصلح، فى أرض جارنا، ثم آخر يأتى بالبلدوزر، ليصلح أرضه، وبدأ الأهالي فى غزو الصحراء ودق المواسير فى جوف الأرض وشراء المكن وبدأت الناس تزيد من حولنا، وفرحنا بالعمار والونس، الذي يحيطنا، وبدأ الزرع يحيط بنا والجنائن تثمر، وبدا يتغير الحال ويذهب أبى يجد أقداماً مطبوعة فى قلب خطوط الخيار أو الطماطم أو الفول الحراتى، ابتأس خاصة أن المحصول بدأ يقل بشكل مذهل وفى نهاية المحصول عندما يحسب المصاريف لا يجدها قد أتت بما يكفي، كل يوم الأقدام تزيد والحمير تطلق فى الزرع وشيء غريب وعندما يذهب لا يجد أحدا ولا يقترب منه أحد ليطلب منه ثمرة طماطم ولم يكن متأكدا أن الجيران يفعلون ذلك خاصة أنهم مؤدبون ومطبوع على وجوههم الطيبة والإخلاص..
وبرغم ذلك لم يجرؤ على حراسة الأرض، لم يجرؤ أن يموه ويتخابث ويشعل نارا وكأنه سيبيت حارساً للزرع من أولاد الحرام، ويظل فترة فى الليل وينسلت ويعود، لكن عندما تشحب الشمس، يحمل ما يجمع وينطلق عائدا للبيت وفى النهاية طبع أبى أرضه مع الجيران فلم يعد يزرع خضارا، أحضر شتلات البرتقال وزرعها واختفى المقطف والفواكه والخضار، واحتمل سنوات لا يفعل شيئا حتى أثمرت ولم يعد أحد يسرق من أرضه سوي النخلات وكلما نضج بلح يأتى اليوم التالي ليجده قد تم جنيها، وكلما اغتاظ وأخذ يشكي لأمي تقول له: اعتبرهم زكاة على الأولاد، يمكن ربنا يطرح فيهم البركة، لكن دا غصب يا ولية، تقول أمي: آدي الله ودي حكمته لو في أيدك شيء أعمله، يا سيدي اللى يجي لك غصب عده جوده، يكظم أبى غيظه وهو يشعر بألم ممض وكأن سكينا تخز لحمه، ثم يقول "طيب يتركوا للأولاد شوي، يعني عندي البلح ويتمتع بيه ولاد الناس، وأولادي محرومون ودا يرضي ربنا، ترد أمى: أنت فاكر ربك يسيب شيء ولو كان ساب كان ساب الدم يخلط على اللبن، دي نار تنزل الجوف تهريه؟ وحّد ربك، انصاع أبى وسكت وكلما ذهب يجد النخلات يتمايلن فارغات من البلح وكأنها عواقر، فيشعر بالحسرة، وينسي مع الأيام..
وعندما تمر السنة وتطرح النخلات ينسي حزنه على الموسم الفائت، والذي سرق منه ويمني نفسه بالتلذذ بأكل البلح، وكان يتخيل نفسه وهو يأكل فيشعر بالسعادة، وعندما نضج البلح ولم يسرق قال: مازال الخير عامراً فى قلوب الناس، أكيد من قام بسرقة النخلات عيل قليل الدين، وربنا شل يده أو تاب عليه ربنا، حد عارف، أحضر البلطة، وذهب لحمدان الجمال لكى يمر عليه ويحمل الصبائط، مر عليه بعد صلاة العصر وركبت الجمل وراء حمدان والجمل يهتز حتى نمت وكده أسقط من فوقه لولا أن يد حمدان جذبتني وقرص وركي قرصه جابت دماً، وأخذت أبكى، وأمى قالت: الله يخرب بيت اللى جابوك يا حمدان، ويعني يا أم سعيد لو يقع من على الجمل مش أتحمل مسئوليته؟ وأروح فى سين وجيم، وكيف ولماذا؟
معاك حق بس مش بالشكل ده، دا الواد فرفر فى يدك. حاول حمدان يسترضيني ولكنى ضربت يده وزدت فى البكاء وصلنا الجبل وجدنا النخلات خاليات من البلح، برك أبى على الرمل ووضع رأسه على ركبته ويده على رأسه وظل صامتاً، سحبنى حمدان وراءه وأنزلني من على الجمل وكنت خائفا ولكن وجدتني ساقطا على الأرض، أدار حمدان الجمل وقال: سلام، وأخذ يضرب الجمل الذي يصدر رغاء، وحمدان لا يبالى، حتى اختفى بين أشجار البرتقال.
بعد فترة قام أبى وجر البلطة واقترب من الخضراوي وضرب، ضرب، يضرب بقوة، وأمي تردد "بلاش، بلاش يا خويا بتر روح غدر حسابها عسير عند ربنا فى الدنيا وَالآخِرة، لم يأبه وواصل، غاضباً يضرب بعنفٍ لم أره هكذا أبداً، يكيدونني بمالي، يكيدونني بتعبي وشقاي، العرق يسيل على وجهه، وأخي لا مبالٍ يشد بالحبل المعلق فى عنق النخلة لكى يسقطها والغل يبين على وجهه، البلطة تخرط جذع النخلة وتطقطق، والعرق يغمر أبى، وقد تبلل ظهره، وان أنصت لصوت يشبه الأنين يصدر لا أعرف من أين؟ من النخلة أو أبى؟
ولكنه كان يخاف جدا من الليل، وكان يصاب بالذعر والهلع لو انطفأ نور الكهرباء فجأة فينادي، الكبريت، الكبريت فين يا أم سعيد؟ وأنا وأمي نضحك، فيردد يخرب بيت أبوكم يخرب بيت أبوكم، كان أبى سريع الكلام، فكان من يتحدث معه لأول مرة، يطلب منه أن يعيد الكلام مرة ثانية، والبعض كان يسخر من أبى مردداً جملة الفنان حسن مصطفى لعبد الله فرغلى فى مسرحية مدرسة المشاغبين، المدرس علام "حبه، حبه علي يا علام" أو انجليزي ده يا مرسي، ولم نعرف السبب لهذا الخوف الذي جعله مثاراً لسخرية أهل البلدة.
وقد تسلط عليه حمزة أبو حامض، فيتعقب أبى فى صلاة الفجر، وبعصا صغيرة يأتى من ورائه ويمرره على أذنه، فيستعيذ أبى من الشيطان الرجيم بآيات الذكر الحكيم، أو يدخل فى شوال ويتمرغ أمام أبى فى الطريق فيفزع ويجري صارخاً حتى توقف عن صلاة الفجر فى الجامع وكان عدم ذهاب أبى لصلاة الفجر فاجعة مريرة، فكان قلبه معلقاً بصلاة الفجر فى الجامع ولذلك كان يهتف بالدعاء أن يغفر له ربنا هذا الضعف الذي أعجزه عن إقامة الفرض.
كان أبى يشقى فى الحياة لأن أمي أنجبت له 6 أولاد فوق بعض، ولم يكن لدينا دخل سوى من ذراعه قطعة أرض فى حدود سبعة قراريط فى الجبل يرويها بجوز الصفيح معلق بهم خشبة ويرفعهم على كتفه من بئر فحره فى منطقة منخفضة بمساعدة أصدقائه طوال ثلاثة "عصارى" وكان يزرعها خضارا، طماطم، وبسلة، وخيارا، وكان بها ثلاث نخلات تعطى أجمل وأطعم بلح، واحدة خضراوي، بلحتها طويلة، والثانية صفراوي بلحتها صغيرة مسكرة والثالثة حمراء بلحتها طويلة.
كان أبى يصحو من النوم قبل العصر، ويذهب للجبل، ليصل مع أذان العصر فيصلي ويظل باقى النهار هناك يروي شتلات الطماطم بالجوز الصفيح أو يملح الأرض أو ينتقى الحشائش النامية بجوار جذر العرش وعندما يستريح يقعد تحت ظلها ويجمع البلح الساقط، ويجلس بينها، النخلات مثلث والطراوة تغربل تحتهم، وأبى من التعب يغط فى نوم عميق وعندما يقوم ينظر حوله لا يجد أحدا، فقد كان هو الوحيد الذى استطاع أن يزرع مساحته وسط الصحراء الخالية من الزرع والبشر ولم يكن يؤنسه شيء وبرغم ذلك لم يكن يخاف من الصحراء فلا شيء مؤذيا فيها حتى الثعابين غير سامة فيها، هذه المعلومة عرفها من صائد للثعابين، مر عليه يحمل كيساً على كتفه، وعندما رأي أبي رمي عليه السلام:
- السلام عليكم يا حاج! قام أبى على ركبته وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته، تفضل الشاي على النار.
الرجل كان قد حود عليه بالفعل، قام أبى ورحب به فى تهليل وصنع له أحلى كوب شاي كما قال الصياد، وتسامرا وتعارفا وضحكا حتى أن أبى كانت عيناه تدمعان، على أحوال الدنيا وعندما قام ليعود لبلده قال أبى:
كل ما تيجي أبقى حود، قال لأبى وعلى وجهه علامات القرف، المنطقة دي الثعابين من النوع "الحبل أحسن منها" أنا أبحث عن مناطق يكون فيها الزواحف لها قيمة، الواحد يعمل حسابها، ويحس أنه صياد بجد، له قيمته جنب الصيادين الكبار، أما الثعابين الموجودة هنا، فالعيال تقعد تلعب معها، سلام يا حاج.
تشحب الشمس وتتكاثف الظلال، ويصفر الجريد من الريح، وتتمايل النخيل كأنها ستسقط، يتوتر، يتوقف عن العمل، يردد "سرقنا الوقت" ويضع عدة الشاي فى الغاب النامي على البئر الذي ينزح منه الماء، تنق الضفدع، ويهتز الغاب، يسرع فى التقاط الجلابية ويضع المداس تحت باطه والمقطف بالبلح فى يده ويسرع عائدا للبيت.
2
لا يعود أبى للبيت دون أن يكون فى المقطف شيء: خيار، بطيخ، شمام، فى كل موسم يهل علينا، بالمقطف مليان، وعندما ينقطع فترة دون أن ياتى بشيء، كنا نغضب ولا نبالي بعودته، وفجأة يخرج من المقطف الثمار، فنعود ننتظر المقطف العامر بالخير مرة أخري، نهلل للبشائر ونتذوق طعمها المسكر فى الفم ونستحلب البلح كأنه مصاصة، ونأخذ أنا وأخوتي نتجاذب المقطف، وكل منا يحاول أن يلتقط منه أكبر عدد من الثمار، وعندما يعود بثمار محدودة نعرف أنه مر على أخته فنغتاظ..
وفى يوم وجدنا الجرار يصلح، فى أرض جارنا، ثم آخر يأتى بالبلدوزر، ليصلح أرضه، وبدأ الأهالي فى غزو الصحراء ودق المواسير فى جوف الأرض وشراء المكن وبدأت الناس تزيد من حولنا، وفرحنا بالعمار والونس، الذي يحيطنا، وبدأ الزرع يحيط بنا والجنائن تثمر، وبدا يتغير الحال ويذهب أبى يجد أقداماً مطبوعة فى قلب خطوط الخيار أو الطماطم أو الفول الحراتى، ابتأس خاصة أن المحصول بدأ يقل بشكل مذهل وفى نهاية المحصول عندما يحسب المصاريف لا يجدها قد أتت بما يكفي، كل يوم الأقدام تزيد والحمير تطلق فى الزرع وشيء غريب وعندما يذهب لا يجد أحدا ولا يقترب منه أحد ليطلب منه ثمرة طماطم ولم يكن متأكدا أن الجيران يفعلون ذلك خاصة أنهم مؤدبون ومطبوع على وجوههم الطيبة والإخلاص..
وبرغم ذلك لم يجرؤ على حراسة الأرض، لم يجرؤ أن يموه ويتخابث ويشعل نارا وكأنه سيبيت حارساً للزرع من أولاد الحرام، ويظل فترة فى الليل وينسلت ويعود، لكن عندما تشحب الشمس، يحمل ما يجمع وينطلق عائدا للبيت وفى النهاية طبع أبى أرضه مع الجيران فلم يعد يزرع خضارا، أحضر شتلات البرتقال وزرعها واختفى المقطف والفواكه والخضار، واحتمل سنوات لا يفعل شيئا حتى أثمرت ولم يعد أحد يسرق من أرضه سوي النخلات وكلما نضج بلح يأتى اليوم التالي ليجده قد تم جنيها، وكلما اغتاظ وأخذ يشكي لأمي تقول له: اعتبرهم زكاة على الأولاد، يمكن ربنا يطرح فيهم البركة، لكن دا غصب يا ولية، تقول أمي: آدي الله ودي حكمته لو في أيدك شيء أعمله، يا سيدي اللى يجي لك غصب عده جوده، يكظم أبى غيظه وهو يشعر بألم ممض وكأن سكينا تخز لحمه، ثم يقول "طيب يتركوا للأولاد شوي، يعني عندي البلح ويتمتع بيه ولاد الناس، وأولادي محرومون ودا يرضي ربنا، ترد أمى: أنت فاكر ربك يسيب شيء ولو كان ساب كان ساب الدم يخلط على اللبن، دي نار تنزل الجوف تهريه؟ وحّد ربك، انصاع أبى وسكت وكلما ذهب يجد النخلات يتمايلن فارغات من البلح وكأنها عواقر، فيشعر بالحسرة، وينسي مع الأيام..
وعندما تمر السنة وتطرح النخلات ينسي حزنه على الموسم الفائت، والذي سرق منه ويمني نفسه بالتلذذ بأكل البلح، وكان يتخيل نفسه وهو يأكل فيشعر بالسعادة، وعندما نضج البلح ولم يسرق قال: مازال الخير عامراً فى قلوب الناس، أكيد من قام بسرقة النخلات عيل قليل الدين، وربنا شل يده أو تاب عليه ربنا، حد عارف، أحضر البلطة، وذهب لحمدان الجمال لكى يمر عليه ويحمل الصبائط، مر عليه بعد صلاة العصر وركبت الجمل وراء حمدان والجمل يهتز حتى نمت وكده أسقط من فوقه لولا أن يد حمدان جذبتني وقرص وركي قرصه جابت دماً، وأخذت أبكى، وأمى قالت: الله يخرب بيت اللى جابوك يا حمدان، ويعني يا أم سعيد لو يقع من على الجمل مش أتحمل مسئوليته؟ وأروح فى سين وجيم، وكيف ولماذا؟
معاك حق بس مش بالشكل ده، دا الواد فرفر فى يدك. حاول حمدان يسترضيني ولكنى ضربت يده وزدت فى البكاء وصلنا الجبل وجدنا النخلات خاليات من البلح، برك أبى على الرمل ووضع رأسه على ركبته ويده على رأسه وظل صامتاً، سحبنى حمدان وراءه وأنزلني من على الجمل وكنت خائفا ولكن وجدتني ساقطا على الأرض، أدار حمدان الجمل وقال: سلام، وأخذ يضرب الجمل الذي يصدر رغاء، وحمدان لا يبالى، حتى اختفى بين أشجار البرتقال.
بعد فترة قام أبى وجر البلطة واقترب من الخضراوي وضرب، ضرب، يضرب بقوة، وأمي تردد "بلاش، بلاش يا خويا بتر روح غدر حسابها عسير عند ربنا فى الدنيا وَالآخِرة، لم يأبه وواصل، غاضباً يضرب بعنفٍ لم أره هكذا أبداً، يكيدونني بمالي، يكيدونني بتعبي وشقاي، العرق يسيل على وجهه، وأخي لا مبالٍ يشد بالحبل المعلق فى عنق النخلة لكى يسقطها والغل يبين على وجهه، البلطة تخرط جذع النخلة وتطقطق، والعرق يغمر أبى، وقد تبلل ظهره، وان أنصت لصوت يشبه الأنين يصدر لا أعرف من أين؟ من النخلة أو أبى؟